الابتلاء سنة إلهية لا بد منها، والمصائب والبلاء التي تحدث للعبد هي امتحانٌ له، وهي في الغالب علامة حب من الله له؛ ففي الحديث الصحيح: (إنَّ عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي (2396).
ونزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبـــه حتى يوافيه به يوم القيامة) رواه الترمذي (2396).
وقد ردت كلمة الابتلاء ومشتقاتها في القرآن سبعًا وثلاثين مرة، وهي من المفردات التي يكثر تداولها في أدبيات كتب التفسير والتاريخ والسير ونحوها.
والبلاء يكون في الخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، قول الحسن البصري رحمه الله: لا تكرهوا البلايا الواقعة، والنقمات الحادثة، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره فيه عطبك – أي: هلاكك.
والابتلاء والتمحيص قد لا يصيب الفرد فقط بل ربما يصيب أمة كاملة، وأهم أسباب ابتلاء الأمم في النقاط الخمس التالية:
- يصيب اللهُ –جل وعلا– الأمم المسلمة بما يصيبها بسببِ ذنوبها: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ (الشورى: 30).
- ويصيب الأُمم غير المسلمةِ بما يصيبها؛ عقوبةً لما هي عليه من مخالفةٍ لأمرِ الله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 40).
- تُصاب الأمة بأن يبتلها اللهُ بالتفرقِ فِرقًا، وأن تكون أحزابا وشِيعا؛ لأنها تركتْ أمر الله –جل وعلا: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (المائدة: 14).
- تُصاب الأمم بالابتلاء بسببِ بغْيِ بعضِهم على بعضٍ، وعدمِ رجوعِهم إلى العلمِ العظيمِ الذي أنزله الله، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (آل عمران: 19)، وقال سبحانه: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ (البينة: 4).
- يصاب قوم بالابتلاءِ بسببِ وجودِ زيغٍ في قلوبهم، فَيتَّبِعون المتشابِه. قال اللهُ -جل وعلا- في شأنهم: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ (آل عمران: 7).
يقول ابن القيم: يقول: «من رحمته سبحانه بعباده ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي، رحمة لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها؛ لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
الابتلاء التربوي
الابتلاء ليس كله شر لكنه في كثير من الأحيان يكون منهجا تربويا يربي الفرد والمجتمع ويدفعهم للرجوع إلى الله سبحانه، فالابتلاء يعد بحق مدرسة تربوية متكاملة – كما جاء في القرآن - قد احتوت كامل أبعاد مثلث عملية التربية: وقايةً وإعدادًا - وبناء وتوجيهًا – ومحاسبةً وتقويمًا.
ويؤكد الشهيد سيد قطب في كتابه الظلال ذلك بقوله: «وما بالله –حاشا الله– أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فالأمة في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق».
فيقول الله سبحانه في معاني الابتلاء التربوي: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143)، ففي هذه الآية تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة.
فقد وجه الله – سبحانه - المسلمين إلى كيفية التصرف حين حدوث الابتلاء، إذ أرشدهم إلى الصبر، ففي آية البقرة نجد الله يذكر أنواع البلاء غير أنه أتبعه بالتوجيه والنصح للمسلمين بالتحلي بالصبر، فقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 155- 156).
ابتلاء المحاسبة والتقويم وتصحيح المسار
ربما يرسل الله الابتلاء لتصحيح المسار الخطأ، والمحاسبة على عدم الاستجابة لأوامر الله سبحانه ورسوله، فمثلا كان يوم معركة أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين.
وأيضا قام القرآن الكريم بـمراجعة شاملة لهذه الغزوة، موضحًا مواقف كل الأطراف، ومبينًا أسباب النصر والهزيمة، ومواسيًا للمؤمنين في مصابهم، ومستخلصًا العِبر للمؤمنين؛ لئلا يقعوا فيما وقعوا فيه، قال تعالي: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152).
أنواع الابتلاء
الابتلاء المنصوص عليه في القرآن الكريم أنواع متعددة – كما يقول حمدي سلمان محمد – ومنها:
- الابتلاء بالتكليف، بأن يكلف الانسان بحمل الأمانة في نشر الدين، وقد تعددت آيات ابتلاء التكليف كابتلاء الله سيدنا إبراهيم بكلمات.
- الابتلاء بالبأساء والضراء وهو المشهور بين الناس قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214).
- الابتلاء بالسراء بحيث يفتح الله لك من فضله فلا تؤدي شكر النعمة قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك :1).
- الابتلاء بالعقوبة، حيث تُعد التربية بالعقوبة مطلبًا ملحًا حين تعجز أنماط التربية الأخرى، وقصة أصحاب السبت نموذج حي لذلك.
.