لا يمل أعداء الإسلام، وأذنابهم من المعدودين على المسلمين من محاولاتهم إطفاء نور الله الذي أنار به حياة الأسرة المسلمة في الصدر الأول، فخرجوا علينا بقانون الطفل رافعين فيه سن الطفل إلى الثامنة عشرة، مخالفين بذلك ما هو منهجنا الرباني الذي لم يترك الأسرة هملًا بل جاء بالرجولة المبكرة وليس بالطفولة المتأخرة؛ لأن الله يأبى إلا تكون هذه الأمة في مقام القيادة.
وفى هذه الدراسة، يتناول الباحث شوقي عبد الصادق، بعضًا من نماذج الرجولة المبكرة فى العقيدة والجانب الاقتصادي والعسكري والعبادة.
أولًا: الرجولة المبكرة في جانب العقيدة
يذكر لنا القرآن نموذجين من أصحاب العقيدة السلمية منذ الصغر ويخرجون بهذه العقيدة على قومهم، النموذج الأول هو خليل الله سبحانه- إبراهيم عليه السلام-، قال تعالى: {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 59-60].
وقال تعالى عن هذا الفتى: {ولَقَدْ آتَيْنَا إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51].
قال ابن كثير عن الرشد الذي أوتيه من صغره هو قوله لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ وأن الله أتاه رشده من صغره يعني ألهمه الحق والحجة على قومه. وقال عن معنى {فتى}: أي شابًا، وقال السمرقندي نقلًا عن مجاهد: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل} يعني قبل بلوغه، وقال الكلبي: «ألهمناه رشده والخير وهديناه قبل بلوغه».
والنموذج الثاني للرجولة المبكرة في القرآن العظيم في جانب العقيدة هم أصحاب الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْنَاهُمْ هُدًى {13} ورَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا} [الكهف: 13، 14].
والشاهد من الآية أن هؤلاء الفتية الصغار الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال آمنوا بربهم ولما لم يستطيعوا أن يغيروا هذا المنكر اعتزلوهم ودخلوا الكهف فنشر لهم ربهم من رحمته وجعلهم آية للعالمين، حقًا إنها الرجولة المبكرة الناشئة على توحيد الله تعالى التي تأخر عنها آباؤهم وأقوامهم واتخذوا من دون الله آلهة. فإذا قال قائل: إن سن الطفل يمتد إلى الثامنة عشرة من عمره فهل هذا يعارض القرآن أم يوافقه؟!
ثانيًا: الرجولة المبكرة في الجانب الاقتصادي
يربي القرآن أهله على الرجولة المبكرة في الجانب الاقتصادي لتكون دولة الإسلام قوية اقتصاديًا يديرها خبراء في الاقتصاد الإسلامي تدربوا منذ صغرهم على إدارة الأموال، ولم يتركوا هملا يأخذون مصروفاتهم من آبائهم أو أمهاتهم حتى سن الثامنة عشرة ولنسمع القرآن وهو يقول في محكم التنزيل: {وابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ولا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ومَن كَانَ غَنِيًا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء:6].
والشاهد أن اليتيم إذا بلغ الحلم وكان سويًا في تصرفاته واختبره وليه في إدارة بعض الأموال البسيطة بيعًا وشراء وتبين رشده دفع إليه كل ماله، ومع بداية سنوات البلوغ يتحمل المسئولية ويزداد يومًا بعد يوم خبرة في إدارة الأموال، ويكون مثله مثل الرجال الكبار، إنها التربية القرآنية.
وكذلك السنة فيها الخير، فعن عمرو بن حريث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعبد الله بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان أو الصبيان، قال: «اللهم بارك له في بيعه» أو قال: «في صفقته».
والشاهد هو رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمارس عبد الله بن جعفر الطيار -في الجنة- التجارة منذ الصغر وهو يبيع بيع الغلمان والصبيان، نعم إنها الرجولة المبكرة في إدارة الأموال والتكسب الحلال، وليست الطفولة المتأخرة حتى الثامنة عشرة، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم في عمل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه في هذه السن عيبًا وهو ابن عمه، بل دعا له بالبركة.
رابعًا: الرجولة المبكرة في العبادة
قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَالِ {36} رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وإقَامِ الصَلاةِ وإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأَبْصَارُ} [النور: 36-37]، إنها صلاة الجماعة وعمارة المساجد، وقد يكون إمام هؤلاء المصلين أصغر المصلين سنًا، لأن الأحق بالإمامة ورد بيانه في حديث أبي مسعود عقبة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه».
وأورد البخاري عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس؟ ما هذا الرجل فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه أو أوحى الله بكذا فكنت أحفظ ذاك فكأنما يقر صدري، حتى قال: وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقًا، فقال: فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنًا، فنظروا لم يكن أحد أكثر قرآنًا مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأن ابن ست أو سبع سنين.
والشاهد من ذلك أن إمام المصلين قد يكون صبيًا لأنه أكثر المصلين قرآنًا لكنه في أفعال وأحوال الرجال في عمارته لبيت الله يسبح لله في هذه البيوت بالغدو والآصال وخلفه الرجال، وعمر كان ابن ست أو سبع سنين.
خامسًا: الرجولة المبكرة في الجوانب الاجتماعية
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ ومِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ ولا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{58} وإذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58-59].
في الآيتين الكريمتين يستأذن الأطفال الذين لم يبلغوا الحكم في الدخول على أقاربهم في الأوقات الثلاث المذكورة، لأنها أوقات عورات وتخفف من الثياب، وخلوات مع الأهل، وليس عليهم جناح أن يمكنوا من الدخول في غير هذه الأوقات، ولا عليهم إن رأوا شيئًا في غير تلك الأحوال، ولكن إذا بلغ الطفل الحلم ورأى في منامه ما ينزل من الماء الدافق الذي يكون منه الولد فقد أصبح مثله مثل الكبار تمامًا ومثل الأجانب، أي وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه، إنها الرجولة من أول بشائرها في التعامل مع الأحوال الاجتماعية ودخول البيوت.
.