يبدو أن النظرية التربوية الحديثة قد أخذت تترنح بين أصالة الماضي ومعاصرة الحاضر، فوجدنا في يوميات أبي حنيفة النعمان فكرًا تربويًا شاملًا، استوعب تلك النظرية بكل أبعادها، وإن كان أبو حنيفة فقيهًا عقائديًا في أغلب مطارحاته.
وفى دراسة بعنوان: «الفكر التربوي في يوميات أبي حنيفة»، للباحث خالد سليمان الشريدة، يتناول فيها كيف أن أبو حنيفة عاصر حضارة عربية إسلامية كانت في أوج عطائها، ولاسيما في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، والنصف الأول من القرن الثاني الهجري، فتعددت العلوم، وضاق الوقت عند تلامذته لتحصيلها من مشاربها، فوجد أن التخصص في العلم ومرضاة الله به هو نهج مدرسة كان هو رائدها، ثم وجد أن ذلك التحصيل لا بد له من طالب متفرغ عن شؤون الدنيا حتى يستقي من العلم الذي يريد وتتاح له الفرص المتكافئة في التحصيل، فلا بد من الإخلاص في العلم، وحري بنا أن نكرم العلماء.
سيرة أبي حنيفة وحياته
أبو حنيفة هو: النعمان بن ثابت، مولى تيم الله بن ثعلبة، ولد سنة 80هـ 699م، ويقال إنه من أبناء فارس الذين لم يقع عليهم الرق. جاء أبوه ثابت إلى علي بن أبي طالب، وأهداه الفالوذج في يوم المهرجان «النيروز» من أعياد الفرس، فقال عليّ رضي الله عنه: «مَهْرِجُونَا كل يوم»، ونشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة على عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، وتبحر أبو حنيفة في الفقه حتى نُسب إليه أحد المذاهب المسمى بالمذهب الحنفي، وإلى جانب حياته العلمية فقد كان خزازًا يبيع الخز، والكوفة مركز ذو شأن في صناعتها وتجارتها، مما وفر له مصدرًا ماديًا مهمًا في معيشته ومسيرة حياته.
وتكاد تتفق معظم الدراسات على أن وفاة أبي حنيفة كانت في رجب سنة 150هـ 770م، وكان عمره سبعين سنة، فدفن في مقابر الخيزران، حيث مقابر الخليفة المهدي في جانبها الشرقي، ويروى في سبب وفاته أنه قد حبس في السجن أيامًا بعد رفضه تولي منصب قاضي القضاة، وضُرب بالسياط، ثم أُخْلِيَ سبيلُه فتوفي في حينها، وإن روى البعض بأن موته بسبب السم.
مدرسة رائدها أبو حنيفة
- التخصص في العلم ابتغاء مرضاة الله
كان أبو حنيفة قد ربط بين مبتغى العلم لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، وبين ما ساد فترته من علوم شتى قادته ليرسو أخيرًا في قارب الفقه، إذ كان الاعتقاد راسخًا بصلاح هذا العلم، يقول أبو حنيفة: «الفقه في الدين أفضل من الفقه في العلم، إذ العلم يبنى على الدين، فالدين هو التوحيد والعلم هو الشرائع، وأفضل الفقه أن يتعلم الرجل الإيمان»، ويرى أبو حنيفة أن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان وهو ما سند وبنى عليه العلم، ولهذا ولشمولية علم أبي حنيفة؛ اتسع خوفه من الله تعالى القادر الخالق، فيروى عن ابن جريج قوله: «قد بلغني عن كوفيكم هذا النعمان بن ثابت أنه شديد الخوف لله تعالى...».
يروى أن أبا حنيفة قد دعا إلى العلم لما فيه من صلاح الأمة وقوام الأمور، لذا يقول لإبراهيم بن أدهم: «يا إبراهيم إنك رزقت من العبادة شيئا صالحًا، فليكن العلم من بالك، فإنه رأس العبادة، وبه قوام الأمور».
رأى أبو حنيفة من هذا النهج التربوي التعليمي النموذجي أنه يستطيع أن ينشيء العالم المسلم القدوة، ونيلُ رضا اللهِ المبتغى الأول للعالم المسلم، لذا وجب على ذلك العالم الحمد والشكر دائمًا بما يستطيع تحصيله من العلم، يقول أبو حنيفة: «إنما أدركت العلم بالحمد والشكر، فكلما فهمت شيئًا من العلوم ووُفِّقتُ على فِقهٍ وحكمةٍ، قلت: الحمدُ لله؛ فازدادَ علمي»، وفى سبيل مرضاة الله وجد أبو حنيفة أن للمرأة حظ من التعليم، ولا يحبذ أبو حنيفة تعلمها على الرجل لما في ذلك من أثر في الدين، فالمرأة هي تعلم بنت جنسها، فيقول في هذا الصدد: «قدِمت علينا امرأة جهم بن صفوان، فأدبت نساءنا».
- خير العلم ما حُصَّل وقت فراغ القلب والخاطر
يقول الشافعي في أحد التلاميذ: «لو أشاء أن أقول إن القرآن نزل بلغة محمد بن الحسن لقلته لفصاحته، حيث كان محمد هذا الملقب بأبي يوسف، من تلاميذ حلقة أبي حنيفة، فيقول فيه أبو حنيفة: «كنتَ بليدًا أخرجتْكَ المواظبة، وإياك والكسل فإنه شؤم وآفة عظيمة».
شكَّل أبو حنيفة محور اهتمام تلاميذ عصره، حتى كانوا يتزاحمون على الجلوس بين يديه، وكانوا كلهم في شوق لحلقة أستاذهم لا يبرحونها إلا رغمًا عنهم، فيُذكر أنا أبا يوسف كان فقيرًا يتردد على أبي حنيفة في حلقته، ويحرص على الأخذ عنه، فجاءه أبوه ويُقال أمه، فأخذه من حلقته رغمًا عنه، و تغيّب أبو يوسف عن حلقة أستاذه وشيخه، فافتقده أبو حنيفة في مجلسه، فعلم سبب انشغاله عن الدرس، فأعانه على ما يستطيع به من مواصلة درسه، ودعاه للتفرغ للتحصيل، ويقول أبو يوسف: «اختلفت إلى أبي حنيفة تسعًا وعشرين سنة ما فاتتني صلاة الغداة، وصحبت أبا حنيفة سبعًا وعشرين سنة لا أفارقه في فطر ولا أضحى إلا من مرض»، حتى أن أبا حنيفة نفسه رفض تولي القضاء لحرصه على تفرغه، ولأسباب أخرى لا سبيل لذكرها هنا، ونراه يوصي تلميذه بأن لا يتزوج أكثر من واحدة، وأن تكون هذه الزوجة قليلة الأقارب، حتى لا يشغلوه عن علمه وعمله، وأن لا يعمل بأي عمل قبل أن يُحَصِّل التعليم الأساسي، وهذا ما يسمى في أيامنا بالتعليم الإلزامي، فأنفع العلم ما كان في عنفوان الشباب ووقت فراغ القلب والخاطر، ولا بد له من العمل الذي يكفيه شر العوز والحاجة.
ويروي لنا محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189هـ 804م، نقلًا عن أبي حنيفة، وجوهَ الكسب التي يتخطاها الإنسان: الإجارة، والإمارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة، ثم يفاضل بين هذه الأنواع، كل حسب درجتها وقدرها. يحبذ أبو حنيفة إعطاء العلم لمن يحرص عليه، ويرغبه دون إكراه وجبر على أخذه والنهل من معينه، وهذا ما وجده في نفسه، وقد رأى فيه الشعبي هذا الولع العلمي، وتلك اليقظة الفكرية، فدعاه إلى مجالسة العلماء، فيقول أبو حنيفة: «لا تُحَدِّث بعِلمك من لا يشتهيه، فيؤذيه ويؤذي جليسك، ومن قطع عليك حديثك فلا تُعِده؛ فإنه قليل المحبة للأدب».
- الإخلاص في العلم وإكرام العلماء
إذا كان من طلبة العلم مَنْ يستدرجون بعضهم بعضًا، أو يستدرجون أستاذهم إلى مزالق العلم، فلا ريب أن ذلك غير مستحب حتى في أعراف أيامنا، ولا يُجدي نفعًا علميًا، وإنما يروح للنفس ويزهو في شيطنتها، فهو ما كان كذلك في حلقات الأوائل من العلماء، فقد كانت المناقشات الروائية هي السبيل المحتذى، لذا نظر أبو حنيفة إلى هذه المسألة، فدعا إلى تدوين العلم وجعله أبوابًا مبوبةً، وكتبًا مرتبة؛ لأنه خاف على العلم من الضياع. وهذا ما تمثل به تلميذه– أبو يوسف– بأن يبيت جائعًا مقابل أن يُحَصِّل العلمَ، ويُخلص في تلقِّيه، يقول أبو حنيفة: «الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إليّ من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم وأخلاقهم».
كان أبو يوسف أول من وضع الكتب على مذهب أبي حنيفة وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض. يقول أبو يوسف: «إذا لم تعرف الأصل فكيف تكون فقيهًا»، وفي عرض كلام أبي حنيفة وتعريفه للفقه يوضح لنا ما يرنو إليه حيث يقول: «الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها، فينبغي للإنسان أن لا يغفل عنها، وأن يستجلب ما ينفعها، ويجتنب ما يضرها؛ كيلا يكون عقله وعلمه حجة عليه».
وكان أبو حنيفة ينهى أصحابه عن المجالس المعروفة بقلة العلم وفقر الاستفادة، فيُروى أنه جاءه أصحابه وفيهم ابنه حماد وكانوا يتناظرون في الكلام، فنهاهم عن هذا المنهج، فقالوا له: «رأيناك تُناظر فيه وتنهانا عنه؟ فقال: كنا نناظر وكأن على رؤوسنا الطير؛ مخافة أن يزل صاحبنا، وأنتم تناظرون وتريدون زلة صاحبكم؛ ومن أراد أن يزل صاحبه فقد أراد أن يكفر صاحبه».
أما تربية أبي حنيفة على إكرام العلماء، فقد بدأ بنفسه يخطو هذا الاتجاه، وذلك أن ابنه حماد كان يدرس على شيخ فأتقن الفاتحة وحذقها، فوهب أبو حنيفة للأستاذ خمسمائة درهم، ويقال بل أعطاه ألف درهم، وكان إذا اكتسى ثوبًا كسا مثله الشيوخ العلماء، فيروى أنه رأى على بعض جلسائه ثيابًا باليةً رثة، فأقعده حين خرج الناس وأعطاه ألف درهم، وقال له: «فينبغي لك أن تغير حالك حتى لا يغتم بك صديقك»، وبهذا أراد أبو حنيفة إضفاء الهيبة والجلالة على العلم وجلسائه، ولنا أن نتصور هذه الثروة التي كان أبو حنيفة يجزل منها عطاءه، فيروى أن أبا جعفر المنصور كان يجيز أبا حنيفة ويغدق عليه بعطائه، وربما كان هذا في الفترة الأولى من خلافته، بالإضافة إلى تجارة البضائع من بغداد وبيعها في الكوفة، فلا غرابة عليه أن يعطي هذا وذاك من جزالة أرباحها.
- مجلس أبي حنيفة وعلاقته بطلابه
يقول أبو حنيفة لتلميذه: «عليك بالمداراة، والصبر والاحتمال، وحسن الخلق وسعة الصدر، وابحث عن أخبار حشمك، وتقدم في تأديبهم وتقويمهم، واستعمل في ذلك الرفق، ومن مَرِض من إخوانك فعُده بنفسك، وافشِ السلامَ ولو على قومٍ لئام، ومتى جَمع بينك وبين غيرك مجلس وجرت المسائل وخاضوا فيها بخلاف ما عندك فلا تُبد لهم منك خلافًا، وآنسهم ومارحهم أحيانًا وحادثهم، فإنها تجلب لك المودة وتستديم مواظبة العلم»، وتتكرر أفكار أبي حنيفة في وصيته لتلميذه أبي يوسف بما يدعوه بها من حسن المجالسة واللطف في المعاملة.
اعتاد أبو حنيفة أن يكرم تلاميذه، وأن يدعو أصحابه إلى بيته يوم الجمعة. فيطهو لهم الطعام فيأكلون ولا يأكل معهم لئلا يحتشموا منه، لكنه قد يشرب معهم ويقول لهم: «إنما أتفرد بنفسي عنكم» ويرد في الآثر قصة تلميذه الفقير أبي يوسف الذي شغله العلم عن طلب المعاش فيقول له أبو حنيفة: «يا يعقوب لك عيال وأنت على هذه الحال، فلم تخبرني، أنا أكفيك وعيالك».
- حرية المناقشة في مجلس العلم
الحلقة العلمية أو مجلس العلم هي مرحلة متطورة من الدرس، تأتي بعد دراسة الكتب التي تعتمد على التلقين والسماع، أما المجلس فقد اتخذ الاقناع منهجًا في نظامه وتطور آرائه، وهذا الاقناع لا بد له من أسلوب التحليل المنطقي الواقعي، الذي اتسمت به الحلقات العلمية في تلك الحقبة من الزمن، فربما احتد النقاش في بعض الأحيان ليخرج عن العرف في منهجية الحصة الدراسية، للوصول بمثل هذا النقاش إلى مثل ذلك الإقناع، فرسائل أبي حنيفة تتبع منهجية السؤال والجواب، وهذا ما نلاحظه في رسالته « العالم والمتعلم» بأكملها.
فيروى أن أبا حنيفة جلس يومًا وحوله أصحابه، يفسد كل منهم قول الآخر، حتى جاء وقت الصلاة، فقال أبو حنيفة لزفر بن الحارث بعد أن أوقف النقاش: «لا تطمع في رياسة بلدة فيها أبو يوسف، وقضى لأبي يوسف على زفر» أي الرياسة العلمية في حلقاتها، وكان أبو حنيفة جريئًا في النصح لدرء الخطر والخطأ العلمي عن تلاميذه، فيقول لأحدهم وقد نظره يُقَرمِط في خطه وكتابته: «لا تقرمط خطك- أي لا تقارب بين السطور والكلمات وتدمجها-؛ إن عشت تندم وإن مت تندم» يعني إذا تقدم بك السن وكبرت وضعف بصرك ندمت على ذلك النهج في الكتابة، وهكذا هو رحب الصدر بالرشد والتقويم، جاء عند الكردري المتوفى سنة 827هـ 1423م برواية أبي خطاب الجرجاني قوله: « كنت عنده– أي أبي حنيفة– وإذا شاب سأله عن مسألة فأجاب، فقال الشاب: أخطأت، ثم سأله عن أخرى، فأجاب، فقال: أخطأت، فقلت لأصحابه: سبحان الله ألا تعظمون الشيخ يجئ إليه شاب فيخطئه مرتين وأنتم سكوت، فقال لي: دعهم فإني عودتهم من نفسي ذلك»، حتى وصل الأمر بأبي حنيفة أنه قد يختلف في الرأي أو في الحكم الفقهي مع بعض تلاميذه ، وهذا ما نلاحظه عند أبي حنيفة في شخصيته، فأخذ عن جعفر الصادق ولكن أستاذه خطأه في الرأي والقياس فيما بعد، إذ نسبوا لأبي حنيفة أنه يقول: «قال علي وقلت أنا – وقالت الصحابة وقلت»... ولا عجب أن تستمر المناظرة ويحتد النقاش لمدة قد تبلغ الشهرين حتى يتم الاتفاق على رأي معين، ويروى أن مجلسه كان يقوم على النقاش المتبادل، فإذا ما غاب أحد التلاميذ أجل النقاش حتى حضوره، ويؤمن ذلك المجلس بأجمعه بالرأي المتجدد والاجتهاد، لا الاستبداد في الرأي، في الوقت الذي يستند هذا النقاش إلى أصول علمية ليكون أقرب للقلب ومراعاة لليقين، ووصل بالبعض إلى وصف مجلس أبي حنيفة بأنه «مجلس لغو لا وقار فيه» ترتفع الأصوات في سؤال وجواب حتى تتم الاستفادة المرجوه، فيروى أن سفيان بن عيينة مر بحلقة أبي حنيفة وسمع الأصوات فجاء إلى أبي حنيفة وقال له: «يا أبا حنيفة هذا المسجد، وهذا الصوت لا ينبغي أن يرفع فيه، قال: دعهم فإنهم لا يفقهون إلا بهذا».
يروى أن أبا حنيفة كان قد تنبأ بمستقبل تلميذه أبي يوسف، حيث آثر طلب العلم على ظروف معيشته فقال له أبو حنيفة: «فإن طال عمرك فستأكل بالفقه اللوزينبح بالفستق المقشور، قال أبو يوسف: فلما خدمت الرشيد واختصصت به، قدمت بحضرته يومًا جامة لوزينبح بفستق، فحين أكلت منها بكيت، وتذكرت أبا حنيفة».
يروى أن أبا حنيفة قد روى عن الرسول ﷺ حديثه: «من تفقّه في دين الله، كفاه الله تعالى همه، ورزقه من حيث لا يحتسب».
والعلم كرم من الله تعالى، فكان بداية خلقه القلم، والقلم مكرم بكتابة الآثار حتى تقوم الساعة، هذا عنده سبحانه فكيف والعلم يأخذ مكانه في الاعتبار الدنيوي، فيرى أبو حنيفة في ذلك مقياس العلم، فيقول: «واعلم أن الاعتبار للتقوى لا للنسب المجرد، فانظر إلى لقمان الحكيم كان عبدًا حبشيًا، غليظ المشافر، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}، وهذه الحكمة التي لا بد للإنسان يومًا وأن يقر بمنزلتها في النفس وحاجته إليها. يقول أبو حنيفة لأصحابه: «وقد تركت الناس يطأون أعقابكم ويلتمسون ألفاظكم، وذللت لكم الرقاب، ما منكم أحد إلا وهو يصلح للقضاء، وفيكم عشرة يصلحون أن يكونوا مؤدي القضاء»، فيرد أبو يوسف قائلًا: فنفعني الله بالعلم ورفعني حتى تقلدت القضاء، و كنت أجالس الرشيد آكل معه على مائدته».
لم تكن هناك فترة محددة يستطيع فيها التلميذ أن ينهي حياته العلمية التي اتسمت في منهجيتها بفترة أبي حنيفة، وحتى بعد أن يصبح أستاذًا ربما يبقى متعلمًا، فكثير من التلاميذ في هذه الحقبة أجيزوا في علم معين دون آخر، يبقون فيه طلابًا، وشيوخًا معلمين بالنسبة للعلم الأول.
أتم يوسف بن خالد السمتي الدرس والتعلم عند أبي حنيفة، ويتابع مع أبي حنيفة موصيًا إياه: «فواصلني بكتبك وعرفني حوائجك، وكن لي كابن فأني لك كأب». وتمثل أبو حنيفة هذا النهج التربوي في نفسه، فلم يفارق حلقة أستاذه حماد بن أبي سليمان إلى أن فارق الحياة، رغم ما توفر له من سعة العلم وشمولية المعرفة، فيقول أبو حنيفة لتلميذه أبي يوسف وقد رآه معجبًا بنفسه، وانقطع عن الدرس وعجز عن البت في بعض المسائل: «تزبَّبْتَ قبل أن تتحصرم- مثالٌ يُضرب لمن يظهر بين الناس قبل كماله واستعداده-، من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبك على نفسه»، وقد كان أبو حنيفة مواصلًا في علمه، صبورًا على تعلمه ليلًا نهارًا، فما فارق الاطلاع والبحث حتى ووري الثرى، فتمثل نهجه في تلميذه أبي يوسف، يقول أبو يوسف: «مات ابن لي ولم أحضر جهازه ولا دفنه، وتركته على جيراني وأقربائي مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عني»، ويحبذ أبو حنيفة أن على المتعلم أن يعد ما يحتاج إليه من العلم والمال والمنزل، ومن ثم ينصرف معلمًا مستفيدًا بما يحضره من علم، غير محتجب عن طلبه والاستزادة منه.
ويروي البغدادي بروايته: «كان أبو حنيفة مجتهدًا، يصبح نشيطًا في الحوض إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب ومن المغرب إلى العشاء. وبقي متلقيًا للعلم حتى بعد أن أصبح أستاذًا».
معظم العلوم التي انتشرت في هذه المرحلة ولاسيما العلوم الفقهية، كانت قد تجسدت بدءًا من منهجية علم الحديث، هذا العلم الذي انتقل بالرواية والمشافهة، وأثبت بالسند والمواصلة، مما تتطلب فقه الراوي كي ينتقل العلم بأمانة، ومن هنا نشأت فرق علمية متعددة، فالمعلم يستمد أهميته وصلاح علمه من ثقة الناس به وبعلمه، يعدلونه تارة ويجرحونه تارة أخرى، فأناس تُرك علمهم لجرح عدالتهم ونقص في أمانتهم العلمية، فقد اختار أبو حنيفة أستاذه حماد بعد تفكر وتأمل وقال فيه: «وجدت شيخًا وقورًا حليمًا صبورًا». وقال: ثبتُّ عند حماد بن سليمان فنميتُ»، وتمثل أبو حنيفة في تقواه وصلاحه مما جعله محط أنظار جلسائه ومراقبة أصحابه وتلاميذه.
استوثق أبو حنيفة لنفسه بعلمه وصلاحه، بأن أخذ عن أوائل الصحابة، كأنس بن مالك المتوفى سنة 93هـ 711م، وعبد الله بن أبي أوفى المتوفى سنة 87هـ 705م، ووائلة بن الأسقع المتوفى سنة 85هـ 704م وغيرهم، إلى جانب شيخه الرئيس حماد– سالف الذكر– وأعطى علمه لتلامذة شهد لهم بالعلم مثلما شهد له شيوخه، فيروى أن الخليفة المنصور قال لأبي حنيفة: «يا نعمان عمن أخذت العلم؟ قال: عن أصحاب عمر عن عمر، وعن أصحاب علي عن علي، وعن أصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود، فقال له: استوثقت يا أبا حنيفة». ويروى أنه أخذ علم القراءات عن الإمام عاصم بن أبي النجود، أحد القراء السبعة وغيره، في الوقت الذي ناظر فيه وقاس برأيه في هذه الأصول وتلك الآثار السالفة، فيوصي أبو حنيفة تلميذه قائلًا: «فإن سئلت عنها– أي المسألة– أخبرت بما يعرفه القوم، ثم تقول فيها قولًا آخر، وهو كذا وكذا، والحجة له كذا، فإن سمعوه منك عرفوا منزلتك ومقدارك».
وكان أبو حنيفة يدلي بشهادته بجرح وتعديل بعض الشيوخ، كي يكون تلامذته وأصحابه على بينة من أمرهم، فكان ينهى أصحابه عن إتيان جابر الجعفي ويقول: «جابر الجعفي أفسد نفسه بالهوى»، وفي النقيض شهد لسفيان بن عيينة بحديثه وعلمه، وشهد لغيره بصلاحه وتقواه.
ويروى أن عبد العزيز بن سلم كان قد لقي أبا حنيفة في حجِّه، وسأله في مسألة، فقال له أبو حنيفة: «إن للعلم فضيلة وله جلاله، وصاحبه ينبغي أن يكون له وقار وخضوع وسكون، ادخر حاجتك إلى غد»، ويقول هذا رهبة للعلم ومكانة أصحابه: «وسعوا عمائمكم ووسعوا أكمامكم..» هذا المظهر في اللباس كي لا يستخف أحد بالعلم وأهله، ويقول لأبي يوسف موصيًا إياه تعظيمًا لمكانة العلماء: «أكثر من زيارة القبور، والمشايخ، والمواضع المباركة»، ويروى عنه قوله: «إن للعلم هيبة، وإن للعلم جلالة، فصاحب العلم ينبغي أن يكون له وقار وسكون وخضوع، لمن يقتبس منه». ولقد نال أبو حنيفة المكانة التي يرجوها كل إنسان بعلمه وشهرته.
وعلى العالم أن يمتاز بضبط النفس عندما يهاجَم بألفاظ جارحة وأساليب فظة، فيروى المكي أن مجلسًا ضمّ أبا حنيفة، فجاء رجل وأخذ يشتم الشيخ الإمام فلم يأبه به، حتى دخل داره، فتبعه ذلك الرجل إلى أن وصل بابه، فالتفت إليه أبو حنيفة قائلًا: « هذه داري أريد الدخول، فإن كنت مُسْتَتِمٌّ باقي كلامك، فأتمه حتى لا يبقى شيء مما عندك تخاف عليه الفوت، فاستحى الرجل وقال: اجعلني في حِل، فقال أبو حنيفة: أنت في حِل»، ويتواضع أبو حنيفة بتربيته العلمية وبسلوكه التربوي، فلا يجعل رأيه حقيقة مُنزَّلة، فيروى أن مزاحم بن زفر جاء لأبي حنيفة وسأله: «يا أبا حنيفة، هذا الذي تُفتي والذي وضعت في كتبك هو الحق الذي لا شك فيه؟ فقال: والله ما أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه»، ويروى أنه كان إذا استبهمت عليه مسألة قال لأصحابه: «ما هذا إلا لذنب أحدثته، فيستغفر ويصلى، فتنشرح له المسألة».
يرى أبو حنيفة أن على الأستاذ أن يحيط بالعلم المتخصص به وتفاصيله، وألا يخوض في المسائل التي ليست من اختصاصه، وأنه لا بد وأن يبنى على الأصول العلمية التي لديه لسد بعض الثغرات، وذلك بما يتطلب من الاجتهاد النابع من فكر منير، وأصل متين، وثقافة شمولية رفيعة، يروي أبو يوسف قوله: «سألت أبا حنيفة عن اليهودي والنصراني يموت له الولد، كيف يعزى؟ قال: يقول: إن الله كتب الموت على خلقه، نسأل الله أن يجعله خير غائب يُنتظر، وإنا إليه راجعون»، وهذا ما ينبئ عن سعة ثقافة وعلم كشفه بالسؤال والجواب ومسائل كثرت بشموليتها ودقتها. يقول أبو يوسف: «كنا نختلف في المسألة، فنأتي أبا حنيفة فكأنما يخرجها من كمه فيدفعها إلينا»، ويروى أن أبا حنيفة كان ثقة لا يحدث بحديث لا يحفظه، وكان ذا حجة قوية في فكره، وإقناع منطقي ينطلق من الجزئيات في مسائل الأمور، لذا كان ثابت الدليل، واسع المعرفة.
لقد ورث أبو حنيفة المجلس عن شيخه حماد، وظهر منه ما لم يكن من بعض الشيوخ، حيث الفهم الدقيق والدليل الواضح، فيقول أبو حنيفة: «مثل من طَلبَ الحديث ولا يتفقه، مثل الصيدلاني يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هي، حتى يجيء الطبيب، هكذا طالب الحديث، لا يعرف وجه حديثه حتى يجئ الفقيه» ويورد المكي قصة محمد بن الفضل مع أبي حنيفة، الذي وجده يحرف الكلم عن مواضعه، فقال أبو حنيفة: «يا محمد من طلب الحديث ولم يطلب تفسيره ومعناه، ضاع سعيه وصار ذلك وبالًا عليه»، وأبو حنيفة كما ذكر قوي الحجة، ويقول فيه الإمام مالك بن أنس: «رأيت رجلًا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا؛ لفاز بحجته»، وتراه واسع التفسير، فيذهب بالإيمان منهجًا لألفاظ متعددة، بمعنى واحد جامع غير مبهم، مجتهدًا في قياسه غير مقلد، عالمًا بالباطن مثلما هو ظاهر في علمه، فيروي أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ 1111م برواية شريك النخعي: «فقد كان أبو حنيفة طويل الصمت، دائم الفكر قليل المحادثة للناس»، وهذا من أوضح الإمارات على العلم الباطني والاشتغال بمهمات الدين، ولضخامة العلم الذي تركه، فيروي أن من دونوا كتبه بحضرته أربعون رجلًا. يقول جعفر بن الربيع: «قمت على أبي حنيفة خمس سنين، فما رأيت أطول صمتًا منه، فإذا سئل عن الفقه تَفَتَّح وسال كالوادي، وسمعتَ له دويًا وجهارة في الكلام»، ولم يكن أبو حنيفة يذهب مذهبًا ارتجاليًا في علمه وفقهه، فكان يُكثر من البحث والتمحيص ويستفيد من غيره، ولاسيما إذا كان هناك ما يدعو للاستفادة.
مصادر المعرفة عند أبي حنيفة: الكتاب، والخبر المجتمع عليه، والاجتهاد «القياس»، والإجماع، وإن كان الاجتهاد أعم من القياس في فكره ومبادئه، ويروى أنه إذا ثبت عنده الخبر؛ لم يعد لغيره، فيقول: «إذا جاءنا الحديث عن رسول الله ﷺ، أخذنا به، وإذا جاءنا عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاءنا عن التابعين زاحمناهم»، ويقول في التابعين: «هم رجال ونحن رجال...» وذلك تأكيدًا لمنهجه في الرأي والاجتهاد والحجة والدليل، وملاءمة الظروف التي يتخذ منها الحكم الفقهي.
هذا العلم وتلك المعرفة تركا وزنًا لأبي حنيفة، إذ تجد هذا في تلاميذه، فيقول هارون الرشيد في أبي يوسف: « والله ما امتحنته في باب من أبواب العلم إلا وجدته كاملًا فيه»، وهذا كله باتساع علم أستاذه وشمولية معرفته.
.