التجرد للدعوة من شيم الوفاء
إن عمادَ نجاح الدعوات - بعد تأييد الله تعالى – معقود بحال من يحملها، فلا تنجحُ الدعوات أبدا ما لم يتجردْ لها المؤمنون بها، فتأخذ عليهم لُبَّهم وكلَّ مشاعرهم، وتكون هي كل حاضرهم ومستقبلهم، حياتُهم مرتبطةٌ بحياتها، ونصرُهم معلَّقٌ بنصرها.. فإن تكلَّموا ففي الدعوة، وإن عملوا فللدعوة، وإن ساروا سارت معهم، وحيث وُجدت لا تفارقهم ولا يفارقونها.
والتجرد للدعوة هو تجرد للخير فى أسمى معانيه، والتجرد للخير من سمات الملائكة المقربين، كما قال صاحب الإحياء:
"والتجرد لمحض الخير هو دأب الملائكة المقربين، قال تعالى فيهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } التحريم آية 6.
فما هو التجرد؟
كلمة التجرد في اللغة ممتدة وفعلها متشعب؛ ولكن الإمام البنا حين عرف التجرد قصد بكلماته ( صدق الانتماء ) للفكرة والمنهج والحركة وألا يتورط صاحبها في السبل المتعددة وما يترتب علي ذلك من تشتت واضطراب فقال " وأريد بالتجرد أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها : "صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) البقرة138 (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ". الممتحنة: 4.
ولعل ذلك هو مقصد سيدنا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه لفعل (جَرَدَ) لما قال: (جردوا القرآن…. ليربو فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم، فإن الشيطان يخرج من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة). أخرجه ابن أبي شيبة.
ومعنى " جردوا القرآن" أي: لا تلبسوه شيئا آخر ينافيه!!!. وهو عين المعني الذي أراده الإمام البنا رحمه الله الذى كان صاحب مشروع إصلاح متكامل بحق!! وأن هذا المشروع قد ملك قلب الإمام وعقله؛ وقد بذل الإمام وضحي من أجل مشروعه حتي اصطفاه الله شهيدا – نحسبه كذلك ولا نزكي علي الله أحداً –
ومن هنا تأتي كلمة (التجرد) لتحتل في مشروع الإمام موقعا متميزا! حتي جعلها ركناً من أركان البيعة التى يقوم بها من وصفهم الإمام بـــ" الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها ".
نموذج للتجرد فريد:
عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ. فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْضَ أَصْحَابِهِ..فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا هَذَا؟!قَالَ – صلى الله عليه وسلم-: " قَسَمْتُهُ لَكَ". قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ! وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا- وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ!فَقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم-: " إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ". فَلَبِثُوا قَلِيلاً، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:" أَهُوَ هُوَ؟! " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ:" صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ ".. ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَدَّمَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: "اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ"[ النسائي : وصححه الألباني ]
* فانظر كيف كانت بداية هذا الأعرابي، من أول يوم أسلم فيه:
- لقد كان بادئ أمر هذه الأعرابي: إيمان، واتباع، وهجرة، وجهاد .. !
فلم يزل يجاهد نفسه في الإيمان، بحسن الاعتقاد، وكمال اليقين، وجمال التوكل.
ولم يزل يجاهد نفسه في الإتباع، بحسن التأسي، وتمام الاقتداء بخاتم الأنبياء – صلى الله عليه وسلم -.
ولم يزل يجاهد نفسه في الهجرة، فحمل نفسه حملاً، عن الشهوات والشبهات، وانتقل بنفسه من أرض الكفر إلى أرض الإيمان.
ولم يزل يجاهد نفسه في ساح الوغى، يركض إلى الله ركضًا، بغير زاد إلا التُقى وعمل الرشاد.
وهكذا، لم يزل يجاهد في الله، حتى هداه سبيل التجرد، فكان له ما كان من الشهادة والكرامة.
جائزة التجرد:
وكانت جائزة هذا الأعرابي المتجرد عبارة عن حزمة من التكريمات النبوية والتشريفات المحمدية،
الأولى: أن صدّقه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: " صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ ".
الثانية: أن كفنه النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جُبَّته.
الثالثة: أن قدَّمه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى عَلَيْهِ.
الرابعة: أن دعا له النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ".
الخامسة: أن شهد له النبي بالشهادة، قال: "فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ".
في هذا المشهد، نرى صورة من روائع التجرد لله، وصورة رجاله الذين صدقوا الله فصدقهم، { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً - لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب 23 - 24) فنالوا الجنة عن موقف تجردت فيه قلوبهم لله تمام التجرد، دون سابقة أعمال مأثورة أو تاريخ دعوي تليد، فقط دخلوا الجنة بوقفة وقفوها.
لماذا التجرد؟
ترجع أهمية التجرد إلى:
1- خطورة المرحلة: إنَّ دعوتنا المباركة فى هذه المرحلة الدقيقة من عمرها لفي حاجة ماسة إلى القلوب المتجردة الموصولة بالله، التي لا تعمل من أجل الصدارة فى أي مجال دعوي كان أم نيابي أم نقابي أم غيره، أو ابتغاء الظهور الذي يقصم الظهور، أو رغبة فى الأجر العاجل، أو المثوبة الحاضرة، من مال يجمع، أو ذكر يرفع.
كلا! بل المتجرد حاله هو الذي أشار إليه الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: " طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة وإن كان فى الساقة كان فى الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع". البخاري
2- تمحيص الصف: فى هذه الأيام، أيام انفتاح القنوات الفضائية بأنواعها للرموز الدعوية، وكتابة الصحف عنهم يوميا، لابد من اليقظة والمكاشفة مع الذات، فلا يعمل للدعوة بحق إلا من تجرد لها وعمل لها بإخلاص وبذل كل ما فى وسعه من أجلها،
يقول الإمام البنا:" دعوة الإسلام عامة تجمع ولا تفرق ولا ينهض بها ولا يعمل لها إلا من تجرد من كل ألوانه وصار لله خالصا. "
3- انتصار الدعوة: يقول صاحب الظلال فى قوله تعالى:{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة145
"لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها... فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته .. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضي الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها ... ".
4- أقرب طريق للوصول للقلوب:
يوم يتنزه الناصح والداعي عن المطامع وحطام الدنيا تعلو مكانته عند الناس، ويعظم قدره في عيونهم، ويرون صدق إخلاصه، فيكون لذلك أثره في القبول } إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ }، ما لي عندكم من غرض، ولا فيكم من مآرب، إلا أن يجري الله الخير على يدي بما أقول، إبراء لذمتي، وهذا هو سبيل المتجردين.
حال التجرد: إن التجرد مرتبة سامقة، تحتاج لمجاهدة، ولا ينالها إلا من ألزم نفسه الطاعات وألجمها عن الشهوات وصرفها عن الشبهات.
قال المتنبي مخاطبًا نفسه:
تُرِيدينَ إتيانَ المعالي رخيصةً *** ولا بد دون الشهدِ من إبْرِ النَّحلِ
وهذه بعض من أحوال المتجردين:
1- إن المتجرد لدعوته يتقن عبادته: ففي صلاته يوقن أن التجرد شرط قبولها، وهو لا يمن بصدقته على أحد، وعند صومه يجرد نفسه من جميع شهواته، وفى الحج يتجلى التجرد فى أسمى معانيه فى كل حركاته وسكناته.
2- والمتجرد لدعوته يرتفع عن الانتصار لذاته: ولا ينتهز الفرص لتصفية الحسابات ممن خالفه فى رأى أو مشورة، ويقتدي فى ذلك بأمير المؤمنين على – رضى الله عنه – عندما علا بسيفه على رجل من أهل الشرك في معركة مع الأعداء، فسبه الرجل وبصق في وجهه، فأمسك علي سيفه وتركه، فقيل لم؟ ... قال: خشيت أن أنتصر لنفسي فلا أكون قتلته ابتغاء مرضات الله عز وجل!
3- والمتجرد لدعوته تسرى الدعوة فى حياته: نعم تسرى كما يسرى الماء فى عروق الشجر والكهرباء فى الأسلاك، وتظهر فى أخلاقه وعبادته، فيرق قلبه وتخشع نفسه، وتزداد رغبته فى الدعوة ويشتد اهتمامه بها وحرصه عليها وإيفاؤه لحقوقها، حتى تثمر جهوده وقد لا تثمر فى الدنيا وقد تثمر بعد حياته، فهذا هو النبي- صلى الله عليه وسلم- يخاطب بقوله تعالى:{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} يونس46
4- والمتجرد لدعوته علت همته: قال ابن القيم في المدارج: " همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلباً صادقاً خالصاً محضاً فتلك هي الهمة العالية ".
نعم علت الهمة، فتعلقت بالله وحده، وسعت لمرضاته، وغضت الطرف عمن سواه.
ورحم الله محمد بن واسع، فما قصته؟!
خرج قتيبة بن مسلم في الشمال تجاه كابل بأفغانستان، ووصل إلى تلك المشارف، ولما صف قتيبة بن مسلم الجيش وقابله الكفار قال قبل المعركة: التمسوا لي محمد بن واسع العابد الزاهد، فأتوا وإذا محمد بن واسع قد توضأ واتكأ على رمحه، ورفع سبابته إلى السماء يتمتم ويدعو الحي القيوم بالنصر: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ... فعادوا وأخبروا قتيبة بن مسلم فتهلل وجهه وقال: والله الذي لا إله إلا هو! لأصبع محمد بن واسع خيرٌ عندي من مائة ألف سيفٍ شهير ومائة ألف بطل طرير، وبدأت المعركة ونصر الله المسلمين، وانتهت المعركة وقدمت الغنائم من الذهب والفضة إلى قتيبة بن مسلم، وكان يرى الكُتُل من الذهب والفضة والجواهر والكنوز تقدم إليه، فكان يقول للقواد: أترون أن أحداً من الناس يعطى هذا فيرده؟
قالوا: لا ما نرى أحداً من الناس يعطى شيئاً من الذهب والفضة ثم يرده، قال: والله لأرينكم رجالاً من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- الذهب والفضة عندهم أقل وأرخص من التراب، فقال: عليَّ بـ محمد بن واسع.
5- والمتجرد لدعوته يؤثر ما عند ربه: فهو يؤمن بقول حبيبه: "ازهد فى الدنيا يحبك الله وازهد فيما فى أيدي الناس يحبك الناس". رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
ومن هنا قرأنا في تاريخنا قصة ذلك الذي عثر على حق من الجوهر الغالي الثمين في القادسية، فقدمه إلى الأمير طائعا، فعجب من أمانته وقال: (إن رجلا يتقدم بمثل هذا لأمين، ما اسمك؟ حتى أكتب به إلى أمير المؤمنين فيجزل عطاءك، ويعرف اسمك) ... فقال الرجل:(لو أردت وجه أمير المؤمنين ما جئت بهذا، وما وصل علمه إليك ولا إليه، ولكن أردت وجه الله الذي يعلم السر وأخفى، وحسبي علمه ومثوبته).
وانصرف ولم يذكر اسمه، وآثر ما عند الله على ما عند الناس.
6- المتجرد لدعوته متحرر من هوى نفسه: فلقد حذر القرآن الكريم أشد التحذير من إتباع الهوى، يقول تعالى لداود عليه السلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} سورة ص 26. ويقول تعالى لنبيه محمد عليه السلام في شأن المعرضين عن دعوته:" فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه ". سورة القصص 50.
وهذا الهوى المتحكم هو الذي بجعل الإنسان يستمع إلى الحق فلا يعي منه شيئاً، فهو يريد إخضاع كل شئ لهواه، فالنصوص عنده تابعة لا متبوعة، والنتائج عنده سابقة على المقدمات، فهو لا يقرأ ليصل للحقيقة أياً كانت، بل يقرأ ويبحث عما يعضد فكرته، وينصر رأيه ومعتقده... فإن وجد ما يسنده – ولو من بعيد – هلل وكبر، وإن وجد ما يعارضه غض الطرف عنه، واجتهد في إهالة التراب عليه لو استطاع، وإلا صوَّب إليه سهام التأويل المتكلف.
فهو لا يعى ما أشار إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حين قال:" ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ"، وقال أيضا: " ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بَيّنَ الله الحق على لساني أو لسانه".
ومن الأدعية المأثورة ما أخرجه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته من الليل: (اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
فإذا كان الرسول المؤيَّد بالوحي يدعو الله تعالى بهذا الدعاء الجامع الحار، يسأله الهداية لما اختلف فيه من الحق، أي: الزيادة فيها والثبات عليها.
فكل ناشد للحق أولى بهذا الدعاء.
فما أحوجنا أن نتجرد في طلبنا للحق وأن ندور معه حيث دار، وأن ننصره حيث كان ومن أي جهة صدر، فإنه وربي من علامة الصدق والإخلاص.
بهذه المعانى السامية، سَيْرٌ بِلاَ الْتِفَاتْ ووفاءٌ بِلا غَدَرَات
للرُّجولةِ أهْلُوها، وللقِمَمِ مُتََسَلِّقُوها، ولِلْثُرَيَّا مُرْتَقُوها، ولِلْعَلْيَاءِ طامِحُوها، ولِلْمَعَالِي طالبوها، كما أن للخَنَا ساعُوها، وللدَّنايا مُتَسَوِّلُوها، وَلِلثَّرَى لاَعِقُوها، وللسفاسف راغبوها.
هكذا كان الناس ومازالوا، فهم على صنفين وإن شئت فقل فريقين، كما قال الله سبحانه {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} [الأعراف: 30]
وهذه سنة كونية أن يكون الناس هكذا {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36]. وَبَيْنَ هؤلاء وهؤلاء من يَرْتَقِى سُلَّمَ الدرجات ومن يهبط فى الدَّرَكَات، والمرء هو الذى يحدد منزلتَه ودرجتَه، إما فى أعلى علِّيِّين أو فى أسفل سافلين، ولا يظلم ربُّك أحدا.
هل يستويان مثلا ؟!!
- لاشك أن الناس لايستوون عند الله تعالى، فكل على حسب سَعْيِه وسَيْرِه، بين الله سبحانه وتعالى ذلك فى أكثر من موضع فقال سبحانه: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. النحل 76
- فهنا ضرب الله مثلا لرجلين: أحدهما أخرس أصم لا يَفْهَم ولا يُفْهِم،لا يقدر على منفعة نفسه أو غيره، وهو عبء ثقيل على مَن يَلي أمره ويعوله، إذا أرسله لأمر يقضيه لا ينجح، ولا يعود عليه بخير، ورجل آخر سليم الحواس، ينفع نفسه وغيره، يأمر بالإنصاف، وهو على طريق واضح لا عوج فيه، فهل يستوي الرجلان في نظر العقلاء؟
وضُرب المثل ليوضح كيف تتم التسوية بين الصنم الأبكم الأصمِّ وبين الله القادر المنعم بكل خير؟ ... ولكن من الناس من يفعل ذلك، ولا عجب.
وقال أيضا سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } الزمر29
- وهنا أيضا ضرب الله مثلا عبدًا مملوكًا لشركاء متنازعين، فهو حيران في إرضائهم، وعبدًا خالصًا لمالك واحد يعرف مراده وما يرضيه، هل يستويان مثلا؟ ... لا يستويان.... فالمشرك في حَيْرة وشك، والمؤمن في راحة واطمئنان.
- نعم.. هناك فرق بين من يسارع فى الخيرات وبين من يسارع فى الإثم والعدوان: فقد قال الله عن قوم مادحا "{ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} آل عمران114.
وقال {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } المؤمنون61... وقال عن آخرين مقَرِّعا وذامَّا "{ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } آل عمران176 ... وقال {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } المائدة 62
- هناك فرق بين من يصبر على عبادة الواحد وبين من يصبر على عبادة الباطل، فقال سبحانه مخاطبا أولياءه وأصفياءه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } آل عمران200.
وقال عن أنصار الباطل فى كل عصر ومصر {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ص6
- وكما أن الحال فى الدنيا مختلف كان الجزاءُ فى الآخرة أيضا مختلفا، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ص28
وبين سبحانه القضية بوضوح فقال {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} الجاثية21 ... وقال {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} غافر58
والمتأمل لسورة الواقعة، فى صدر السورة وخاتمتها، يجد أن الله سبحانه قد بين بوضوح وفصَّل طبيعة الجزاء الذى سيلقاه كل صنف من الأصناف الثلاثة: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون السابقون. فالقضية محسومة هنا وهناك {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} الشورى7
الله هو الذى يصْطَفِى
- نعم، الله هو الذي يصطفى ويختار من يحمل الرسالة ويسعى لنهضة الأمة، ويهيئه سبحانه لِتَحَمُّل تبعات التكليف والمسئولية.
- فالناس رجلان: رجل صالح فى ذاته ورجل فاسد فى ذاته وهؤلاء وهؤلاء يلقون جزءهم عند لقاء ربهم {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} آل عمران30 .
ولكن هناك من هؤلاء الصالحين من يصطفيهم ربهم فيصبحوا فى الخير قادة وتكون لهم الرِّيَادة فى الأخذ بيد هذه الأمة إلى طريق الإسلام الصحيح فهم قادة فى الخير وفيهم قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الأنبياء73
وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة24
ولا شك أن هؤلاء الأئمة سيدفعون نيابة عن أمتهم ثمن العزة والكرامة ولذلك فإن الكريم سبحانه سيحقق فيهم سنته التي لا تتبدل ولا تتغير ولكن فى الوقت الذى يقدِّره هو سبحانه { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } القصص5 ... وسيتحقق لهم مايريدون.
وكما أن هناك أئمة فى الخير فهناك أئمة فى الشر وفيهم قال الله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} القصص41
وهؤلاء سيحملون أوزارهم وأوزار من يتبعهم يوم القيامة {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} النحل25 ... حيث يكون الموقف عسيرا هكذا { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا *رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} الأحزاب67 -68}.
وشاء الله لنا وقَدَّرَ أن اختارنا لنَحْمِلَ الرِّسالة، ونُؤَدِّي الأَمَانَة، ونسلك طريق الأصالة فى دعوتنا لننهض بأمتنا فى هذا الزمن الذى تاهت فيه معالم الطريق عند الكثير من الناس، وتعانَقَتْ المتضادَّات، فلا يتم التمييز بين الرشد والغي، والغث والسمين، وأصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا، وعلا السافل وسفل العلى، ونطق الرويبضة، فتكلم التافه فى أمر العامة وصُدِّقَ الكاذب وكُذِّبَ الصادق وأْتُمِنَ الخائن وخُوِّنَ الأمين ... فماذا يُنتظر عندما يكون هذا هو الحال؟!!
فكان هذا قدرُنا كما بين إِمَامُنا " أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزباً سياسياً ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد.
لكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيسدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مردداً دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلي عنه الناس ".
مُؤَهِّلات الإصْطِفَاء
للمصطفينَ الأخيار مؤهلات تُمَكِّنُهُم من القيام بدورهم ومن أداء رسالتهم، وهذه المؤهلات حدَّدَتْها الآيتين الكريمتين {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } الأنبياء73
وقال { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } السجدة 24
فإمام الخير لابد أن يجتمع فيه خمس خصال وهي:
1. يهدي بأمر الله: فالركيزة الأساسية في التأهيل للإمامة في الدين هي العلم بالشرع الذي يدعو إليه، وهو الذي أُُمر به محمد صلى الله عليه وسلم في أول آية نزلت عليه {اقْرَأْ}، وعلى ضوء العلم يتم العمل والدعوة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة الأول للداعية إلى الله في تكوين نفسه وأداء واجبه ... ولكي يكون للداعية إماما فى الخير لا بد وأن يقتفي أثر قدوته صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزله إليه من ربه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهؤلاء المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له".
2. يصبر على ما أصابه في ذلك: أئمة الخير وقادةُ الركب، أصحابُ الرسالة السامية لهداية البشرية لابد وأنهم سيجدون من العنت والمشقة في الطريق ما يعجز عن حَمْلِه الجبال الرواسي، ولكن إذا استعانوا بالله تعالى وتقربوا إليه بذكره سهُل عليهم كلُّ صعب، ولانت أمامهم الشدائد، وكيف لا يكون الأمر كذلك والله هو الذى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مقبل على مشقة الدعوة والمعاناة فقال له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا *إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (1-4 سورة المزمل).
وقد قام صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وتحمل عنت قريش وعداوتهم وكان يصيبه من ذلك الأذى الكثير، فكانت التوجيهات القرآنية التي تتنزل عليه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (130) سورة طـه،
ويضيق صدره باستهزائهم فينزل عليه: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} (سورة الحجر).
كلها توجيهات نحو العبادة لتخفيف وطأة هذا الحمل الثقيل الذي كلف به، وهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في وصف دعاة الحق أتباع الرسل في كتاب الله تعالى بهذه الصفة العظيمة وهي صفة الصبر والاحتمال، في قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}... البقرة
3. يوقن بالله تعالى وبوعده:
إن اليقين لأئمة الخير أمر لازم، فهو الزاد النفسي والقوة الروحية التي تعين على مواصلة الطريق.
فأعظم قوة لاقتحام عقبات النفس وإكراهات الواقع هي قوة الإيمان، وعندما يستقر الإيمان في القلب ويصدقه العمل الصالح بالجوارح، تتشكل قوة اليقين التي لا تُهزم، وإذا أشرق نور اليقين في القلب ذهبت الحيرة وزالت المخاوف وأطمأن القلب ونشطت الأعضاء للطاعة، فأهل اليقين في فرح دائم بالله، وهم جبال في التوكل، لا يأكلون بدينهم ولا يطلبون فيما أيدي الناس. تهون عليهم مَصَائِبُ الدنيا، ويحقرون ما يعظمه الغافلون ويفضلون ما يدوم على ما يزول، فيَحْيَوْن موقنين ويموتون موقنين مطمئنين القلب، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر27 - 28).
إن اليقين الحق يظهر فى المواقف وعند الشدائد، كما كان هو الحال مع الحبيب صلى الله عليه وسلم حين قال للصديق الوفي رضي الله عنه وهما في الغار، والأذى يلاحقهم من كل جهة: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} ... وقال له: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"
يقين بالله، وبمعيته ونصره. فصاحب اليقين حينما تحيط به الخُطُوب من كل جانب، من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، من فوقه ومن تحته، يقف كالطَّوْدِ الأشم قائلا: { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } سورة الشعراء 62.
واليقين طريق النصر، ألم يقل من سبق من علمائنا: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين"؟
نعم الصبر على طول الطريق وعدم استعجال النتائج: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} الأعراف 128.
4- يفعل الخيرات: إن المصطفينَ الأخيار للخيرات فاعلون، الخيرات بكل ما تحمله الكلمة من دلالات.،
كيف لا يكون فعل الخيرات شعارنا! وقد أمرنا الله بذلك فقال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الحج77 .
وكان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بين عبادك فتنةً فاقبضني إليك وأنا غير مفتون"
5- يُحَقِّقُ العبودية: إن الغاية من دعوة الرسل جميعا لأقوامهم هي العبودية ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت النحل، وقد قال الله تعالى لنبينا عليه السلام: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } الحجر 99،
فكان عليه الصلاة والسلام قمة المثال الذي يقتدي به في تحقيق العبودية فوصل إلى أعلى مراتبها وأسمى منازلها
وإن صاحب الرسالة عابد خاضع مستسلم بكليته، بقلبه وجوارحه وعواطفه، لأمر ربه ولأقداره سبحانه، وكيف يحمل رسالة الدعوة من لا يستسلم لمولاه بالكلية متأسيا بالخليل إبراهيم والذي أمرنا ربنا بإتباعه حين قال {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} آل عمران68 .
فالخليل استسلم حين أُمر بذبح ولده، وحين أمر بترك زوجه وولده، فصدق فيه قول ربنا { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } البقرة131
فلا يمكن لدعوتنا المباركة أن تحقق أهدافها وتصل إلى مبتغاها، تربيةً وبناءً، وانتصارا واستمرارا إلا إذا تخلق دعاتها، أئمة الهدى، بالصبر واليقين بالله وبآياته وبنصره، وعمِلوا بأمر الله، وهَدَوْا بهديه، فعلو الخيرات وحققوا العبودية له سبحانه.
سَيْرٌ بِلاَ الْتِفَاتْ ... إن أئمة الخير وقادة الركب فى سيرهم إلى ربهم وفى أدائهم لرسالتهم تواجههم محن وفتن، شبهات وشهوات، وعد ووعيد، وإغراء وتهديد، فإذا التفتوا إليها تعطل سيرهم وتأخر ركْبُهم وبَعُدَ نصرُهم، وإذا مَضَوْا فى دربهم ولم يلتفتوا أدوا رسالتهم وحققوا أهدافهم .
ومن هنا فاحذروا أيها الأحبة أن تلتفتوا إلى هذه العقبات:
1- المعوقين: إن هناك من النفوس نفوسا قد ملأها الخور والضعف ورضيت بالذل والهوان، هذه النفوس قد تحاول أن تثنى من عزمك وتفل فى عضدك وتُقعِدَك مع القاعدين فلا تلتفت إليها.
وقد حذرنا الله من هؤلاء فى سورة الأحزاب حين وضح حالهم وكشف عن خصائصهم النفسية الخوَّارة فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً {18} أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً {19} يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} ( الأحزاب 20)
2-المُبَطِّئِين: هذا صنف ثان من الناس يتأخر عن الركب ولا يتواجد فى ميدان، هَمُّهُ أن يجعلك فى مؤخرة الركب مثله، ويحاول أن يُضَيِّع معالم الطريق من تحت قدميك حتى تَتِيه وتضطرب، فيسبقك أقرانك، وفيهم قال الله تعالى فى سورة النساء: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}. 72-73 )
3- مثيري الشبهات: الشبهات ستظل مفردة من مفردات الباطل فى الصد عن طريق الحق، والتاريخ قديما وحديثا يشهد بذلك، ولكن مايعنينا هو أننا فى التعامل مع أية شبهة لا بد وأن نتسلح بأمور ثلاث:
الأول: الفقه اللازم للرد على الشبهة
الثاني: الثقة فى المنهج والقيادة والطريق حتى نَتَبَيَّن
الثالث: المُضِي فى السير وعدم التوقف.
ولقد ذكر الإمام نموذجا للتعامل مع الشبهات حين قال " إذا قيل إلام لكم تدعون؟ ...
فقولوا ندعو إلي الإسلام الذي جاء به محمد صلي الله عليه وسلم والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم هذه سياسة!
فقولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام.
وإن قيل لكم أنتم دعاة ثورة، فقولوا نحن دعاة حق وسلام نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين.
وإن قيل لكم إنكم تستعينون بالأشخاص والهيئات فقولوا: (آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (غافر:84)،
فإن لجّوا في عدوانهم فقولوا :(سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55)."
4- رؤية الذات: إن النفوس الهزيلة لا تصاب بداء كداء رؤية الذات والتباهي بالقدرات؛ لأن هذا الداء يصرف الهمم والعزائم إلى الرياء والادعاء، ويَحُول بينها وبين الإخلاص والتواضع، وقد يفتح عليها أبواب النفاق والتلون وقد يؤدى فى النهاية إلى الانصراف عن الطريق والتخلي عن الرسالة والعياذ بالله ؛ أما إنكار الذات فهو خُلُقٌ من أخلاق الذين سَمَت هممهم وعلت نفوسهم، فصاروا من أئمة الهدى فى هذا الزمان .
وجاء في الحديث الشريف: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" صحيح مسلم.
وجاء أيضا"إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة " ابن ماجة والحاكم وغيرهما عن معاذ..
وقد استطاع الإسلام أن يخرج من أبنائه أبطالاً عمالقة، سادوا وقادوا، وفعلوا المكارم، وأتموا جلائل الأعمال؛ ومع ذلك لم يتباهوا بما فعلوا، ولم يفخروا بما قدّموا، بل أنكروا ذواتهم وكتموا أعمالهم، وابتغوا وجه ربهم الذي لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، والذي يعلم السر والنَّجوى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} النجم 32.
وهذا موقف من مواقف البطولة الخالدة، ومعرض من معارض الجندية المجهولة، يتألق في تاريخ الإسلام والعرب؛ فقد كان مسلمة بن عبد الملك أميرًا على جيش من جيوش الدولة الأموية التي قدمت ما قدمت في نصرة العروبة وتوطيد الدولة العربية المسلمة.
وكان مسلمة يحاصر بجيشه حصنًا من حصون الأعداء، واستعصى هذا الحصن على الجيش، فلم يستطع له فتحًا ولا اقتحامًا؛ فحرض الأمير مسلمة جنده على التضحية والإقدام حتى يحدث بعضهم في ذلك الحصن ثغرًا أو نقبًا، فتقدم من وسط الجيش جندي ملثم غير معروف وقذف بنفسه إلى جهة الحصن غير مبال بسهام الأعداء ولا خائف من الموت؛ حتى أحدث فيه نقبًا كان سببًا في سقوط الحصن ودخول الجيش فيه..
وفرح مسلمة بذلك كثيرًا، ونادى في وسط الجيش: أين صاحب النقب؟
فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي فعزمت عليه (أي حلفت) ألا جاء.
وكان يريد أن يخصه بجزء من الغنائم ويمجده.
وبعد فترة جاء الرجل إلى حاجب مسلمة، وقال له استأذن لي على الأمير فقال له الحاجب: أأنت صاحب النقب؟
فأجاب أنا أخبركم عنه..
واستأذن له الحاجب على الأمير، فلما صار بين يديه قال له: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثة شروط هي: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تسألوه مَنْ هو، وألا تأمروا له بشيء.
قال مسلمة: فذلك له.
فقال الرجل في استحياء: أنا صاحب النقب!
ثم ولى مسرعًا، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها قائلاً: اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة!!
وكَأَنَّ هذا الرجل المحتسب المجاهد المُتَسِتّر كان يتذكر خير التذكر أن رجلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر (أي ليرتفع ذكره) والرجل يقاتل ليُرى مكانه (أي ليشتهر بالشجاعة) فمَنْ في سبيل الله؟
فأجاب الرسول: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وكأنه كان يتذكر أيضًا - نِعْمَ التذكر- أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: يا رسول الله أخبرني عن الجهاد والغزو،
فقال: "يا عبد الله إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثك الله مرائيًا مكاثرًا".
فعلى الذين يحملون الرسالة، ويقودون الأمة إلى الخير ويرفعون راية الإصلاح، أن ينطلقوا خفافًا وثقالاً في ميادين العمل المبرور، والسعي المشكور؛ لينصروا مبادئهم، ويخدموا بلادهم، واثقين أن المعروف لا يذهب بين الله والناس: {وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}. آل عمران198. فما أحوجنا إلى هذا الصنف المبارك الذين بهم تُرزق الأمة وبهم تُنصر.
5- الوعد والوعيد: من معوقات السير التي يتعرض لها أئمة الخير: وعود الظالمين أو تهديداتهم وهذا أمر تعرض له المصلحون قديما وحديثا.
ألم يُعْرَض على رسول الله الملك؟ ألم تعرض عليه الأموال الطائلة؟ ألم؟ ألم؟... فماذا كان الرد؟
" ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".
ألم يحاصر، ألم يهاجر؟ ألم.... ألم.. وهو الأسوة والقدوة وهو المعصوم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم فما بالنا نحن؟!!!
فالتعرض للسخرية، وتخلى الحبيب والقريب، والزمجرة والوعيد لا تزيد الشامة الأعلام، الدعاة الأباة، إلا قوة وثباتا شعارهم الدائم ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (إبراهيم: من الآية 12).
قائلين لكل طاغ مُتَجَبِّر ما قاله الأوفياء قبلهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (72 طه).
6- بريق الدنيا: الداعية الأريب، صاحب الرسالة لا يعرف شيئا فى مفردات قاموسه يسمى بــ "الإنشغال الحياتي" والتي أزكم ذكرُها الأنوفَ مؤَخَّرا. فشعاره " {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام162.
فهو يعرف كيف يوظف عمله لصالح رسالته، فالموظف فى مكتبه والبائع فى متجره والمدرس فى مدرسته والإمام فى مسجده والعامل فى مصنعه والمزارع فى حقله ... كل يُحَقِّقُ وصفَ الإمام للمجاهد حين قال: " أستطيع أن أتصور المجاهد شخصاً قد اعد عدته، وأخذ اهبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحى نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدا، إن دعي اجاب، أو نودى لبى، غدوه ورواحه، وحديثه وكلامه، وجده ولعبه، لا يتعدى الميدان الذى اعد نفسه له ولا يتناول سوى المهمة التى وقف عليها حياته وإرادته يجاهد فى سبيلها تقرأ فى قسمات وجهه وترى فى بريق عينيه وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك علي ما يضطرم (أى يشتعل ويهيج ) فى قلبه من جوى لاصق ( أى عاطفة قوية وحرقة ملازمة ) وألم دفين وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمة عالية وغالية وبعيدة ".
فهلا كنت هذا المجاهد؟!!!
وإِلاَّ كان البديل صعبا، تأمل هذه الآية: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } التوبة24
أعاذنا الله من حال هؤلاء.
7- جاذبية الزوجة والولد: نعم قد تكون الزوجة والولد من معوقات السير، وبين الله ذلك فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } التغابن14.
وما موقف الثلاثة الذين خُلِّفوا عنا ببعيد... ولكن متى يحدث العكس وتكون الزوجة والولد عونا لك وسندا؟
يحدث ذلك عندما تُقَدِّم أنت لذلك؛ فتُلْحِقَ كُلاًّ بفِرقته الدعوية وتُسَيِّرَهم فى قوافل الخير، وتشجعَهم على المشاركة.
يحدث ذلك عندما يَرَوْن فيك النموذج والمثال للزوج الوفي والأب الحاني والمربى القدوة، حينها يحترمون فكرتك، ويقدرون رسالتك، فإن لم يكونوا لك عونا لن يكونوا لك عائِقا فى سيرك.
نعم أيها الأخ الحبيب إن فعلت ذلك لَهَجَ لسانُك فى كل وقت وحين بهذا الدعاء، دعاء عباد الرحمن : {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} الفرقان74،
وكان حالُ بيتك هو حال هذه البيوت المؤمنة التي ذكرها الله تعالى فى كتابه فقال عن بيت زكريا عليه السلام: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الأنبياء90
8- الإفراط فى الحذر: لاشك أن أخذ الحذر سنة شرعية، وضرورة دعوية المخل بها داخل في دائرة المعصية ومفرط في أسباب النصر والتمكين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً } النساء71
ولكن تَكْمُن المشكلة فى أن يتحول الحذر إلى هاجس يُغرسُ في النفس فيؤدى إلى القعود عن العمل لهذا الدين، وتحت ظلال هذه الدعوة المباركة.
ولذلك لابد من إيجاد التوازن الدقيق بين أخذ الحذر والعمل، وذلك بعدم ترك العمل والركون إلى القعود مهما قست الظروف وغلت التضحيات، وإنما يكون الموقف الصحيح بتكييف العمل مع المعطيات الجديدة، تكييفا يحمل في طياته معاني الشجاعة والثبات إضافة إلى معاني الوعي والذكاء، مستحضرين قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173].
وهذا الجمع المتوازن بين الحذر والعمل هو المعنى المشار إليه في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً}. النساء71
فالله أمر بالحذر وأمر بالنفرة فى نفس الوقت.
9- مُكَدِّرَات الأخوة: المرء مهما تعاظمت قدراته وتعددت مهاراته فهو قليل بنفسه كثير بإخوانه، وهذا العبء الثقيل لا يستطيعه المرء بنفسه، ومن ثم كان صاحب الهم وحامل الرسالة حريصا على تعميق الأخوة مع أقرانه وبينهم، وحريصا على تجنب كل ما يُعَكِّر صفوها حتى لا يضيع الوقت فى إرضاء هذا والاعتذار لذاك، وتصحيح الصورة عند هؤلاء.. و.. و..، وننصرف عن ميادين العمل والجهاد.
وقد تجد البعض يتقاعد أو يتكاسل أو ينصرف عن دعوته بسبب قول هذا أو موقف ذاك، وليس هذا بطريق أصحاب الدعوات، ألم يقولوا " كدر الجماعة مقدم على صفو الفرد “.
أما أصحاب الدعوات حتى وإن حدث شيء مما يعكر الصفو فسرعان ما يعودون ولا ينقلبون على أعقابهم ويظلون أوفياء لدعوتهم مهما حدث، وهذه شيم الأحرار، قال الشافعي رحمه الله: "الحر من راعى وداد لحظة أو انتمى لمن أفاده لفظة"
10- تعَجُّل الثمار: إن طول الطريق وعِظَمَ التضحيات قد تدفع البعض أحيانا إلى التوقف عن السير أو تأخير الخطى أو الانحراف عن طريق الأصالة فكريا أو دعويا أو تنظيميا، وهذا يُعد بالنسبة لقادة الخير وأئمة الرشد مهْلَكَة، ولذا بين الأستاذ البنا ذلك فى صراحة ووضوح حين قال " إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده... ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول،
أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها.
إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات. ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة."
وماذا بعد أيها الأوفياء
هكذا كان قَدَرُكم، وتلك هى رسالتكم، وهذا هو زمانكم بما فيه، وهذه هى المعوقات تحيط بكم من كل جانب، فهل أنتم على استعداد لحمل الرسالة وأداء الأمانة؟!!
هل ترضون أن تكون صحبتكم فى الدنيا صحبة الأخيار، وفى الآخرة تلقون جزاء الأبرار؟ ...
أَنْعِمْ بهم من أصحاب، وأَكْرِمْ به من جزاء.
ولطالما بايعتم ورضيتم فهذه هى مقومات الأمناء، وهذا هو درب الأوفياء.
كما حددها إمامُ دعوتِنا وقائدُ نهضتنا حيث فقال " إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ: تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى "قوة نفسية عظيمة" تتمثل في عدة أمور: - إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف - ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر - وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل - ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره."
فهل وفيتم؟ هل أديتم؟ ...
انطلقوا فى طريقكم، فلن يضيع جهادكم: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} محمد35.
وتأهبوا لِتَنَزُّلِ نصر ربكم عليكم؟: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً} الإسراء51
وصلَّى الله وسلَّم على معلم الناس الخير.
اللهم نسألك الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد
.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ