ومن أحسن ما دعا إليه هذا الدين الحنيف خُلق المواساة؛ وهو خلقٌ طيِّبٌ وجميلٌ، ويطلق في الأصل على المداواة والإصلاح والعلاج، فكأن المواسي يعالج المواسى ويداويه ويخفف عنه ما هو فيه. وخُلُق المواساة يدل على أصالة مَعْدنِ مَن تحلّى به، وكرَم نفسه، ودماثة خلقه، وسُمُوّ هِمَّته، ورجاحة عقله؛ بل هو من أخلاق المؤمنين وجميل صفات المحسنين.
وفى هذه الدراسة التي أعدها الباحث: سالم أحمد البطاطي، يرى أنه بالمواساة تُبنى المعارف، وتتوطد العلاقات، وتتعمق الأُخوة، وتزداد المحبة وتستمر المودة والألفة، ويُحفَظ الجميل، ويَعظُم الوفاء. وبالمواساة يندحِر وَحْرُ الصدر، ويُحسَن الظن، ويُقبَل العُذر، وتقال العثرات، وتُلتَمَس الأعذار.
المواساةُ دعوةُ رسول الله
فقد كان يشجع أصحابه ويحفزهم عليها، ويثني على من تخلق بها؛ كثنائه على الأشعريين- رضي الله عنهم- فعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».
وقد وصفت أًمُّنا خديجة- رضي الله عنها- حالهُ ﷺ قبل البعثة بقولها: «كَلَّا وَاللهِ، مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ»، وكذا بعد بعثته، فقد تنوعت مواساته لأصحابه رضي الله عنهم:
فهناك من واساه في فتنته وابتلائه: ومن ذلك: مروره ﷺ بآل ياسر وهم يُعذَّبون، وقوله لهم: «صبرًا آلَ ياسر؛ فإن موعدكم الجنة».
وهناك من واساه في مرضه وعلته الصحية بتفقده وزيارته:
فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: أَصَابَنِي رَمَدٌ فَعَادَنِي النَّبِيُّ ﷺ، قَالَ: فَلَمَّا بَرَأْتُ خَرَجْتُ، قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ عَيْنَاكَ لِمَا بِهِمَا مَا كُنْتَ صَانِعًا؟» قَالَ: قُلْتُ: لَوْ كَانَتَا عَيْنَايَ لِمَا بِهِمَا صَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ. قَالَ: «لَوْ كَانَتْ عَيْنَاكَ لِمَا بِهِمَا، ثُمَّ صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ، لَلَقِيتَ اللَّهَ وَلَا ذَنْبَ لَكَ».
وهناك من واساه في أزمته المالية:
كما في قصة سلمان- رضي الله عنه- عندما أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟». قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: «خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ». فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: «خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ». قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا- وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ- أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ، وَعَتَقْتُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.
ومنهم من واساه في حزنه ومصيبته:
كما في حديث معاوية بن قرة عن أبيه قال: «كَانَ نَبِيُّ اللهِ إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ، فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ، فَقَالَ: (مَالِي لَا أَرَى فُلَانًا؟)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ، فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ؟. قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ: فَذَاكَ لَكَ».
وهناك من واساه في مشكلته الاجتماعية والأسرية:
كسعيه ﷺ في أمر جليبيب- رضي الله عنه- حتى زوَّجه. فقد قال ﷺ لرجل من الأنصار: «زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ» فَقَالَ: نِعِمَّ، وَنُعْمَةُ عَيْنٍ. فَقَالَ لَهُ: «إِنِّي لَسْتُ لِنَفْسِي أُرِيدُهَا». قَالَ: فَلِمَنْ؟ قَالَ: «لِجُلَيْبِيبٍ».
ومنهم من واساه في همومه وانكساره ومسؤولياته الحياتية:
كما في حال جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: «لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: (يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ؟)». وَقَالَ: يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ، فَقَالَ: (يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا. قَالَ: (أَفَلَا أُبَشِّرُكَ، بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ)؟، قَالَ: بَلَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً. فَقَالَ الرَّبُّ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: ٩٦١].
ومنهم من واساه بجبر خاطره وتطييبه ومراعاة مشاعره وتقديره:
ومن ذلك حديث الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ- أَوْ بِوَدَّانَ-، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ، قَالَ: (أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ)».
بل كان يواسي أهل وأبناء أصحابه بعد موتهم:
وذلك بتفقُّدهم وإصلاح أحوالهم؛ كما حصل مع أبناء جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه-؛ حيث أتاهم بعدما استشهد جعفر- رضي الله عنه-، «وقال: (لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ادْعُوا إلِي ابْنَيِ أخِي). قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: (ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلاقَ، فَجِيءَ بِالْحَلاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي) ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا، فَقَالَ: (اللهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ). قَالَهَا ثَلاثَ مِرَارٍ. قَالَ: فَجَاءَتِ أمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا، وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ، فَقَالَ: (الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟!)».
ومن عجيب مواساته لأصحابه مواساته لهم بعد مماتهم:
وذلك بالدعاء والاستغفار لهم؛ كما في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ- أَوْ شَابًّا- فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ- فَسَأَلَ عَنْهَا- أَوْ عَنْهُ- فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ: (أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟). قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا- أَوْ أَمْرَهُ- فَقَالَ: (دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ). فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ)».
.