اشهر رمضان، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنات، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع فيه الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع الكرامات، ويجزل فيه لأوليائه العطيات، ويخنس فيه الشيطان، ويستحي منه كثير من اللصوص تعظيمًا له، وفيه تتآلف القلوب، وتصل الأرحام، وتقل المشكلات تكريمًا له.
وفيه تصمت الأفواه عن الفحش والمنكرات، وتفتح فيه صفحات القرآن ليتنافس فيه كل متنافس طامعًا من الجنان.
وفيه تمتلئ المساجد بالركع السجود وقت القيام، ومع نسمات الفجر الكريم تصطف الصفوف وتتصاعد الدعوات من قلوب ظلت تبتهل اللهم بلغنا رمضان.
شهر فيه يتنزل رب العالمين وينادي نداء ينتظره كل إنسان، كل إنسان احترق قلبه بلوعة الذنب فوقف يناجي رب العالمين، يرهف حسه، تشتعل جذوة الحب في صدره، وينتظر نداء ربه: «هل من تائب فأتوب عليه، وهل من مستغفر فأغفر له».
إن صيام رمضان ليس موسمًا بين المواسم، ولا مناسبة متميزة فحسب؛ بل هو مدرسة متكاملة الأركان والمناهج تخرج الربانيين الذين يَصلحون ويُصلحون، يتدربون فيها على تزكية أنفسهم وإصلاح غيرهم.
الرسالة القاتلة
على الرغم من الدور المهم والحيوي للإعلام في تبصير الوعي، ونقل الحقائق، إلا أن الكثير من وسائل الإعلام أغفلت الدور الحقيقي للإعلام وهو تثقيف وتوعية المجتمع، وقامت بدور آخر يتنافى تمامًا مع القيم الإسلامية.
وفيما يتأهب الكون لولوج هذا العالم الروحاني الرحب في مدارات الرحمة والبركة والمغفرة والأمن والأمان، يتأهب ما تبقى من شياطين الإنس في التحضيرات السنوية الهائلة من عام إلى عام لصرف القلوب إلى فضاءات البث المباشر.
يقول عبد العزيز كحيل: «يتربص بالصائمين المخلصين وشهرهم المتميِّز لصوص، لا يستهدفون اختلاسَ الأموال؛ وإنَّما سرقة روحانيَّة الشهر لإفراغِه من مقاصده وإهدار الطاقات الكبيرة التي يُفرغها في قلوبِ المؤمنين؛ وذلك بفَتح أبواب الوِزْر بدل الأجر من خلال تحويله إلى مَوسم للَّهو والمادِّيات وأنواع الانحراف، ويقف على رأس هؤلاء اللصوص أصحابُ معظم الفضائيات ومن يحتكرون الثقافةَ والتوجيه الجماهيري، وكأنهم يعلنون الحربَ على التديُّن عبر الإعلام الفاسد والسهرات الرمضانية، وحفلاتِ الغناء والرَّقص واللغو، التي تستغرق في أكثر البلاد العربية ليالي الشهر الفضيل كلَّها، حتى يذهب لغوُ الليل بثواب النَّهار ويفقد رمضان محتواه الروحي وبُعده الربَّاني.
لم يعد قطاع واسع من المسلمين يسمع عند حلول رمضان إلا ما يبشر باحتدام المنافسة بين القنوات الإعلامية التلفزيونية الفضائية وغير الفضائية.
وصدق الشاعر عائض البدراني:
شبابُنا ضاع بين الدشّ والقدمِ وهام شوقًا فمالَ القلبُ للنغمِ
يقضي لياليه في لهوٍ وفي سهرِ فلا يفيق ولا يصحو ولم ينمِ
يرسل هؤلاء برسائل قاتلة لصرف الشاب عن الطاعة والدعوة إلى ملاعب الكرة ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، والعمل على صرف الفتاة إلى الأزياء والحلي والعري والخلاعة.
لم يكتف الإعلام بهذا، بل سارع إلى إيقاد نار العداوة والبغضاء، وأصّل لكُرهٍ مفتعل بين الرجل والمرأة، وبين الزوج وزوجته، وبين الأب وأبنائه! فقيل للابن: أنت حر، وقيل للبنت: تمرَّدي على القيود، أنت ملكة نفسك.
إن الفرحة برمضان سرعان ما تغتال بتلك المخازي والمهازل التي دأبت القنوات الفضائية على بثها طيلة الشهر الكريم دون خوف أو وجل من الله تعالى.
لقد تفننت القنوات الفضائية في إغواء المشاهد، وإرغامه على البقاء ذليلًا أمام شاشاتها؛ بفضل الإخراج المتطور في صوته وصورته، المنحط في هدفه وفكرته إلا ما رحم الله.
ولذا فكثيرًا من القنوات لا تألو جهدًا- ماديًا أو لوجيستيا- لتقديم كل ما يمكن أن يقتنص أكبر عدد ممن يسيل لعابهم على ما تقدمه القنوات من موائد إعلامية إبّان الشهر المبارك.
لقد عمد الإعلام إلى تشويه معنى شهر رمضان، وتشويه صورة المجتمع المسلم، وإدخال مفاهيم غربية في ثقافتنا، وتشويه صورة المرأة والتي اختزلها فقط في المرأة المتبرجة والمتحررة، كما عمد الإعلام إلى إفساد الوقت بالملاهي والعبث.
وللأسف نجد بيننا ومن أموال بعض أثريائنا من يقوم بهذا الدعم لهذا الإعلام السيئ والمبتذل الذي (يفترض) أن يحاسب عنه كل صاحب قناة تصر على هذا الإفساد من خلال برامجها أو ما يبث في قنواتها.
كن قويًا واتخذ قراراك
تُرى هل أصبح من قبيل المستحيل أن نحلم بشهر رمضان يشبه ما كان عليه في الماضي من الروحانيات الراقية التي تفوح بعبق الإيمان والصدق والترابط والإخاء والمودة والإحسان والطهر والتقوى؟
لا بد من التصدي لما يقومون به، ولوضع الأطر التي تحمي بيوتنا، ومنها:
- استشعارنا بوجود هذا الداء في جسد الأمة.
- العودة إلى الإيمان الحقيقي بالله سبحانه وتعالى.
- إطفاء الفتنة وإخمادها بتقوى الله سبحانه وتعالى.
- محاربة العري وأخذ المجتمع بكافة طوائفه هذا الأمر على عاتقهم.
- تقديم مادة إعلامية دينية ترشد الأطفال وتحببهم في الإسلام ويكون ذلك بمسلسلات بثلاثية الأبعاد وكذلك الأناشيد.
- تثقف المجتمع دينيًا وتعرفيهم فوائد الصيام وتنمية الوازع الديني في نفوسهم.
- توجيههم للقنوات الهادفة والتي تعمل على تعليمهم الصلاة والفقه وأركان الإيمان والحج... والتي تبث تعليم القرآن الكريم والأحاديث النبوية بطريقة محببة للنفوس.
- عرض أفلام وثائقية تجذب الأسرة لمعرفة قصص الرسل والديانات مع حبكة طرح الموضوع بموضوعية وطريقة شيقة جدًا.
- مراقبة دور التمثيل وأفلام السينما والتشديد فى اختيار الروايات والأشرطة.
- تهذيب الأغاني واختيارها ومراقبتها والتشديد فى ذلك.
- حسن اختيار ما يذاع أو يعرض على الأمة من برامج ومحاضرات وأغانٍ وموضوعات، واستخدام الإذاعة والتلفاز فى تربية إيمانية خلقية وطنية فاضلة.
إن الصراع بين الخير والشر، وبين الطاعة والمعصية لن ينتهي إلا بإرادة حرة قوية وإيمانًا بالله عظيم، ولن يتحقق ذلك إلا بوجود الفرد المسلم، الذي يفكر ويخطط لإصلاح نفسه ودعوة غيره.
.