Business

لماذا تغيرت أخلاقنا بعد الميدان

ألوف القلوب والأجساد متلاحمة ومتعاونة ومتجردة، تهتف بصوت واحد في ثورة حرة يوم 25 يناير: «الشعب يريد إسقاط النظام»، فلا تعرف منهم البحراوي من الصعيدي، ولا القاهري من العرباوي، ولا الإخواني من الليبرالي، ولا اليساري من الرأسمالي.. الكل يهتف من اجل بلاده طيلة ثمانية عشر يوم، كان فيها الجميع على قلب رجل واحد، يقتسمون لقمة واحدة، يشغلهم هدف واحد وهو نيل الحرية للأوطان، لكن! سرعان ما تلاشت هذه الأخلاق وحل محلها لغة الفرد، ومصلحة الحزب، وروح التخوين والاتهام، وبدأت تتمايز الأوجه.. حتى ضاعت أخلاقنا وسط زحام البذاءات التي بدأ الجميع يطلقها، لكنها ترسخت أكثر في الشباب.. وبدأت تنطلق الصيحات: أين أخلاق الميدان؟ أين أخلاق الشعوب؟

لقد كانت سفينة الأخلاق تنطلق بالجميع طيلة أيام الميدان، وما إن انفض الجميع، حتى انطلق الشباب يرجعون الفضل فيما حدث لأنفسهم– ولا أحد ينكر عليهم جهودهم ودورهم– لكن الميدان لم يكن يعج بالشباب فحسب، بل كان يحمي جنباته كل الأعمار، الغريب أن روح التآخي والتعاون والحب قد تلاشت وحلت محلها بذاءات اللسان، والتطاول والتعالي على الغير وروح الآنا، التي ملكت من كانوا شركاء في الميدان، وتحول العمل لمصلحة الوطن إلى إعلاء المصالح الفردية والحزبية والمذهبية.

فقد ظهرت على الواقع سحائب منذرة وعلامات غير مستتِرة، تدل على هبوط عام في مجال الأخلاق، تُخِيفُ قلب الحليمِ، وتترك آثارها على الصغير والكبير والشيب والفطيم، تترجم عن أزمة خطيرة يشتد بين الناس خُناقها، ولا رادّ لهذه السحب، ولا عاصم منها إلا بالعودة إلى الأخلاق الطاهرة والقيم العطرة، التي تعد كسفينة نوح في الإنقاذ من الغرق في أتُون الانحراف القِيَمِي والسقوط الأخلاقي.

يقول الرافعي في وحي القلم: لو أنني سئلت أن أجمل فلسفة الدين الإسلامي كلها في لفظين؛ لقلت: «إنها ثبات الأخلاق»، ولو سئل أكبر فلاسفة الدنيا أن يوجز علاج الإنسانية كلها في حرفين؛ لما زاد على القول: «إنه ثبات الأخلاق»، ولو اجتمع كل علماء أوروبا ليدرسوا المدنية الأوروبية، ويحصروا ما يعوزها في كلمتين لقالوا: «ثبات الأخلاق».

نعم، كان يجب على شبابنا الذين خرجوا بصدورهم عارية أن يحافظوا على أخلاقهم، وعلى أصالة الشعب الذي عاش متلاحمًا لا يهمه إلا علو وطنه.

ورحم الله الشهداء الذين تساقطوا في الميدان، مضحين بأنفسهم من أجل أن يعيش غيرهم ليحمي أخلاق شعبه، وحرية وطنه، لكن الواقع أظهر غير ذلك، حيث التناحر والتلاسن، بل والقتال، حتى رأينا أن من قتل في هذا التناحر بين الأطراف لعلو صوت الأخلاق السيئة كان أكثر ممن سقط في الميدان مدافعًا عنه وعمن فيه.

تقول ندا الشلقاني: في أثناء الثورة كان كل الشباب يحملون شعارات تبدأ بكلمة (لا)؛ لا للرشوة، لا للتزوير، لا للوساطة، لا للفساد، لا للتحرش، لا للغش، لا للاستبداد، لا للبلطجة.. رافضين كل السلوكيات والأخلاقيات السلبية التي كنا نعاني منها قبل الثورة.

وانتظرنا طفرة التغيير وتطبيق هذا الدستور، ولكن كانت (الانتكاسة) للقيم والمبادئ بدلًا من عودتها، وسقوط الدستور الشعبي وأخلاق الميدان في بئر النسيان!

والغريب، أننا نسمع في كل مكان مطالبات بحماية الثورة، لكنهم قاصدين الجانب السياسي فقط، لكن أين الجانب الأخلاقي من الثورة، والصور الإيجابية لها؟

فاكرين.. لما الشباب حموا البنات في الطوابير والزحام.. دلوقتي شباب تتحرش بالبنات في كل مكان!

فاكرين.. اللجان الشعبية السهرانة عشان تحمي جيرانها.. دلوقتي رجعنا تاني نقول (وأنا مالي)!

فاكرين.. لما كنا نكنس الشارع ونزين الرصيف.. دلوقتي المخدرات عيني عينك ع الرصيف!

فاكرين.. لما تعاهدنا على الصدق والحب والإخلاص.. دلوقتي الكذب والنفاق والمصلحة شعار المرحلة!

كان غريبا ما رأيناه ما تطاول الشباب على قامات المجتمع من مختلف التيارات، بل وتطاولهم على من يتعاملون معه، بل زاد تطاولهم على من يخالفهم أو يحاول أن يذكر فضل غيرهم في نجاح الثورة، والغريب أن كثيرًا من قنوات الاعلام فتحت شاشتها أمام سباب وبذاءات بعض هؤلاء الشباب، حتى أصبح الجميع يعيش حالة من التخوين.

وصدق الشاعر الذي قال:

كم سيدٍ متفضلٍ قد سبَّهُ                       منْ لا يُسَاوي طَعْنةً في نعْلِهِ

وإذا استغابَ أخو الجَهَالَةِ عَالِماً             كانَ الدَّلِيلُ على غَزَارَةِ جَهْلِهِ

واحرصْ على التَّقْوى وكُنْ مُتَأَدِّباً           وارغبْ عن القَوْلِ القَبيحِ وبُطْلِهِ

واستَصْحِب الحِلْمَ الشَّرِيفَ تِجَارةً            واعملْ بمفروضِ الكِتَابِ ونَفْلِهِ

واحبسْ لسانَكَ عنْ ردِيء مقَالِهِ               وَتَوَقَّ منْ عُثْرِ اللسَّانِ وزَلِّهِ

يقول الفيلسوف الأمريكي ويل ديورانت: [تتبعت انهيار اثنتين وخمسين أمة فوجدت أن أكثر أسباب الانهيار هو الجانب الأخلاقي].

وفي ذلك يقول أحمد شوقي:

وإِذا أُصيبَ القَوْمُ في أَخْلاقِهِمْ          فأَقِمْ عليهم مأْتِماً وعَويلاً

يقول الشيخ حسين شعبان وهدان: «كنا منذ سنين غير طويلة نتنسم ظلال المعاني الطيبة والأخلاق الكريمة، وكانت لغةُ التعامل بين الناس على قواعد الأصول الاجتماعية التي لا يجرؤ الأراذل أن يتخطونها، ومع بزوغِ سوءِ فهمٍ أو اختلاف بين اثنين، كان الطرفان يهْرعَان إلى كبير العائلة يعلمانه الخبر ويسوقان له الشكوى، وكان للحق في حياة الخلق صولةٌ غير مبطلة، وكان الحكم على الجميعِ قاضيًا، حيث تنفضُّ المجالس ولا يبقي إلا الوئام ومراسيم الاحترام، وقد تغيرت اليوم هذه المعالم بعد أن انتبذ كثيرٌ من الأفراد لغة الأدب والأصول والتحشم والتحاكم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم».

فيا شباب الأمة، ويا شعبنا.. سفينة الأخلاق ما زالت تنطلق، فاركبوا فيها جماعاتٍ وفُرادَى قبل أن يفوتَ الأوان وينقضي من عمر الزمان، هذه سفينة الأخلاق قد ارتفع شراعها وظهرت علاماتها أن لا نجاة من الغرق في المهلكات إلا بها، وينادي عليك حاديها من قلوبٍ تَئِنُّ إلى عهد التُّقَى وجمال الأخلاق أن اركب معنا ولا تكن من المتخلفين، فإن رسولك العظيم صلى الله عليه وسلم قد جمع فأوعى في بيانه الراشد المعَلِّمِ حين قال: «إنما بعثت لأُتمِّمَ مكارم الأخلاق».

تعالوا تعود مرة أخرى لأخلاقنا التي وصفها الله تعالى في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 63- 67).. وتذكر أخي الحبيب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: «ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق» (رواه أبو داود والترمذي).

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم