الإسلام دين الواقعية؛ إذ راعى ظروف الإنسان وفطرته وطبيعته البشرية في كافة الأحكام التي تُنظم شؤون حياته، وشريعة الإسلام لم تحرّم شيئًا يحتاج إليه الإنسان في واقع حياته، كمالم تبح شيئًا يضره.
وفى هذه الدراسة التى أعدتها الباحثة كيندة حامد التركاوي، ترى أن التربية الاقتصادية الإسلامية ليست هدفًا في ذاتها، ولكنها ضرورة للإنسان المسلم خاصة وغير المسلم عامة، ووسيلة لازمة لتحقيق الغايات العليا للمجتمعات قاطبة، فهي المعين على تحقيق الحياة الكريمة، والمساواة العادلة بين الأفراد، وهي الطريق لردم الهوة العميقة بين الفقراء والأغنياء، وهي العلاج الناجع لمشكلة المجاعات العالمية، والمشكلات الاقتصادية، والأزمات المادية.
وواقعية التربية الاقتصادية الإسلامية في كونها قوانين إلهية، وليست قوانين وضعية بشرية تفلسف الأمور تارةً، وتشطح بالخيال تارةً أخرى، فالقوانين الوضعية مهما بلغت من الدقة والشمولية الحد الأمثل إلا أنها لن تستطيع الوصول إلى الحد الأكمل؛ لأن القوانين الوضعية لن تُرضي الجميع، ولن تصلح لكل زمانٍ ومكان.
مظاهر واقعية التربية الاقتصادية الإسلامية
إن السمة الواضحة والجليّة للتربية الاقتصادية الإسلامية هي التوازن بين المادية والروحية، والعمل والعبادة، والفرد والجماعة، والواقع والمثالية، فالاقتصاد الإسلامي واقعي في غايته؛ لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية بطبيعتها ونوازعها العامة، ويحاول أن لا يرهق الإنسانية في حسابه التشريعي، لا يحلق بها في أجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإمكانياتها. وإنما يُقيم مخططه الاقتصادي على أساس النظرة الواقعية للإنسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي تتفق مع الفطرة.
إن التربية تحتاج فعلًا إلى التوازن والاعتدال والتوسط، فالمربي الناجح والموفق يمارس التربية وقد فتح عينًا على ما يريده من الطفل في كل المجالات وكافة المستويات، وعينًا على كيفية تطبيقها بأريحية وسهولة ضمن إطار المسؤولية الملقاة على كاهله، فكل فرد في المجتمع الإسلامي مسؤول عن خدمة ومصلحة هذا المجتمع كلٌّ حسب موقعه ووظيفته وسلطته واختصاصه وطاقته.
ولا يخفى على أحد الأزمات التي يتعرض لها العالم بأسره، من الأزمة الاقتصادية العالمية إلى أزمة المياه، ومشكلة المجاعة التي يتعرض لها ملايين البشر في جنوب أفريقية، ناهيك عن مشكلة الطاقة الكهربائية في عصر يعمل على الكهرباء بكافة مجالاته الصناعية والزراعية والحياتية.
لقد أكد فقهاء الإسلام على أن الشريعة الإسلامية بصفة عامة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الثبات والمرونة، وبين المحلية والعالمية، وتسمح بالاجتهاد فيما ليس فيه نص بضوابط شرعية، وفى إطار ذلك ينطلق أهل الحل والعقد والشورى والخبرة من علماء المسلمين للوفاء باحتياجات الأمكنة والأزمنة بما ييسر على الناس حياتهم.
وحين ننتقل لمجال الاقتصاد سنجد أن مسألة المرونة الإنفاقية تعد عنصرًا ضروريًا للتوافق النفسي للفرد، ومن شأن تدريبه عليها مبكرًا وترسيخها لديه أن يجنبه العديد من الصعوبات الناجمة عن تدني مقدار ما يحوزه منها، وثمة نماذج وصور عديدة يمكن للأسرة، وهيئات المجتمع الأخرى بواسطتها تنشئة تلك المهارة لدى أفرادها، والمنطق الكامن خلف ذلك أن الفرد القادر على أن يعدل مستوى إنفاقه ليواكب الظروف المحيط به، سيتمكن من ضبط موازنته المالية، حيث يقلص من إنفاقه حين ينخفض دخله، ويوسع هذا الإنفاق في حالة ارتفاع دخله بصورة متوازنة، أما من يعجز عن خفض نفقاته حين يتضاءل دخله سيقع في ورطة مالية، فإما أن يقترض أو أن يقع فريسة الإحباط الذي قد يولد بدوره، أدواء أخرى، وثمة صور شائعة في الثقافة لمن يتسمون بالتصلب الإنفاقي حيث نجد على سبيل المثال، العائدين نهائيًا من العمل بالخارج، يستمرون في الإنفاق بنفس المعدل مما يعجل بتبدد مدخراتهم ووقوعهم في مشكلات مالية وأسرية واجتماعية متعددة، ونجد ذات الظاهرة لدى من يتقاعدون.
إن المجتمع الذي لا يؤمن إلا بالمعطيات المادية دون الاعتقاد بالأمور الميتافيزيقية؛ يكون قد اتخذ من التربية وسيلة لتحقيق أهدافه الدنيوية العاجلة، وهذا هو النمط التربوي الذي نلاحظه في هذه الأيام في معظم الدول المتقدمة، أما بالنسبة إلى المجتمع الذي يؤمن أفراده بالنهج الإسلامي كإطار فكري لهم في الدنيا، فإن هذا المجتمع تكون نظرته أكثر شمولية تقودنا إلى غايات متصلة بحاضرنا ومستقبلنا في هذه الدنيا، وأهداف أخرى تقودنا إلى تحقيق غايات وجودنا في هذا الكون، وهو الفوز بجنات النعيم في الآخرة، هذا بجانب الاختلاف الشامخ بين النهج الإسلامي المتبع في المجتمع الإسلامي والأطر الفكرية الأخرى المتبعة في المجتمعات غير الإسلامية التي تؤثر بشكل قوي على برامج التربية وانعكاساتها الفكرية والسلوكية في شتى المجالات الحياتية.
وهناك لون من التكافل لم يلتفت إليه الباحثون وهو: التكافل بين أجيال الأمّة بعضها وبعض، وهو يكمل التكافل بين أقطار الأمّة بعضها وبعض، فهو تكافل زماني، بجوار التكافل المكاني. ومعنى تكافل الأجيال: ألا يستأثر جيل بخيرات الأرض المذخورة المنشورة، ويحلب درها، حتى لا يترك في ضرعها قطرة لمن بعده، بل يجب على الجيل الحاضر أن يحسب حساب الجيل المقبل، بل الأجيال المقبلة، وأن يصنع صنيع الأب الرحيم البصير، الذي يحرص على أن يدع ذريته في حال اكتفاء واستغناء، وأن يقتصد في إنفاقه واستهلاكه، حتى يترك لهم شيئًا ينفعهم، وقد قال رسول الله ﷺ: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
.