كان لحادثة تحويل القبلة أبعادٌ كثيرة؛ منها: السياسي، ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها التاريخي؛ فبعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبُعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث النبوي لإبراهيم عليه السلام، وبُعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة، وإنهاء الوضع الوثني في المسجد الحرام؛ حيث أصبح مركز التوحيد بعد أن كان مركزًا لعبادة الأصنام، وبُعده الديني أنها ربطت القلب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان.
لقد كان تحويل القبلة حدثًا عظيمًا، فيه من الدروس والعبر الكثير، والتي ينبغي الوقوف معها للاستفادة، وهو ما فعله الباحث: محمد كامل السيد رباح، فى دراسته واستخرج منها:
1- محنة وابتلاء:
وكان لله عز وجل حكمة في جعل القبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلها إلى الكعبة حكمة عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين. فأما المسلمون، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وقالوا: آمنا به كل من عند ربنا ، وأما المشركون، فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق، وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيًّا، لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء، وأما المنافقون، فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقًّا، فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق، فقد كان على الباطل. وكثُرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ [البقرة: 143]، وكانت محنة من الله، امتحن بها عباده؛ ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه.
2- تحويل القبلة دلالة على نبوة الرسول ﷺ:
أخبر الله تعالى بما سيقوله اليهود عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ من إثارة الشكوك والتساؤلات قبل وقوع الأمر، ولهذا دلالته، فهو يدل على نبوة محمد ﷺ؛ إذ هو أمر غيبي، فأخبر به قبل وقوعه، ثم وقع، فدل ذلك على أن محمدًا ﷺ رسول يخبره الوحي بما سبق، وهو يدل أيضًا على علاج المشكلات قبل وقوعها؛ حتى يستعد المسلمون ويهيؤوا أنفسهم لهذه المشاكل.
علامة تميز وتفرد واستقلاليه
1- ضرورة تميز المسلمين عن غيرهم:
لم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه؛ كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه، فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد؛ كما أنه بدوره ينشئ شعورًا بالامتياز والتفرد.
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم، ولم يكن هذا تعصبًا ولا تمسكًا بمجرد شكليات، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة، وهذه البواعث هي التي تفرق قومًا عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورًا عن تصور، وضميرًا عن ضمير، وخلقًا عن خلق، واتجاهًا في الحياة كلها عن اتجاه.
2- الأمة الوسط:
يقول ابن كثير: يقول الله تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم؛ لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداءَ الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، فهي أمة وسط في التصور والاعتقاد، وفي التفكير والشعور في التنظيم والتنسيق، والارتباطات والعلاقات، وفي المكان في سرة الأرض وأوسط بقاعها.
تربية للصف المسلم
1- التربية للصف المسلم:
أمَّا سبب الموقِف، وعلَّة التحوُّل، فهو تجرُّد القلوب، واصْطِفاء النفوس، واجتباء الأرْواح، واستقلال التوجُّهات. يُبيِّن الله الناسي من الذاكِر، والجاحِد من الشاكر، والمؤمِن من الكافر، والمُصلِح من المفسِد، والكاذِب مِن الصادق، والمتردِّد الخوار مِن الثابت المغوار؛ أراد الله أن يُجرِّد القلوب مِن العوالق إلا لله، وأن يُصفِّيَها من الجواذبِ إلا لدِين الله.
2- صراع عداء لا جهل:
قال تعالى في معرض حديث الآيات عن القبلة: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾ [البقرة: 145].
إنهم لن يقتنعوا بأي دليل؛ لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل، إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى والاستعداد للتسليم بالحق إذا استبانوا طريقه.
ويقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
وهنا ندرك أصالة عدوان اليهود للإسلام والمسلمين، فقد شنوا حربًا إعلامية ضارية في أعقاب حدث تحويل القبلة، ولقد فُتن ضعاف الإيمان كما فُتن إخوانهم في حادث الإسراء والمعراج، وإن المتأمل لآيات تحويل القبلة- وهي ترد شبهات اليهود- يتبين له مدى ضراوة الحرب الإعلامية والفكرية التي شنها اليهود.
أدب الاستجابة للأمر الرباني
1- سرعة الاستجابة والثقة في القيادة:
كم كان هؤلاء الصحابة- رضي الله عنه- في قمة التشريف لهذه الدعوة؛ عندما جاءهم خبر تحويل القبلة، انظر في صحيح البخاري عن البراء: أن النبي ﷺ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا- أو سبعة عشر شهرًا- وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي ﷺ فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال أشهد بالله، لقد صليت مع النبي ﷺ قبل مكة، فداروا كما هم قِبل البيت.
لقد تحولوا وهم في هيئة الركوع من قبلة بيت المقدس إلى اتجاه البيت الحرام، لقد علمونا- رضي الله عنهم- كيف نستقبل أوامر وتعاليم الإسلام.
2- تحويل القبلة توحيد للأمة:
وهكذا وحد الله هذه الأمة، وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها، وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات، ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها، ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها.
إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان، فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب، وقبلة العبادة، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة!
.