قضية التسول من القضايا الشائكة في المجتمعات الإسلامية، ورغم روعة المخزون التراثي للأمة الإسلامية في مناهج التعامل والعلاج والسيطرة على هذا الداء، إلا أن المعالجات الحديثة للظاهرة، سواء على مستوى الأفراد أو الدول، لا تعالج الحالة، بل تعمل على تفاقمها، حتى أصبحت كيانًا سرطانيًا مشوهًا لوجه المجتمع، ودالًا على تخلفه الحضارى.
لقد نفّرت السنة النبوية من فعل التسول، وتمنى الرسول ﷺ لو يبرأ المسلمون والمجتمع الإسلامي من هذه الظاهرة المشوهة لجمال المجتمع، والمعكرة لصفائه ونقائه، وكان الرسول ﷺ يصورها للمسلمون في أقبح الصور، موضحًا أنها منقصة للمؤمن، وتشوه وجهه يوم القيامة، وتكون نكتة سوداء في وجهه، في حين أن الرسول ﷺ يريد أن يتباهى بأمته المعافاة من النواقص والمشوهات يوم القيامة.
وما زال النبي يذم التسول ويصوره في أقبح الصور، ويذمه بأقسى المذمات، فيقول ﷺ: «من فتح على نفسه باب مسألة؛ فتح الله عليه باب فقر»، وفى الحديث تبيان للمآلات السيئة والنتائج المحبطة لمن يسلك هذا الطريق مستهدفًا جمع المال أو تحصيل الثراء.
وانتقالًا من التنفير النبوي من سلوك التسول إلى التربية النبوية بتحويل الفرد المستسهل للكسب عن طريق التسول إلى فرد عامل منتج كريم متعفف، مشارك في رسم صورة المجتمع المتعفف الكريم، ينتقل بنا الحديث الشريف، إذ يروى عن عيسى بن يونس عن الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر عبد الله الحنفي، عن أنس بن مالك: أن رجلًا من الأنصارِ أتى النبيَّ ﷺ يسألُه، فقال: أمَا في بيتِكَ شيءٌ؟ قال: بلى، حِلْسٌ نلبسُ بعضَه، ونَبسطُ بعضَه، وقَعبٌ نشربُ ُفيه من الماءِ، قال: ائتني بهما، قال: فأتاه بهما فأخذهما رسولُ اللهِ ﷺ بيده، وقال: من يشتري هذينِ؟ قال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قال: من يزيد على درهمٍ؟ مرتينِ أو ثلاثًا، قال رجلٌ: أنا آخذُهما بدرهمينِ، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمينِ وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: اشترِ بأحدِهما طعامًا فانبِذْهُ إلى أهلِكَ، واشترِ بالآخر قدُّومًا فأتني به، فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ الله ﷺ عودًا بيدِه، ثم قال له: اذهبْ فاحتطبْ وبعْ ولا أَرَينَّكَ خمسةَ عشرَ يومًا، فذهب الرجلُ يحتطبُ ويبيعُ، فجاء وقد أصاب عشرةَ دراهمَ، فاشتَرَى ببعضِها ثوبًا وببعضِها طعامًا، فقال رسول الله ﷺ: «هذا خيرٌ لكَ من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهِكَ يومَ القيامةِ، إنَّ المسألةَ لا تصلَحُ إلا لثلاثةٍ: لذي فقرٍ مُدْقِعٍ، أو لذي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجِعٍ» (أخرجه أبو داود وابن ماجه)
وهنا الرسول ﷺعالج مشكلة الفقر لدي الرجل الذي كان يتسول الناس بالبحث في الممتلكات، فبحث فيما إذا كانت ممتلكاته يمكن أن تمثل ثروة أم لا؟!
فطلب الرسول ﷺ من الرجل أن ياتية بكل شيء في بيته، فأتي بحِلس وقَعب (عملية جرد للمتلكات)، وكان الحِلس والقَعب يمثلان كامل ثروة الرجل إلى جانب صحته، ولم يأت الرجل بتلفزيون أو عدة هواتف جوالة تملكها أسرته، أو عدة أقراط وخواتم ذهبية وفضية، ولا حتى ببعض الدقيق أو السكر!
ورغم بساطة ما يملكه الرجل، إلا أن النبي ﷺ تعامل معها على أنها ثروة، وأنشأ لها مزادًا علنيًا، ليبيعها له بأعلى سعر؛ كي يوفر للرجل سيولة يستطيع أن يقيم بها مشروعًا يتحصل منه عى دخل.
وقسّم له الرسول ﷺ رأس المال إلى جزئين: جزء يقوت به أهله، كاحتياج عاجل لا ينبغي تأجيله، وجزء يشتري به أدوات الإنتاج التي سيعتمد عليها دخله مستقبلًا، حيث اشتري له الرسول ﷺ قدومًا لكي يحتطب ويبيع الحطب.. وغاب الرجل عن الرسول ﷺ أيامًا وعاد بعشرة دراهم من مشروع كان رأسماله درهمًا واحدًا!
للأسف نحن كأفراد ودول في العالم الإسلامي ما زلنا نتعامل بطريقة خاطئة مع قضية الفقر وتربية الفقير، ولم نتعامل بالطريقة النبوية الاقتصادية الرائعة، فلم نعلمهم الكسب، ولم نعلمهم التعفف أو الكرامة، بل أوصلناهم إلى التسول الفاجر، حتى وصل الأمر بأن يتسول البعض غسالة فول أتوماتيك أو كمبيوتر أومحمول، وبالفعل أصبح التسول بابًا من أبواب الثراء غير الحلال، مثله في الخطورة مثل مافيات المخدرات أو الآثار أو تجارة الأعضاء.
.