لقد كانت للمسجد مكانة مركزية في حياة الأمة لم تقتصر عناصره الوظيفية على تقوية البعد الروحي وممارسة العبادات، ولكنه تجاوز ذلك إلى جوانب حياتية متنوعة من التواصل الاجتماعي والتكوين العلمي والبناء النفسي وإدارة الدولة من رحابه ومحرابه.
ولكن هذه الوظيفة والمكانة أخذت في الانحسار والتراجع عبر التاريخ نتيجة للضعف والوهن والتراجع والتغيير السلبي الذي أصاب الأمة الإسلامية.
وفى هذه الدراسة، يرى الباحث د. مصطفى مخدوم، أنه متى أردنا عودة المساجد إلى مكانتها التاريخية فلا بد من مراجعة نقدية شاملة لأوضاعها ووضع خطة دقيقة لبث أنوارها وتفعيل أدوارها في المجتمع.
وظائف المساجد من منظور فقهي
المساجد من حيث الشكل هي بناء كأي بناء ولكنها تمتاز برسالتها الشريفة ووظائفها المعنوية في الحياة وكونها بيوت الله في الأرض، وهذه الجوانب المعنوية في المساجد هي الأهم الذي تجب العناية بها والاهتمام بتحقيق رسالتها في مجتمعاتنا.
وقد أخبر النبي ﷺ أن المجتمع الإسلامي في عصوره المتأخرة سيقع في خطأ الاهتمام والأولوية، فيعني بالناحية الشكلية والمادية في بناء المساجد على حساب الجوانب المعنوية والروحية كما قال ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي، وعند ابن خزيمة: قال أنس: إن رسول الله ﷺ قال: «يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد لا يعمرونها إلا قليلا».
ولا شك أن المسجد لم يكن بناؤه عبثًا بل له وظائف سامية وأهداف عالية أشار إليها ﷺ بقوله: «إنما بنيت المساجد لما بُنيت له».
وهذه الوظائف والأدوار منها وظائف منصوص عليها ومتفق عليها مثل الوظيفة الإيمانية والتعليمية.. ومنها وظائف اجتهادية حاول العلماء والمصلحون استنباطها من الواقع التاريخي للمسجد في زمن النبي ﷺ والعصور اللاحقة بعد ذلك، أو وظائف عارضة دفعت إليها ظروف المجتمع الإسلامي وإمكاناته المتاحة في ذلك العصر، ومجرد حدوث هذه الوقائع في المسجد زمن النبي ﷺ لا يكفي للقول بضرورة وجود هذه الأدوار في المسجد مرة أخرى، ولعل الأفضل في عصرنا أن تحال بعض هذه الأدوار إلى بعض المؤسسات المدنية في المجتمع للقيام بها، مثل :
- الدور الصحي الذي ورد في قصة سعد بن معاذ، فإن المستشفيات المتخصصة أولى بمثل هذا الدور.
- الدور الاحتفالي الذي يؤخذ من قصة الحبشة الذين لعبوا بالحراب في المسجد.. فإن الأصل كما قال المحب الطبري تنزيه المساجد عن اللعب، والاقتصار على ما ورد فيه النص.
الوظيفة الإيمانية
إن أعظم وظائف المسجد ورسائله هو البناء الإيماني والنفسي لأفراد المجتمع حيث يجتمع الناس في رحابه يسمعون كلام الله، ويركعون ويسجدون في أجواء إيمانية وروحية تملأ قلوبهم إيمانًا وطمأنينة وسكينة، وتشحن نفوسهم عزمًا وإرادة على التغيير والإصلاح في الحياة.
وقد جاءت النصوص الشرعية لبيان هذه الوظيفة العليا ومنها:
- قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَالِْ فحددت الآية الهدف الإيماني وهو ذكر الله والتسبيح.
- قوله ﷺ للأعرابي الذي بال في المسجد: «إن المساجد لم تبن لهذا وإنما بنيت لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن»، فجعل الهدف من بناء المساجد هو ذكر الله والعبادة وقراءة القرآن، وترتيب الوصف على الحكم يفيد العلية.
وسائل بناء الإيمان
إن المسجد يبني الجانب الروحي والإيماني في النفوس من خلال الوسائل التالية:
- أداء العبادات، مثل: الصلوات الخمس وقيام رمضان والاستسقاء وصلاة الكسوف، ونحوها من العبادات التي شرعت في المساجد
- سماع القرآن وتلاوته: فإنه يزكي القلوب ويصلحها ويغرس الإيمان ويحميه.
- سماع الخطب والمواعظ في الجمعة وغيرها، وحضور الدروس الربانية للعلماء الربانيين في رحاب المسجد فإنه يحي القلوب الميتة.
الحفاظ على الأجواء الروحانية في المساجد
لقد حرص التشريع الإسلامي على منع الممارسات التي تتعارض مع السكينة والهدوء والجو الروحاني، ومن ذلك ما ورد عن النبي ﷺ:
- المعاملات التجارية في المسجد كالبيع والشراء، كما روى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك».
- رفع الصوت في المساجد، كما قال عمر رضي الله عنه لمن رفع صوته في المسجد: أتدري أين أنت؟، حتى كره مالك رفع الصوت بالعلم، وقال: أدركت الناس يكرهون ذلك.
- الاختلاط بين الرجال والنساء، ومن هذا المعنى جاء التوجيه للنساء بأداء الصلاة في بيوتهن حتى تكون أجواء المساجد بعيدة عن تأجيج الشهوات وخواطر الشيطان، فقال ﷺ: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن».
- الطيب للنساء: ومتى رغبت المرأة في صلاة المسجد؛ عليها أن تبتعد عن أنواع الزينة وأسباب الإثارة، كما قال ﷺ: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا».
المساجد ودورها في البناء النفسي
وهذه الأجواء الإيمانية في المساجد تنعكس إيجابا على الأوضاع النفسية لروادها، ولا يخفى أن عصرنا يمتاز بأنه عصر الأمراض النفسية التي انتشر نتيجة ضغوط الحياة المادية والظروف الأمنية؛ مما أدى إلى زيادة مضطردة في عدد العيادات النفسية وارتفاع معدل المصابين بالأمراض النفسية.
والمسجد يقدم بدور فاعل ومؤثر في معالجة هذه الأمراض النفسية والوقاية منها نتيجة المعاني الإيمانية والفكرية التي يزرعها في نفوس رواده بالله تعالى والإيمان بالقدر، وضرورة التعلق بالآخر وقصر الحياة وفلسفة الابتلاء.
ولتفعيل دور المساجد في مجتمعاتنا فلابد مما يلي:
- تأهيل الأئمة والخطباء من خلال الدورات المتنوعة والبرامج المختلفة.
- تجديد الخطاب الديني واللغة الوعظية في مساجدنا بما يتناسب مع طبيعة العصر وخصائص التفكير لدى أفراد المجتمع، والعناية بالمشكلات الواقعية والقضايا الحية التي تمس حياة الناس.
- تنقية أجواء المساجد من العوائق والمكدرات والممارسات الخاطئة التي تؤثر في الجو الإيماني والروحي وتحول دون استفادة الناس من رسالة المسجد.
- ضمان الحرية الكاملة للأئمة والخطباء في توجيه المجتمع من خلال سيادة الشريعة ومرجعية نصوصها ومراعاة مصالح الأمة واجتماع كلمتها.
.