أبو العربي مصطفى يكتب: المستشار الهضيبي.. بصمات تربوية

بعد 45 عاما من رحيله.. حسن الهضيبي والذي يستحق أن يُدَّرَس، وأن يكون نبراسًا يُضيء للعاملين للإسلام الطريق في كيفية إدارة الأزمات، الأمر الذي جعل الإخوان المسلمين يخرجون من المحن والسجون على عكس ما كان يُستهدف لهم، صبروا وصابروا وجاهدوا أعظم الجهاد، بل وكانوا نواةً لجيلٍ جديدٍ حمل عبء الدعوة والحركة، وتعامل مع قضايا الدعوة وقضايا الأمة بمنظورٍ شامل، ومنهجية ثابتة.

حسن الهضيبي الذي رحل عنا في 11 نوفمبر من عام 1973م، وولد عام 1309ﻫ - 1891م، وبين هذين التاريخين كثير من البصمات التربوية التي تركها للأجيال القادمة.

لقد ولد في قرية عرب الصوالحة، مركز شبين القناطر، وتخرج في كلية الحقوق– لحبه الشديد للزعيم مصطفى كامل- وبعد تخرجه عام 1915م عمل محاميًا، قبل أن يصبح قاضيًا ويتدرج فيها إلى أن يصل لنائب رئيس محكمة النقض، ليستقيل بعدها عام 1951م ليصبح مرشدًا عامًا للإخوان، ويحكم عليه بعد حادثة المنشية قبل أن يخفف الحكم ويظل في السجن حتى يخرج عام 1971م.

 

بصمات تربوية

رغم أنه كان المرشد الثاني بعد الإمام البنا إلا أن بصماته وتأثيره على الأجيال عظيم لمواقفه التربوية.

فقد كان الهضيبي مدرسة في إدارة الموقف دون أن يحدث أزمة لتصرفه، فحينما حصل على ليسانس الحقوق ذهب إلى الشيخ محمود خطاب ليخطب ابنته، فقال لي العالم الفاضل: أليس من الأفضل أن يتقدَّم والدك بهذا الطلب؟

قال له في بساطة: لقد تقدَّم والدي يومًا عندما أراد أن يتزوَّج من والدتي، أما أنا فأتقدَّم لأني أنا الزوج لا والدي. وهكذا خرج من الموقف بلباقة دون حدوث أزمة.

 

تربية قلوب لا عقول

وحينما تعرض صف الجماعة إلى هزة بعد استشهاد الإمام البنا، وتصارعت بعض الأجنحة على شغل مكانه، إلا أن فريق من قادتها رأى في المستشار الهضيبي الربان المحترف، فتوافق الجميع على أن يتولى زمام الأمر.

لكن بعد نجاح الثورة وتغير الحال، رأى فريق أنه أحق بإدارة الجماعة– وكان يعتمد على القوة كنظام خاص- ولذا ما أن طلت الفتنة برأسها يحركها عبد الناصر ورفاقه، ويستخدم بعض شخصيات النظام الخاص، على رأسهم عبد الرحمن السندي في ضرب صف الجماعة، حتى كان الهضيبي يمسك بطرف المعادلة، حيث استطاع أن يخرج بالجماعة من هذه الفتنة الشديدة دون أن تهتز صورة ومنهج الجماعة، كما لم يعط الرخصة لأي شخص أن يفرض وصايته على الجماعة.

 

لأن أهلك خير من هلاك ديني

يقول عبدالحكيم عابدين: قامت ثورة مصر وبينها وبين الدعوة وقيادتها أسباب ليس هذا مجال الإفاضة فيها، وأخلص الهضيبي في نصحه للثورةِ ومنحها أنفع التأييدَ فيما يتفق ومبادئه الإسلامية، فلما اشتعلت أعاصير الخلاف بينها وبين جماعة الإخوان، وراحت الثورة تصبُّ على الجماعةِ أبشع ضروب البطش والاضطهاد، سارع أحد خلصاءِ الهضيبي إلى مقرِّ قيادةِ الثورة- وكان لا يزال موضع ثقتها الكاملة- للإجهازِ على رجالها، انتصارًا للدعوةِ وكفًّا للأذى عن الجماعة، فاكفهر وجه المرشد غضبًا وقال: «لأن يهلك الإخوان عن آخرهم- وللدعوة رب يحميها- خيرٌ من أن نبلغ قمة النصر عن طريقِ الغدر والخيانة، إننا مسلمون قبل كل شيء، ولو ملكنا الدنيا بإهدارِ الخلقِ الإسلامي فنحن الخاسرون».

 

النهي عن البكاء من خشيةِ الله على مسامع الظالمين

واعتاد الإخوان أن يجدوا في السجون أسعد الفرص للخلوة بالله سبحانه، حيث تشغلهم أعباء العمل للدعوة أوقات الحرية عن التفرغ لما يحبون من مناجاته، وكان هناك أخ بين المعتقلين من أرقَّهم قلبًا وأغزرهم دمعًا وأعلاهم نشيجًا في مناجاةِ الله إذا حلك الظلام وسكنت الحركة بين المعتقلين والحراس.

واستطاع الإمام الهضيبي أن يتبين من هذا النشيج شخصية صاحبه، فما وقعت عليه عينه في ساحةِ الفسحة العامة، حتى أقبل عليه يقول له: «أنا أعلم أنك رقيق القلب تبكي من خشيةِ الله، وتلك رتبة نغبطك عليها جميعًا، ولكن جهلة الحراس إذا سمعوا بكاءك، وأنت مرموق المكان في الدعوة، أسرعوا إلى سادتهم الطغاة، فأفهموهم أن قادةَ الإخوان قد أصابهم الهلع من الاعتقال، حتى إنهم ليبكون بكاءَ الأطفال».

وراع المرشد والحاضرين من الإخوةِ أن يسمعوا جواب أخيهم: «يا فضيلةَ المرشد، أنا أستعرضُ ذنوبي- إذا جنَّ الليل- فيخيل إليَّ من كثرتها أنَّ الله تعالى قد أخذ الجماعةَ كلها بأن يكون فيها مذنب مثلي!» فيبارك المرشد هذا الشعورَ ويكرر التشديدَ على صاحبه أن يكبت أناته بحيث لا يسمعها إلا الله!

ولقد لخص مصطفى أمين فكرته عن الهضيبي حينما قابله في السجن بقوله: «ولاحظت وأنا أتحدث إلى الهضيبي أنه رجل قليل الكلام، تتوهم أنه صارم بينما هو رجل رقيق هادئ فيه طيبة ممتزجة بالذكاء الحاد، قوي الملاحظة».

وهكذا يجب على المربي أن يتمرس لغة التربية الحقيقية التي تفتح لها قلوب الناس وتظل أثرها إلى سنين عددًا.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم