صراع.. حروب.. مناوشات.. استنزاف... كلها مصطلحات تعبر عن واقع الأمة في حربها مع الحجاب.. وهي في مغزاها حرب ضد الهوية التي ترتكز عليها الأمة الإسلامية.
فالحجاب ليس قطعة القماش التي ترديها المرأة.. لكنها السموّ الرباني الذي زين به المرأة، ليصونها ويصون مجتمعاتها.
لقد خلق الله– سبحانه– الأرض، واستخلف الإنسان فيها، وسخر له كل شيء من أجله في سبيل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، فكانت دستورًا إلهيًا يوضح السبل وجميع الطرق التي على الإنسان أن يسلكها، وأن تكون في مضمار العبودية لله الواحد القهار.
ولقد فرض الله– سبحانه– الفروض بقدر وبحكمة لما فيه صالح الإنسان، فلو كانت تجلت حكمة الله للمرأة في خلع الحجاب لأمرها بخلعه دون التستر به، لكن التوازنات الربانية جعلته حصنًا منيعًا للمرأة وخصوصيتها.
فالحجاب هو ذلك اللباس الذي يستر جسد المرأة، وهو أحد الفروض الواجبة على المرأة في الشرائع السماوية، وهناك إجماع من علماء الدين الإسلامي على وجوب الحجاب على المرأة.
وقد رأت دار الافتاء المصرية: «أنه إجماع المسلمين سلفًا وخلفًا، وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة، وهذا يعد من قبيل الفرض اللازم الذي هو جزء من الدين».
فالحجاب من الفرائض التي لا مجال للخوض فيها بين الناس، لكونه فريضة ربانية على نساء أهل الأرض: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ (النور: 31)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.
فالحماية الربانية للمرأة من أجل تحصينها وتحصين المجتمع الذي تحيا فيه؛ للطبيعة والغريزة البشرية التي غرسها الله في الإنسان، لتكون من ضمن مصنفات البلاء له في الدنيا، فينظر الله لكل عبد من عبادة كيف يتعايش معها سواء بالرضى أو السخط.
ولذا اجتهد العلماء في وضع صفاته حتى يتحقق منه الغرض الذي من أجله فُرض، مثل: أن لا يقصد به الشهرة بين الناس، وأن يستر بدن المرأة، وأن لا يكون شفافًا، أو ضيقًا يصف جسم المرأة، كما لا يكون مشابهًا للباس الرجل وغيرها من المواصفات التي وضعت لتجعل من المرأة أيقونة طاهرة.
لا يظن أحد أن محاولات هدم أركان العفة في المجتمعات الإسلامية ستتوقف عند هذا الحد لكنها ماضية في صراع محتوم بين الحق والباطل، إلا أن أهل الحق كثيرًا ما يضربون المثل العالي في التمسك بعقيدتهم مهما كلفهم، سواء في الماضي أو الحاضر.
ولربما يرفع من شأن المعاصرين تمسكهم بدينهم لما يعيشون فيه من فتن وتربص مستمر وتكالب الجميع عليهم، ولذا كان الوصف المحمدي لهم حينما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم أو خمسين منا. قال: خمسين منكم» (رواه البزار والطبراني).
ولنتوقف مع قصتين لفتاتين معاصرتين كيف غَلّبوا شريعتهم دينهم على مصالحهم– رغم ما فيه من ضرر لهم ظاهرًا.
القصة الأولى والتي تعتبر بطلتها فتاة لم يتجاوز عمرها ثلاثة عشر ربيعًا، إلا أنها أعادت للمشهد قصة فتاة اللبن مع أمها، في عهد عمر بن الخطاب– رضي الله عنه.
هالة عتيق، هذه الفتاة التي ولدت وترعرعت على أرض سوريا مع والدها ووالدتها وشقيقتاها الأكبر منها سنًا، حتى كان عام 1955، والذي قرر والدها فيه ترك سوريا، والسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للإقامة هناك هو وأسرته، حيث وصل إلى مدينة كاليفورنيا واستقر بها قبل أن يرسل لزوجته وابنتيه بالقدوم إليه.
جهزت الأم نفسها بصحبة فتياتها– وكنّ يرتدين الحجاب- واتجهتُ بصحبتهن إلى المطار، وحلقت بهم الطائرة متجهة إلى مطار مدينة نيويورك.
وصلت الأم والفتيات إلى مطار نيويورك، وبمجرد وصولها إلى هناك طُلب منها هي وفتياتها الثلاثة، أن يقوموا بخلع حجابهن من أجل التقاط صور الجرين كارد، تفاجأت الأم من هذا الطلب، وأصابها الارتباك، ولكنها في النهاية خضعت لما طلب منها وقامت بخلع حجابها من أجل أخذ الصور المطلوبة، وكذلك قامت الفتاة الأولى والثانية بخلع الحجاب لالتقاط الصور كما فعلت والدتهن، حتى جاء الدور على هالة، وطُلب منها نزع حجابها فرفضت.
تعرضت في سبيل ذلك للبلاء، إلا أنها احتسبت الأمر لربها وظلت متمسكة بموقفها من أجل ما أمرها به ربها نحو الحجاب، فعمدوا إلى عزلها، غير أن ذلك لم يأت بالثمرة المطلوبة، ولم تتوقف المحاولات المستمرة من قبل الأم وعدد من المسؤولون الكبار وكذلك الضباط، عن إقناع هالة حتى تقوم بخلع حجابها، ولكنها كانت مُصرة بألا تقوم بفعل ذلك مهما كلفها الأمر، حتى أنها قررت أن تعود إلى وطنها سوريا من جديد إن كان بقائها داخل الأراضي الأمريكية سوف يكون ثمنه خلع حجابها.
فقاموا بعزلها داخل غرفة بمفردها حتى تستجيب لمطالبهم، ولكنها كانت تزيد في إصرارها أكثر فأكثر، رغم تهديدها من قبل المسؤولون بأنهم سوف يعيدونها إلى سوريا من جديد، وفي النهاية انتصرت هالة عليهم، وجعلتهم جميعًا، يخضعون لطلبها بعدم خلع الحجاب، وتم التقاط صورتها بدون خلع الحجاب، وكانت تلك المرة الأولى التي يتم فيها التقاط صورة لجرين كرد بالحجاب في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
سبّب هذا الأمر تأخر هالة ووالدتها وشقيقتاها عن اللحاق بالطائرة التي كانت متجهة إلى كاليفورنيا، وحلقت الطائرة بدونهم، ولكن المفاجئة أن تلك الطائرة قد سقطت ومات جميع ركابها، فقالت هالة عند سماعها بهذا الخبر: «بفضل الله ثم حجابي؛ نجونا من الموت»، وانتشرت القصة حتى كانت سببًا في دخول العديد للإسلام، بل وتمسك كثير من الفتيات بحجابهن والالتزام به.
القصة الثانية لابنتَيْ مصطفى مشهور (وفاء وسمية) حينما كانتا في المدرسة– وأثناء محنة والدهم في المعتقل– كانت تضهدهم مدرسة اللغة الإنجليزية بسبب ارتداءهما للحجاب في زمن مُنع فيه ارتداء الحجاب، وكان من المظاهر الشاذة في هذا العصر حيث استشرى السفور والعري، فكانت تأمرهما بخلعه، بل كانت مديرة المدرسة تنتظرهما عند باب المدرسة لتجبرهما على خلعه، غير أنهما بمعاونة الوالدة انتصرتا، ولم يخلعاه.
وفي ذلك تقول وفاء مشهور: «ارتدَيتُ أنا وأخواتي سلوى وسمية الحجاب في السن الشرعية للفتاة، بل إن أختي سمية ارتدته معي، وهي أصغر سنًا حيث كانت في الصف الخامس أو الرابع الابتدائي، وكان هذا في أوائل الستينيات، وأذكر عندما كنت في الصف الأول الإعدادي بمدرسة (سراي القبة) سنة 1965م وكنت الوحيدة في المدرسة بأكملها التي ترتدي الحجاب حتى إن مديرة المدرسة كانت تنزعه من على رأسي عنوةً، ونتيجةً لحرص الوالد وتوصياته ذهبت والدتي إلى المديرة، وأصرَّت على ارتدائي للحجاب، وقالت: «لا بدَّ أن تظل ابنتي بالحجاب، ولكم فقط ما تطلبون من لونٍ معين».
.