إن عنوان أي حضارة من الحضارات، في أغلب الأحيان هو تعليمها، لذلك فأي أمة أرادت أن تصلح شأنها عبر مؤسساتها المختلفة فلا بد لها منذ الوهلة الأولى أن تصلح أعظم هذه المؤسسات، مؤسسة التعليم، التي تحتضن الطفل في مراحله الأولى، وهي التي تلقنه المعارف الكفيلة بتقويم سلوكه.
وفى دراسة للباحث: سعيد امختاري، بعنوان: «الفكر التربوي عند شهاب الدين ابن أبي الربيع»، حاول فيها تقريب بعض مفكري تراثنا الذين تركوا بصماتهم واضحة على صفحات تاريخ التربية والتعليم، فوقع اختياره على شهاب الدين بن أبي الربيع.
التعريف بشهاب الدين بن أبي الربيع
اختلف كثير من الدارسين حول شهاب الدين بن أبي الربيع، واختلفوا على وجه الخصوص في الحقبة الزمنية التي عاش فيها، فمنهم من يقول إنه عاش في زمن المعتصم وله ألّف كتابَ (سيرة المالك)، بينما يرى آخرون أنه عاش في زمن المستعصم، والسبب في ذلك أن كُتب التراجم لم تذكر عنه شيئًا سوى ما ينقله الدارسون عن حاجي خليفة في (كشف الظنون)، ورغم ذلك لم يوافقه البعض منهم، وعمدتي في هذا مقدمات المحققين، لكتابه، وعلى رأسهم الدكتور حامد ربيع الذي يقطع بشدة أن شهاب الدين بن أبي الربيع عاش زمن المعتصم، وأنه توفي سنة 272 هـ.
ملامح الفكر التربوي عند شهاب الدين بن أبي الربيع
المرجع الوحيد في استخلاص الفكر التربوي عند هذا الإمام هو كتابه النفيس (سيرة المالك في تدبير الممالك)، رغم أن هذا الكتاب ألفه في السياسة وتدبير الملك وقوانين الحكم والأخلاق المتعلقة بالإنسان عمومًا، فإنه لم يغفل البدايات الأولى التي تعتبر الأصل في تكوين هذا الإنسان، ألا وهي التربية والتعليم.
يقول شهاب الدين بن أبى الربيع: «أما الولد فينبغي أن يؤخذ بالأدب من صغره، فإن الصغير أسلس قيادة وأسرع مواتاة، ولم تغلب عليه عادة تمنعه من اتباع ما يراد منه، ولا له عزيمة تصرفه عما يؤمر به، فهو اعتاد الشيء ونشأ عليه خيراً كان أو شرًا، ولم يكد ينتقل عنه، فإن عُوِّد من صِباه المذاهب الجميلة والأفعال المحمودة بقي عليها ويزيد فيها إذا فهمها، وإن أُهمل حتى يعتاد بما تميل إليه طبيعته مما غلب عليها أو أشياء ردية مما ليس في طبيعته، ثم أخذ بالأدب بعد غلبة تلك الأمور عليه، عسر انتقاله مع الذي يؤذيه، ولم يكد يفارق ما جرى عليه؛ فإن أكثر الناس إنما يؤتون من سوء مذاهبهم من عادت الصبا. واعلم أن أصلح الصبيان من كان منهم على الحياء وحب الكرامة، ومن كانت له ألفة، فإن كان كذلك كان تأديبه سهلًا، ومن كان من الصبيان بالضد عسر تأديبه، ثم لا بد لمن كان كذلك من تخويف عند الإساءة، ثم تحقيق ذلك بالضرب إذا لم ينفع التخويف، ثم الإحسان إذا أحسن».
الفروقات الفردية بين الصبيان
لننظر إلى هذا النص الحافل لشهاب الدين بن أبي الربيع إذ يقول: «فأما مراتب الناس في قبول الأدب، الذي سميناه خلقًا، والمسارعة إلى تعلمه، والحرص عليه، فإنها كثيرة، وهو يشاهَد ويعايَن فيهم، وخاصة في الأطفال، فإن أخلاقهم تظهر فيهم منذ مبدأ نشوئهم، ولا يسترونها بروية ولا فكر، كما يعمل الرجل التام الذي انتهى في نشوئه، وكماله، إلى حيث يعرف من نفسه ما يستقبح منه، فيخففه بضرب من الحيل والأفعال المضادة لما في طبعه. وأنت تتأمل من أخلاق الصبيان واستعدادهم لقبول الأدب نفورهم عنه، وما يظهر في بعضهم من القِحَةِ، وفي بعضهم من الحياء، وكذلك ما يُرى فيهم من الجود والبخل، والرحمة والقسوة، والحسد وضده، إلى سائر الأحوال المتفاوتة، وما تعرف به مراتب الإنسان في قبول الأخلاق الفاضلة، وتعلم منه أنهم ليسوا مرتبة واحدة، وأن فيهم المواتي والممتنع، السهل السلس والفظ العسر، والخير والشرير، والمتوسط بين هذه الأطراف في مراتب لا تحصى كثيرة. إذا أهملت الطباع ولم ترض بالتأديب والتقويم نشأ كل إنسان سوء طباعه، وبقي عمره كله الحال التي كان عليها الطفولية، وتبع ما وافقه بالطبع، إما الغضب وإما اللذة، وإما الدعارة وإما الشره».
ثم يستمر شهاب الدين بن أبي الربيع في ذكر أصناف المتعلمين وفي موضع آخر، في تقسيم بارع، وذلك عند حديثه عن سيرة الإنسان مع من دونه من الناس، فذكر أنهم صنفان، منهم: متعلمون، وهم على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ذوو الطباع الجيدة: وينبغي ألا يدخر عنهم شيئا من العلوم، ويعرف أقدارهم، وأذهانهم.
الضرب الثاني: هم البُلداء: هم الذين فيهم أدنى ذكاء لا ترجى براعتهم، فليحملهم على ما هو أعود عليهم، ليكتسبوا به ما ينفعهم.
الضرب الثالث: ذوو الطباع الردية: هم الذين قصدُهم بالعلم استعماله في الشر، فينبغي أن يحملهم على تهذيب الأخلاق، وإزالة ذلك من نفوسهم.
خطوات منهجية في التنشئة
أ- نفساني:
- بالنظر في أمور الشريعة.
- وتعلم العلوم والآداب.
- وإبداء الرأي بمشورة العلماء.
- وتصفح الكتب والسير.
ب- جسماني:
- بالفروسية ومشاهدة المعارك.
- في الأكل والشرب والنوم واليقظة.
- في سائر التصرفات.
أ- تلقين كلام لا فحش فيه.
ب- وأن يمنع من عور الكلام.
جـ- ولا يمدح ولا يذم.
أ- اختيار مذهب جميل.
ب- عادات مرضية.
جـ- تعذيبه بلين لا آفة فيه، وتلك إشارة واضحة إلى تجنب العنف والشدة والقسوة على المتعلمين، مع ضرورة الأخذ في مقابل ذلك بالحزم عندما تقتضيه الضرورة.
د- تحفظ الصحة بقانون الصحة.
أحوال الأولاد في التربية عند ابن أبي الربيع
1- حالٌ في صغره، فيُعلّم الآتي:
- يجب أن يصغر الطعام في عينيه.
- يؤمر أن يأكل من بين يديه خاصة، ولا ينظر إلى أحد من الحضر.
- وبعود القناعة بأدون الأطعمة، ويؤمر بخدمة الناس.
- وبجعل طعامه وقت الفراغ من وظائف الاشتغال.
- ويجعل عادته السخاء والخدمة ويمنع من التكاسل ويُحث على النشاط.
- ويحذر من الأقوال القبيحة، كالشتم والحلف.
- ويعاقب على الكذب والقحة- أي الوقاحة.
- ويبغض إليه الذهب والفضة، ويمنع من سماع حديث الباه.
- ويؤذن له في اللعب اليسير الخالي من السفه.
2- حال بلوغه رق التأديب، يجب أن يؤخذ بهذه:
- ينبغي أن يُطلب له معلمًا عاقلًا حسن الفهم، يبتدئ به في كتاب الله تعالى لا يشغله بغيره.
- ويعرف طرفًا من اللغة والنحو بقدر قوته، ويعتني بشيء من البلاغة والرسائل.
- ثم يُراض خاطره بالحساب والهندسة، واستخراج المجهول بالمعلوم.
- وليعتن بالفضائل المختارات وإعرابها ومعانيها.
- وليشتغل بطرف من الفقه، ويطالع كتب الأحاديث.
- ويؤمر مع ذلك بإكرام معلمه، والمبالغة في خدمته، ويعرف حقه.
- فعند ذلك يبلغ إلى حال يتناول فيه ما ينفعه، ويدفع عنه ما يضره.
وكما للمتعلم حق التربية الحسنة والتعليم الجيد، فكذلك للمدرس حق التقدير والاحترام، وهذا ما لم يخل منه كتاب شهاب الدين بن أبي الربيع.
المعلمون
- فينبغي أن يُعلّم الصبي أن الوالدين سبب نشوئه.
- وأن المعلمين سبب نشوء نفسه، وجوهر النفس أشرف.
- وإن لم يزدهم على مرتبة والديه فلا ينقصهم عنها.
- وإن لم يفعل ذلك وصف بأنه غير مستحق لما أوصلوه إليه.
- ولا يجري المعلمين كلهم مجرى واحدًا، فإنهم مختلفون.
- ونعني بهم الذين غرضهم تربية النفوس وإصلاحها.
- وأن ينظر إليهم عند احتياج أحد منهم.
- وأن يقوم بقضاء حقوقهم، وببالغ في خدمتهم.
- ولا يتأفف لما يلقى منهم من الغلظة والتأديب.
.