Business

أبو العربي مصطفى يكتب: تربية الأبناء.. بين صبر نوح وحكمة لقمان عليهما السلام

تربية الأولاد من واجبات الأبوين، والتي أمر الله تعالى بها في القرآن وأمر بها الرسول ﷺ، وقد قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

فالطفل يولد، ويبدأ مع مرور الأيام باكتساب المهارات الأساسية التي تمكّنه من التفاعل مع البيئة المحيطة فيه، ويسعى الأبوان إلى تأديب الطفل، وتعليمه ما يصح وما لا يصحّ، ويختلف ذلك بحسب تقاليد البلد الذي تعيش فيه هذه الأسرة، والموروث الثقافي لها، والبيئة الاجتماعية التي توجد ضمنها، وتنعكس تربية الطفل على سلوكه بشكل مباشر، وهذا ما يجعلنا نلحظ تمايزًا بين طفل وآخر من الفئة العمرية نفسها. وقد عني الإسلام بالتربية، وجعلها أساس نهضة الأمة، من خلال وجود العديد من أسس تربية الأبناء في الإسلام.

وعلى الرغم من أنه ليس من السهل على الطفلِ إدراك المعاني المجردة البعيدة عن المثال الحي؛ لذلك فهو يحتاج مع ذلك إلى المثالِ الواقعي المشاهَدِ، الذي يدعمُ تلك التعاليمَ في نفسِهِ، ويجعله يُقْبِلُ عَلَيها ويَتَقَبَّلُها ويعملُ بها، فنراه يتابع تصرفات الأب والأم ومن يكبره ويسعى لتحقيقها والتمثل بها، والاقتداء بما يعملون دون إدراك صواب ما يفعلونه أو خطأه.

وهذا ما يجعل الأبوين يقظين من الوقوع في المواقف السلبية التي تترك انطباعًا سيئًا على الطفل في التربية، ولنا في مقوله عمرو بن عتبة التي يرشد فيها معلِّم ولدِه، قائلاً: «ليكن أولَّ إصلاحكَ لبنيَّ إصلاحُك لنفسِك؛ فإن عيونَهم معقودةٌ بعينك، فالحَسَنُ عندهم ما صَنَعْتَ، والقبيحُ عندهم ما تركت».

ومن المهم أن يدرك الأبوان طبيعة طفلهما فلا يأخذاه بالعنف والشدة في كل الأحيان، كما لا يعتمدون المدح والإطراء أسلوب حياة للتعامل معه؛ حتى لا يخرج كارهًا وحانقًا على نفسه وأسرته ومجتمعه، أو يخرج إمعة يقلد كل ما يراه دون تمييز أو وعي.

فالوالدان هما الأجدر بتشكيل قناعات أبنائهما تجاه القدوات في المجتمع، مع الأخذ في الاعتبار أنه ربما لا يتحقق في الأبناء ما يرجوه الآباء، وهذا ما يجعلهم يضيقون بتصرفات وأخلاق أبنائهم، فليس مطلوبًا من الوالدين إلا الأخذ بالأسباب والاجتهاد في التربية وتوفير الجو التربوي الإيماني.

لكن إذا لم يتحقق ذلك؛ فلا بد من مزيد في التفنن في الأساليب مع الصبر والحكمة، وهذا ما سلكه سيدنا نوح عليه السلاح، حيث ظل صابرًا على كفر ابنه يدعو ويزين له الإيمان.

كما لا بد على الآباء من النصح والوعظ والتعليم وغرس مكارم الأخلاق فيهم ليس بالقدوة فقط لكن بالتعليم المستمر والإرشاد، وهذا ما سلكه لقمان الحكيم مع ابنه.

 

نوح عليه السلام والرحمة الأبوية

بعث الله– تعالى– سيدنا نوح– عليه السلام– إلى قوم كانوا يعبدون الأصنام، فأمرهم بالمعروف وناههم عن عبادة هذه الأصنام؛ فكفروا، وما آمن معه إلا قليل.

وقد ابتُلي نوح عليه السلام بكفر زوجته وبعض بنيّه إلا أنه ظل رحيمًا بهم، داعيًا لهم، راجيًا الهداية لهم خلال مسيرة دعوته التي قُدرت بتسعمائة وخمسين عامًا.

فحينما جاء أمر الله مع استمرار ابنه على معتقداته– رغم أن أباه نبي ورسول– إلا أن لغة الأبوة تجلت في هذا المشهد التربوي، الذي يجعل أبًا حليمًا في التربية مع النصح، يقول الله تعالى: {وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}(هود: 42- 43).

ثم يقول: {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(هود: 45- 46).

فلو نظرنا لهذه الآيات لوجدنا مدى العمق التربوي الذي برز في عنصر الحوار الرائع الفريد بين النبي المشفق، والابن المتمرد الذي أبى أن يؤمن برسالته، واستمر على كفره مع من كذبوا نوحًا (عليه السلام)، فنوح عليه السلام لم يستغل كونه النبي المرسل، ولا سلطته الأبوية في إجبار ابنه على الإيمان، وفرضه عليه، ولم يدفعه تصرف ابنه العاق إلى الغضب، والخروج عن منهجية الحوار البناء في تعامله معه، بل حرص نوح عليه السلام على الأخذ بأسباب صلاح ابنه بالحوار والتفاهم والدعوة بالموعظة الحسنة، ولم يفقد الأمل حتى في آخر لحظة: {... وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ ...}.

يقول محمد عباس عرابي: لقد استمرت محاورة نوح- عليه السلام- بدعوة ابنه إلى الإيمان بعد بدء جريان السفينة به، ومن معه في موج كالجبال، إشارة إلى ضرورة حرص المربي على مواصلة دوره في التربية بالحوار حتى في آخر اللحظات إذا أمكنه ذلك.

ومن هنا فإن على الآباء أن يدركوا أهمية التوازن والوسطية في تربية الأبناء؛ لأنهم لن يستطيعوا صنع مستقبلهم أو تحديد مصيرهم، إنما عليهم بذل ما في وسعهم من توفير أسباب النجاح في حياتهم، والتوكل على الله والتسليم له عند حصول النتيجة.

لقد تجلت تربية نوح عليه السلام في الحرص على اتخاذ أسلوب الحوار منهجًا يتبعه الأب في تعامله مع الابن ومع غيره؛ لأنه يمثل القدوة الحسنة، فالموقف الحواري الذي يستخدم فيه الأب أسس الحوار وآدابه ومهاراته قد يكون أشد تأثيرًا على الابن من التلقين المباشر، وهذا يتطلب من الأب العناية والانتباه إلى تطبيق كل ما يعين على تحقيق الحوار الفعال والإيجابي في أي موقف، واستخدام النداء الدال على شفقة الأب: يا بُنَيَّ.

 

لقمان ورسم الطريق

لقمان الحكيم أحد الحكماء الذين أخبر الله تبارك وتعالى عنه في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} (لقمان: 12).

ولقد اشتملت نصائح لقمان الحكيم لابنه على أصول التربية القويمة، وكانت صورة صادقة، خالية من الشبهة، بعيدة عن الأعراض المصلحية، تحمل في طياتها كل معاني الإصلاح، ومرتكزات التربية السليمة، وهي تدل على العمق التربوي عند قائلها، كما تدل على المعرفة العميقة للنفس البشرية، وما يدور فيها من خواطر وأحاسيس، وما ينازعها من قضايا ونوازع.

لقد حمل المبدأ الأول في التربية من حيث الاقتناع بالفكر، والدفاع عن التصور وهو عدم الشرك بالله: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13).

لقد حرص لقمان على الانتقال التربوي من مرحلة لمرحلة بطريقة متناسقة حسب أولويات التربية، حيث كانت العقيدة في أولويات هذا السلم، ثم كانت الرحمة بالوالدين: { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ}، ثم التأكيد مع هذه الرحمة عدم الانزلاق في الأمور الإيمانية والعَقَدية بالله، فجاء التأكيد: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ...} (لقمان: 15).

لقد حرص لقمان على البلوغ بالأصل التربوي العظيم من خلال نصائحه لابنه وهو يعرض عليه قضايا الوجود، وسلوكيات الحياة، بما يتناسب مع شخصية الابن الموجَّه، وثقافة زمانه، وبأمثلة فكرية من واقع الحياة تتلاءم مع مستوى الابن الذهني.

وبعد أن تعايش معه عمليًا في الكون الفسيح ومن خلقه بقدرته، وحسن المراقبة له، ذكَّره، بأن الله صاحب السلطان والقدرة، ومالك الأمر كله، وأنه سبحانه له حقوق على كل البشر: {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17).

وهذا الأمر بالمعروف يعني مخالطة الناس، والصبر على أذاهم، وتبني قضاياهم، وتقديم الحلول الصالحة لمشاكلهم، والقيام بحركات إصلاحية، شعارها الأمر بالمعروف.

يقول أحمد مصطفى: «والتربية التي تعنى بنقل الفرد من واقعه المحدود إلى واقع الآخرين ليعيش حياتهم وقضاياهم، غير التربية التي تعنى بذات الفرد للفرد ذاته، فتلك تربية قويمة أصيلة، وهذه تربية ناقصة عرجاء».

وكأن لقمان يشير إلى أن التربية السليمة للفرد تلك التي تنقل الفرد من العيش لنفسه إلى العيش للآخرين، والتضحية بنفسه لا لنفسه وإنما لأنفس الآخرين.

ثم كانت القاعدة الأهم لنيل احترام الناس: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا}، حيث يحثه على عدم الكبر أو الغرور؛ حتى لا ينفر منه الناس، بل يعمل على نيل احترامهم مع الاحتفاظ بكرامته واستعلاءه على الدنيا مع التواضع والإيناس، وهي توازن بين كل جوانب الحياة.

بل لم يترك حركة الجسم التي تدل على استقامة الشخصية من خلالها، فذكر له قبل أن يؤكد له على اعتدال الصوت: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}.

لقد كانت القواسم التربوية مشتركة بين نوح عليه السلام ولقمان الحكيم في تربية الأبناء والعناية بذلك.

والحياة تحتاج أن نستثمر ونتاجر في هذه البضاعة.. بضاعة تربية الأبناء التربية الحقيقية.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم