تطورات خطيرة يشهدها المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، لاسيما في تدهور منظومة القيم لديه، وهو ما حذرت منه دراسة سابقة بعنوان: «الثقافة ومنظومات القيم في مصر خلال ثلاثين عامًا»، إلا أن أحدًا لم يأخذ مثل هذه الدراسات على محمل الجد.
وقد أدت الأحداث السياسية في مصر مؤخرًا إلى غياب وتغييب الكثير من المصلحين والدعاة والتربويين وقادة الرأي؛ مما أدى إلى تسارع معدلات التدهور.
وفي هذه الدراسة بعنوان: «الأسرة المأزومة على حافة العنف»، يقدم الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر بمصر، روشتة سريعة حول مظاهر خطورة الظاهرة وسبل علاجها.
العنف الأسري اللامعقول
أب يضرب ابنه بخرطوم الغسّالة حتى الموت. زوج يقتل زوجته ويضع السم لأبنائه الأربعة؛ فيموت اثنان وينجو اثنان بأعجوبة. أب يعلق طفليه في السقف ويضربهما؛ فيموت أحدهما تحت التعذيب، وينجو الآخر في اللحظات الأخيرة ليحكي ما حدث. أب يقتل بناته الخمسة وتنجو منه واحدة؛ بسبب خلافات مع زوجته. مهندس يقتل زوجته وابنه وابنته ببلطة وسكين مشرشرة؛ خشية الفقر والاحتياج. امرأة تقتل طفلها لأنه رآها في أحضان عشيقها ...الخ.
حوادث بشعة، تجاوز فيها العنف السقف المتوقع في السلوك الإنساني، خاصة داخل الأسرة، فالأب والأم يُتوقع منهما الحب لأبنائهما ورعايتهما وحمايتهما من أي خطر وسوء، فهاهما يصبحان أكبر خطر يهدد أبنائهما، وقديمًا كنا نستبعد أن يكون الأب القاتل لأبنائه أو الأم القاتلة لأبنائها في حالةِ سواءٍ نفسي، وكنا نطالب بعرضهم على التقييم النفسي المتخصص، إذ لا يُتصور من العلاقة الوالدية في حدودها الطبيعية أن تصل إلى قتل الابن أو الابنة، حيث ثمة عتبة من القسوة يجب الوصول إليها لتتجاوز كل عتبات الحب والرعاية الوالدية. وبعبارة أخرى فقد دخلت مصر في نطاق القتل اللامعقول للأطفال والكبار داخل الأسرة الواحدة، وإذا كنا في الماضي نتحدث عن عقوق الأبناء للآباء والأمهات، فنحن اليوم نتحدث عن جحود وقسوة ووحشية الآباء والأمهات.
وتتلاحق جرائم قتل الأطفال خلال 24 ساعة رابع أيام عيد الأضحى 2018، لتسجل على الأقل ثلاث جرائم قتل وتعذيب، ودوافعها كالتالي: أب عمره 40 عامًا، مقيم بقرية في الغربية، يضرب ابنته البالغة من العمر 13 سنة بمساعدة زوجته الثانية، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، ووضعوها في جوال بمنور المنزل وتركوها حتى تعفنت، وعللا ذلك بكثرة هروبها من المنزل. أبٌ عمره 38 عامًا، مقيم في طنطا، تركته زوجته بسبب خلافات زوجية لعدم قدرة الزوج على الإنفاق على الأسرة، وذهبت لتعيش مع أسرتها في دمياط، وقد ذهب الزوج لاستعادتها، وحين فشل في ذلك ذبح طفله بدم بارد، وادّعى بأنه كان يعتقد بأن الذي كان يجلس بجواره في وسائل المواصلات زوجته وليس ابنه. وفي الدقهلية وصل طفل عمره 5 سنوات إلى المستشفى في حالة إعياء شديد، وفي جسده آثار تعذيب وكي بالنار وإطفاء سجائر في جسمه، وقد تم هذا التعذيب على يد والدته البالغة من العمر 40 عامًا، وأخته 18 عامًا، وخطيب أخته، وذلك لأن الطفل شاهد أخته وخطيبها في أوضاع مخلة بالآداب، فخشوا أن يُفشي هذا الأمر لوالده (نُشر في موقع اليوم السابع، يوم 25 أغسطس). وشهدت محافظة قنا يوم وقفة عيد الأضحى 2018 مذبحةً بشرية بعد أن أقدم رب أسرة على قتل 7 من أفراد أسرته: زوجته، وشقيقته، وخمسة من أبنائه؛ بإطلاق النار عليهم بكثافة، ليتحول المنزل إلى نهر من الدماء، وبعده بساعات قتل شاب والدته الستينية زاعمًا أن قتلها كان بداعي الشرف، بعد مواظبة والدته على إجراء مكالمات هاتفية مع بعض الشباب.
وتكررت هذه الأحداث بكثرة في السنوات الأخيرة، وفي الشهور الأخيرة، وانفجارها في الأيام الأخيرة يوحي بأن ثمة زلزال يهدد الكيان الأسري في مصر، وأن الأسرة المصرية مأزومة بدرجة تدعو إلى القلق، وأن حالة التأزم هذه تضع الوالدين (وخاصة الأب) على حافة العنف، وليس فقط العنف بل العنف المفرط في القسوة، فما هي إذن معالم وأسباب هذه الأزمة الأسرية.
أسباب العنف الأسري
قد يصبح من التبسيط المخل تفسير كل الحالات بناءًا على عامل واحد مهما تكن قوته، ولذلك من المنطقي أن نفكر بطريقة العوامل المتعددة والمتضافرة والتي تضع الأب أو الأم في حالة إحباط أو غضب شديد، يفجر في داخله (أو داخلها) كمًا من العنف والقسوة يكفي لإزهاق روح أعز الناس عليه (أو عليها) بطرق بشعة. ومن استعراض الحوادث الأخيرة نستطيع الوصول إلى الأسباب التالية لهذا العنف الأسري المفرط:
1- الأزمة الاقتصادية المتصاعدة: فغلاء الأسعار المتسارع والمستمر، وأحيانًا المفاجئ، يجعل الأبناء يشكلون عبئًا يضع الآباء والأمهات في حالة تناقض وجداني بين محبتهم لأبنائهم ومعاناتهم من ضغوط رعايتهم التي تفوق قدراتهم على التكيف مع الظروف الصعبة. كما أن الصعوبات الاقتصادية تجعل الأشخاص في حالة توتر شديد وقابلية للانفجار في أي لحظة، وهذا الانفجار يحدث تجاه الحلقة الأضعف وهي الأطفال.
2- اضطراب العلاقات داخل الأسرة: فلم تعد الأسرة متناغمة ومتحابة كما كانت، فالزوجان في خلافات وصراعات دائمة، وهما في حالة طلاق عاطفي في كثير من الأحيان، ويكملان حياتهما الزوجية فقط بسبب وجود الأطفال بينهما، وهنا يصبح وجود الأطفال سببًا في استمرار علاقة مرفوضة أو علاقة اضطرارية، وهنا تظهر المشاعر السلبية تجاه الأطفال كسبب للمعاناة المستمرة، كما أن الروابط الوجدانية لم تعد قوية في زمن انشغلت فيه الأم عن أبنائها بمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي، وانشغل الأب بالبحث عن الرزق ليلًا ونهارًا؛ ليغطي متطلبات الحياة المتزايدة، وانشغل الأبناء بالجلوس على الإنترنت ليلًا نهارًا ولم تعد أعينهم ترتفع عن شاشة الموبايل أو اللابتوب أو الآي باد أو التاب أو حتى يفكرون بالخروج مع أصحابهم. واضطرب الميزان التربوي حيث تدخلت وسائل الاتصال الحديثة في ترسيخ ثقافات غريبة على النظام التربوي، مما أحدث حالة من الغربة بين الآباء والأبناء.
3- تعاطي المخدرات بنوعيها التقليدية والتخليقية: والتي أصبحت تنتشر بين الكثير من الناس بشكل وبائي أدى إلى تغييرٍ في المشاعر والانفعالات والأفكار، وشُوِّهت الخريطة المُخِّيَّة بما يسمح بصدور تصرفات شاذة وغير متوقعة من البشر في أحوالهم العادية، فكثيرون ممن يتعاطون المخدرات يصابون بحالات من الشك المرضي في زوجاتهم وفي نسب أبنائهم، ويتصرفون باندفاعات انفعالية أشبه بالانفجارات الخارجة عن السيطرة.
4- إزاحة العنف نحو الحلقة الأضعف: بمعنى أن الأب مثلًا يكون واقعًا تحت ضغط رؤسائه في العمل، أو ضغط زوجته، أو ضغط الظروف الاقتصادية، أو ضغط العمل الشاق المتواصل، أو صراعات في العلاقات، كل هذا وهو لا يجد منصرفًا نحو المصدر الأصلي للضغط أو القهر، وهنا يتم إزاحة مشاعر الإحباط والغضب والعنف نحو الحلقة الأضعف وهي الأطفال.
5- اضطرابات النوم: وذلك بسبب ساعات العمل الطويلة للأب، والأدوار المتعددة المرهقة للأم، وقضاء أوقات طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي أو التليفزيون لأوقات متأخرة من الليل، وهكذا يُرى كثيرٌ من الناس في حالة إرهاق وتوتر شديدين بسبب قلة ساعات النوم، ويصبح الشخص في هذه الحالة على حافة العنف، فينفجر في أي شخص يسبب له توترًا.
6- الاضطرابات النفسية: تلك التي تصيب أفراد الأسرة، مع ضعف الوعي بها وبإمكانية علاجها، حتى تتفاقم وتصل إلى درجة تؤدي إلى اضطرابات في الإدراك والتفكير والانفعالات، فتسهل عملية القتل وخاصة القتل اللامعقول أو اللامتوقع.
7- ضعف القدرات التربوية للأسرة: مما يضع الأب أو الأم في أزمة حين لا يستطيعان السيطرة على سلوكيات الابن أو الابنة، فيشعران بالفشل والإحباط، فينفجر العنف بداخلهما تجاهه (أو تجاهها)، فيمارسان الضرب والتعذيب بديلًا للتربية التي فشلا فيها.
8- انتشار ثقافة العنف في المجتمع: وذلك عبر وسائل الإعلام، ومن خلال الأعمال الدرامية المليئة بالقسوة والكراهية والعنف والتدمير.
9- الاستهانة بحقوق الإنسان: الحقوق العامة، والاستهانة بحقوق الطفل بوجه خاص.
10- ضعف القدرة على حل الخلافات الأسرية: خاصة حين غابت الطرق القديمة لذلك، مثل الجلسات العرفية وتدخل الحكماء من الأهل أو الجيران، وفي نفس الوقت لا تتوفر الوسائل الحديثة في المجتمع، مثل مكاتب وعيادات ومراكز الاستشارات وحل المشكلات الزواجية والأسرية.
11- غياب أو ضعف المؤسسات الاجتماعية المعنية بأمر الأسرة: وبتمكينها من أداء وظائفها تجاه أفرادها، والوقوف بجانبها في أوقات الصراعات أو الأزمات.
12- البيئة المصرية المضطربة: وذلك بسبب الزحام، والعشوائيات، والتلوث السمعي والبصري والأخلاقي.
توصيات للحل والعلاج
1- تفعيل برامج وسياسات الرعاية الاجتماعية؛ للتخفيف من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
2- تفعيل المؤسسات الاجتماعية التي ترعى شئون الأسرة، ومنحها الإمكانات المادية والفنية التي تمكنها من أداء دورها في مساعدة الأسر المأزومة أو المضطربة.
3- التوعية بالأمراض النفسية، وبمشكلات تعاطي المخدرات، وتوفير سبل الوقاية وأماكن العلاج، حيث يوجد نقص وخلل شديدين في هذا الشأن.
4- تنقية المواد الإعلامية من مظاهر العنف اللفظي والجسدي، والإرتقاء بالرسالة الإعلامية لتؤدي وظيفتها بشكل راقٍ، بعيدًا عن دعوات العنصرية والتحريض والاستقطاب والكراهية والتهميش بين فئات المجتمع.
5- الإصلاح السياسي والاقتصادي: وذلك من خلال فتح آفاق المشاركة السياسية، وفتح مجالات الإنتاج والإبداع الاقتصادي، وتوفير فرص العمل، وتخفيف حالة التأزم العام التي يشعر بها الناس.
6- تحسين ظروف البيئة: من خلال خفض معدلات التكدس السكاني، والزحام، والتلوث السمعي والبصري والأخلاقي.
7- إصلاح التعليم الذي يرتقي بوعي الناس، ويمنحهم قدرات وملكات تعينهم على حل المشكلات بالعقل والمنطق، دون الحاجة للعنف المفرط.
8- الدراسة النفسية والاجتماعية المتعمقة لكل حوادث العنف، خاصة العنف الأسري والعنف الموجه نحو الأطفال؛ للخروج بتوصيات نوعية مبنية على معرفة الأسباب الحقيقية وراء الجريمة، ويتم ذلك بواسطة خبراء متخصصون في علم النفس والاجتماع.
9- ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وتطبيقها عمليًا، وأن تكون أجهزة الدولة (السياسية والأمنية والصحية والاجتماعية والتربوية) قدوةً للجميع في احترام حقوق الإنسان ورعايته، والحفاظ على سلامته وكرامته وحياته، وتوفير احتياجاته الأساسية.
10- بث الوعي الديني، من خلال المؤسسات الدينية، وخاصة في مجال العلاقات الأسرية والحقوق والواجبات بين أفراد الأسرة، وقواعد التعامل بين الآباء والأبناء.
.