يعد التاسع من شهر الله المحرم واليوم العاشر ملخص لأمتين آمنوا بالله ربا، اجتمعتا عليهما سهام الظلم والطغيان، فكانا يومين أظهر الله فيهما الحق والنصر.
لقد عاش شعب مصر في أمان في ظل نبوة يوسف عليه السلام حتى مات، وتداولت الأيام حتى نسى المصرين وملوكهم عبادة الله، بلغت ذروتها مع فرعون مصر الذي نطق: {أَنَا رَبُّكُم الْأَعْلَى}، واستخف قومه فأطاعوه حتى اختلق بعض أصحاب المصالح قصة أن دمار ملكه على يدي طفل من بني إسرائيل ليزداد ظلما وطغيانا، حيث يصف الحق– سبحانه– المشهد بقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص4)، إلا أن تصاريف القدر كان لها شأن آخر، حيث عاش وتربى من سيكون سببا في دمار ملكه داخل قصر، حتى شب وكبر وصار نبيا رسولا دعا بني إسرائيل للإيمان بالله الواحد القهار: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (يونس83).
العجيب أن قبط مصر ساروا خلف ملكهم فرعون في كل ما نادى به، فحينما أمر الله موسى ومن معه بالخروج نادى فرعون فيهم: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} (الشعراء54، 55).
ولقد كانت أول معالم ذلك النصر اجتماع موسى- عليه السلام- بأتباعه يوصيهم ويثبتهم ويرشدهم، ويربطهم بفاطر الأرض والسماء: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84]. ويأتي الجواب مطمئنًا لموسى- عليه السلام- ممن تربوا في هذه المدرسة النبوية فقالوا: {فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85] أمرهم بالتوكل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه، فأتمروا بذلك، فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجًا ومخرجًا.
ويأتي الثاني من معالم النصر بشرى الله لهم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87].
فقد أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى وأخيه هارون -عليهما السلام- أن يتخذوا لقومهما بيوتًا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط؛ ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض، وفي هذا العمل تأكيد على مبدأ فعل الأسباب، وأنه ينبغي أن يقرن بالتوكل على الله تعالى.
ثم كان الأمر بالخروج والذي كانت تحيطه معاني حسن التوكل على الله سبحانه، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقوا بموسى -عليه السلام- ومن معه، وبالفعل لحق بهم وتراءى الجمعان مع شروق الشمس فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، فجاء الجواب الواثق من ربه: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فكان الأمر: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} [الشعراء: 63]، وتحول البحر إلى يابسه وانطلق موسى ومن معه ونظر فرعون وهو خائف مما حدث، غير أن كبره وغروره دفعه لينطلق خلف موسى، وانطلق معه جيشه العرمرم الذي لم يحكم واحد منهم العقل ويحكمه في هذه الآية التي لم يروها ولم يسمعوا عنها من قبل، وصدق الله فيهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (الزخرف54)، فكان العقاب الرباني الأليم حينما نزل فرعون وجنوده أجمعين، حتى هَمَّ أوَّلهم بالخروج منه، عند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فارتد عليهم البحر كما كان فلم ينج منهم إنسان، قال الله تعالى: {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 65-67].
وحينما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برسالته الغراء وهاجر إلى المدينة ونظر إلى فرح اليهود بهذا اليوم، وعرف أنه يوما نجى الله فيه موسى – عليه السلام- ومن معه قال: «نحن أولى بموسى»، وصام هذا اليوم وحث أمته أن تصومه إلا أنه خالف اليهود بصيام يوم تاسوعاء فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا؛ فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم»، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه (رواه البخاري ومسلم).
وها هو شهر المحرم يُقْبِل علينا ليدعوا المسلمين للصيام، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ» [رواه مسلم]، فشهر المحرم به يوم له فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة وهو يوم عاشوراء.
يوم عاشوراء هو أفضل يوم في شهر المحرم، فيقع صيام يوم عاشوراء في منزلةٍ تلي منزلة صوم عرفة، ذلك أنَّ صيام يوم عرفة يكفِّر سنتين، أما صيام عاشوراء فيكفِّر سنة واحدة، وإن تكفير سنةٍ كاملةٍ لا شك في أنه خير كبير وفضل عظيم أيضًا.
فليحرص المسلم على صيامه ليمحو آثامه وذنوبه التي اقترفها في عام كامل وما أكثرها، خاصة في زماننا هذا الذي هُجر فيه الدين فصار غريبًا، وفشت فيه جميع المعاصي والمنكرات والقبائح والرذائل، حتى بات المتدين لا يكاد يجد بقعة من الأرض يطمئن فيها إلى الحفاظ على دينه، والسلامة من الشرور والآثام.
قد أمرنا النبي بمخالفة اليهود والنصارى في الصيام وفي كل شيء فما ورد في السنة عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما- يَقُولُ حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ».
يرى بعض الفقهاء أنّه يستحبّ للمسلم أن يوسع على أهله وأطفاله في عاشوراء، وقد استدلوا على ذلك يما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: «إنّه مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ» (رواه الألباني).
.