ليس فى الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة، ولقد امتلأ القرآن الكريم بتصوير هذه الناحية خاصة، وضرب الأمثال فيها بالإجمال تارة وبالتفصيل تارة أخرى، وعالج هذه النواحي علاجًا دقيقًا واضحًا لا تأخذ به أمة حتى تصل إلى ما تريد.
فالأمل هو ما يجعل لحياتنا معنى، ويحفز الإنسان على التغيير، كما أنه متواجد مع كل إنسان في كافة مواقفه الحياتية.
ففي الوقت التي تظلم فيها الدنيا ويشعر الإنسان أن الظلم قد علا، ولا مقام للمظلوم على هذه الأرض ينبعث الأمل في النفوس، فقد يَتحول كُلّ شيء ضدك ويبقى الله معك، فكن مع الله يَكن كل شيء معك، وهكذا عاش الإمام حسن البنا.
حسن البنا الذي ولد في بيئة قد امتلأت ظلمًا وجورًا، فالاستعمار جاثم على الوطن، ومتحكم في مقدراته فلا يؤخذ فيه قرار إلا بأمره، ولا يباع فيه شيء إلا بأذنه، ومع ذلك نشر الفاحشة والفجور وسط أبنائه، وعلى الرغم من ذلك ظل حسن البنا متعلقًا بالأمل في مولاه.
وانطلق من أمله إلى رحاب العمل والتغيير، ولم يجلس منتظرًا أن يفيض الأمل عليه من السماء، لكنه قرأه في كتاب ربه، وأنزله على أرض الواقع فبعث الأمل في نفوس.
لقد وصف البنا حال الأمة بقوله: «فتبدو هزيلة ضعيفة يطمع فيها الطامعون، وينال منها الغاصبون، فلا تقوى على رد غاصب، ولا تمنع من مطامع طامح».
ثم أضاف: إن نهضات الأمم جميعًا إنما بدأت على حال من الضعف يخيل للناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغى ضرب من المحال، ومع هذا الخيال فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجو القائمون بها من توفيق ونجاح[1].
أهمية الأمل عند البنا
1- أمل وعمل: عمد الإمام البنا إلى غرس الأمل في نفوس الجميع، وحثهم على العمل من أجل التغيير فقال تحت عنوان [أمل وشعور]: «وأحب أن تعلم- يا أخي- قبل أن أتحدث لك عن هذه الوسيلة أننا لسنا يائسين من أنفسنا، وأنّا نؤمل خيرًا كثيرًا، ونعتقد أنه لا يحول بيننا وبين النجاح إلا هذا اليأس، فإذا قوى الأمل في نفوسنا فسنصل إلى خير كثير إن شاء الله، لهذا نحن لسنا يائسين ولا يتطرق اليأس إلى قلوبنا والحمد لله، وكل ما حولنا يبشر بالأمل رغم تشاؤم المتشائمين.. ولقد أتى على هذه الأمم الشرقية حين من الدهر جمدت فيه حتى ملها الجمود، وسكنت حتى أعياها السكون، ولكنها الآن تغلى غليانًا بيقظة شاملة فى كل مناحي الحياة، وتضطرم اضطرامًا بالمشاعر الحية القوية والأحاسيس العنيفة. ولولا ثقل القيود من جهة والفوضى فى التوجه من جهة أخرى لكان لهذه اليقظة أروع الآثار، ولن تظل هذه القيود قيودًا أبد الدهر فإنما الدهرُ قُلَّبٌ، وما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال[2].
2- حاجة الأمم إليه: كان يرى الإمام البنا حاجة الأمم إلى الأمل، فيذكر ذلك بقوله: تحتاج الأمة الناهضة إلى الأمل الواسع الفسيح، وقد أمد القرآن أممه بهذا الشعور بأسلوب يخلق من الأمة الميتة أمة كلها حياة وهمة وأمل وعزم، وحسبك أنه يجعل اليأس سبيلًا إلى الكفر، والقنوط من مظاهر الضلال، وإن أضعف الأمم إذا سمعت قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ﴾ [القصص: 5-6].
ويضيف: إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التبشير كله وقرأت ما إليه من قصص تطبيقية واقعية لابد أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيمانًا وروحًا، ولابد أن ترى فى هذا الأمل ما يدفعها إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدت، ومقارعة الحوادث مهما عظمت، حتى تظفر بما تصبو إليه من كمال[3].
ويؤكد في موضع أخر على ذلك بقوله: فإن الأمة إذا توفرت لها هذه الدعائم من الأمل والوطنية والعلم والقوة والصحة والاقتصاد فهي بلا شك أقوى الأمم والمستقبل لها[4].
3- الأمل سبيل النصر: حيث رأى أن النصر إنما يأتي بالإيمان والجهاد والأمل ولذا حث الإخوان عليه بقوله: فامتلئوا- أيها الإخوة- بالأمل فى انتصار دعوتكم مهما تألبت عليها قوى الناس أجمعين، ولن نؤتى إلا من ناحيتين: أن نختلف ونتنازع فتذهب ريحنا، أو نضعف عن القيام بواجبات الدعوة ومستلزماتها، فيتخلى عنا ربنا[5].
وانطلاقًا من هذه الأهمّية للأمل مارسه عمليًّا فأمل في بعث مجد الإسلام، حيث قال في (رسالة المؤتمر السادس): «ولنا بعد ذلك آمال جسام في إحياء مجد الإسلام وعظمة الإسلام، يراها النّاس بعيدة ونراها قريبة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}، [الروم:60]»[6].
4- حياة القلوب من خلال القرآن: حيث حث الجميع على استشفاف الأمل من بين الآيات القرآنية والعمل بها، فيقول: فأنت ترى من هذا أن القرآن الكريم يحرم اليأس والقنوط على المؤمنين، ويفتح أمامهم باب الأمل سهلًا فسيحًا، يدعوهم إلى ولوجه ويناديهم مناديه: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23] تلك هي النظرات الإيجابية التي تحدونا إلى العمل، وتمد قلوبنا بحرارة الأمل القوية المشرقة[7].
أمل الدعوة والدّاعية
تحوّل البنَّا إلى أمل في عيون تلامذته، وفي عيون المنصفين من مثقّفي الغرب وإعلاميه؛ أمّا تلامذته فقد قال عبد البديع صقر تحت عنوان سعة أمله: وكان واسع الأمل– أو قلْ– واسع الخيال، وهي صفة لابدّ منها لكلّ مصلح، وأحيانًا يستفتح الحديث بقوله: دعونا نتخيّل وجود شعب مؤمن فاهم، يحقّق كذا وكذا. ومن كلماته السائرة: «حقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد»[8].
كما حث الإخوان أن يكونوا هم الأمل الذي ينشده المجتمع فيقول: وأن يلتف الناس حولكم، وتنتهي الثقة إليكم، ويحف الأمل بكم حين فقد الناس أملهم وثقتهم، وكاد كل واحد يشك حتى فى نفسه[9].
وحث الجميع على الصبر والثبات حتى يتحقق أمل الحالمين بعز الأوطان، فيقول في ذلك: وما أروع أن تشهد ذلك النموذج الخالد من الثبات والصبر والاستمساك بعروة الحق، والاستهانة بكل شيء حتى الحياة في سبيل الإيمان والعقيدة: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (طه: 72)، فإذا رأيت كل ذلك رأيت عاقبته فى القسم الخامس، وما أدراك ما هيه، فوز وفلاح، وانتصار ونجاح، وبشرى تزف إلى المهضومين، وأمل يتحقق للحالمين، وصيحة الحق المبين تدوي فى آفاق الأرض[10].
كما ثمن تفهم الأزهر الشريف لحقيقة دعوة الاخوان، واعتبرها طاقة أمل فيقول: وإنا لنعتبر ذلك من علامات التوفيق، ونلمس كل يوم تقدمًا جديدًا فى هذا الباب يدعونا إلى الأمل القوى والمثابرة ومضاعفة المجهود: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126][11].
روافد الأمل عند البنَّا
صرّح البنَّا ببعض روافد فكرة الأمل لديه، وبعضها يُستشفّ من بنائه استشفافًا:
1- فأوّل هذه الرّوافد التي استقى منها الأمل هو القرآن الكريم، فقد كان كثيرًا ما يستشهد في مواطن حديثه عن الأمل بالآيات التالية:
ـ (إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [لأعراف:128].
ـ (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105].
ـ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].
ـ (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21].
ـ (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].
ـ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [الأنفال:12].
ـ (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47].
ـ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ) [القصص:5]، وبغيرها من الآيات.
2- سنن الله في تربية الأمم وإنهاض الشّعوب بعد أن تشرف على الفناء.
3- تجارب التّاريخ والسّير فقد قال: «إنّ أضعف الأمم إذا سمعت هذا التّبشير كلّه، وقرأت ما إليه من قصص تطبيقيّة واقعيّة، لابدّ أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيمانًا وأرواحًا»[12].
وصية مصلح
لم تكن روح حسن البنا الوثابة بالأمل تعمل من أجل تغير أنصاره، لكن كان ينشد تغير سلوك وتصرفات المجتمع كله بل الأمة الإسلامية، ويغرس فيهم روح الأمل لكي تحي القلوب وتثق بربها، فيقول: «أيها المسلم الكريم ندعوك أن يمتلئ صدرك بالأمل فى النجاح، فليس اليأس من أخلاق المؤمنين، وحسبك شرفًا أن تموت فى ميدان الجهاد لخير أمتك»[13].
عناصر النجاح
حدد البنا عناصر النجاح بقوله: «وبهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل فى تأييد الله إياها، أحيا الراعي الأول- صلى الله عليه وسلم- قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله، وحدد لهم أهدافهم فى هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة فى صدورهم أو مصاحفهم، بادية فى أخلاقهم وأعمالهم، معتزين بتكريم الله إياهم، واثقين بنصره وتأييده، فدانت لهم الأرض، وفرضوا على الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة، وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدلوا فيها سيئات المادية الجامدة حسنات الربانية الخالدة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره»[14].
الرعيل الأول والأمل العملي
ترجم تلامذة الإمام حسن البنا الأمل ترجمة عملية كما تعلموها من القرآن وسنة النبي العدنان وسير الصالحين الكرام، ففي وسط المحن كان يحدوهم الأمل.
يحكي الأستاذ عمر التلمساني كيف كان العيد في السجن:
«كان سجن الواحات أكثر سجن استمتعنا فيه بحرية تصرف واسعة.. فزرعنا الرمل جرجيرًا وفجلًا وبطيخًا وشمامًا.. وربينا الدواجن من دجاج وأرانب، وأحضر لنا السيد محمد حامد أبو النصر خرافًا لنذبحها في عيد الأضحى، وكنا نصلي الفرائض جماعة ونصلي الجمعة والعيدين، وكنا نتبادل الخطب ودروس الثلاثاء، وكنا نتمنى أن نقضي فترة السجن هناك، ورغم قسوة الجو التي تبلغ 52 درجة في الظل صيفًا و6 درجات تحت الصفر شتاء، ورغم كثرة الثعابين والحيات قد أبعدها الله عنا بالمرة، ولكن عز على عبد الناصر ما كنا فيه، فوزعنا على سجون الوجه القبلي، ومرت السنون وأمضيت من عمري سبعة عشر عامًا في السجون، ولست آسفًا على ما حدث، ولكني شاكر كل الشكر أن ثبتني الله على المحنة دون أن أحني رأسي لظالم، ولأن يموت الرجل واقفًا مرفوع الرأس أمام خصمه أفضل وأشرف من أن يموت جاثيًا تحت قدميه، ويا لها من حكمة تتناقلها الأجيال عن أسماء بنت أبي بكر وهي تحث ابنها عبد الله بن الزبير على الرجولة في مفاوضاته مع الحجاج قائلة: «ولضربة سيف في عز أكرم ألف مرة من ضربة سوط في ذل».
المصادر
[1] حسن البنا، مجموع الرسائل، رسالة إلى أي شيء ندعو الناس، البصائر للبحوث والدراسات، القاهرة، 2009م، صـ81.
[2] رسالة إلى أي شيء ندعو الناس: مجلة الإخوان المسلمين، العدد العاشر، السنة الثالثة، 17 ربيع الأول 1354ﻫ- 18 يونيو 1935م، صـ3-4.
[3] رسالة نحو النور: جريدة الإخوان المسلمون: العدد (40)، السنة الرابعة، 29شوال 1355ﻫ/ 12يناير 1937م، صـ1-3.
[4] المرجع السابق: العدد (42)، السنة الرابعة، 13ذو القعدة 1355ﻫ/ 26يناير 1937م، صـ1.
[5] الإخوان المسلمون اليومية، العدد (721)، السنة الثالثة، 4 ذو القعدة 1367ﻫ- 7 سبتمبر 1948م صـ1.
[6] رسالة المؤتمر السادس، البصائر للبحوث والدراسات، مرجع سابق، صـ490.
[7] مجلة الإخوان المسلمين، العدد (13)، السنة الثانية، 21 ربيع الثاني 1353ﻫ- 3 أغسطس 1934م، صـ3-6.
[8] جمال ماضي: الأمل للإمام حسن البنا، موقع رابطة أدباء الشام، 2008م.
[9] رسالة مؤتمر رؤساء الشعب والمناطق: مرجع سابق، صـ619.
[10] رسالة إلى أي شيء ندعو الناس: مرجع سابق، صـ67.
[11] رسالة المؤتمر الخامس: صـ 383.
[12] جريدة الإخوان المسلمين: 29شوال 1355ﻫ، مرجع سابق.
[13] رسالة إلى أي شيء ندعو الناس: مرجع سابق، صـ41.
[14] رسالة دعوتنا في طور جديد: صـ538.
.