Business

حنان عطية تكتب: بالوثائق.. الخديوي إسماعيل أبو التعليم المجاني في مصر

لطالما تربى الكثيرون منا على كتب التاريخ في المدارس التي تتكلم عن شخصيات كان لها عظيم الأثر والأيادي البيضاء على انتشار التعليم في مصر، فسمعنا عن دور علي مبارك، ورفاعة الطهطاوي، وطه حسين، وغيرهم، في نهضة التعليم في مصر، لكننا لم نقرأ قط عن أن أيًّا من ملوك مصر وسلاطينها وخديويتها قبل ثورة يوليو 1952، قد قدم شيئًا نافعًا يُذكر في هذا الصدد.

لكن ببحث معمق وتفصيلي في تاريخ مصر، تتضح معلومات وبيانات تؤكد أن هنا وجهًا آخر للتاريخ لم يصل إلينا، وأن ثمة إيادٍ عمدت إلى طمس هذا التاريخ، بل وتشويهه ونسب كل النواقص إليه.

الخديوي إسماعيل.. اسم لو تردد على مسمع المصريين لن يذهب بهم إلا إلى ما درسوه في كتب التعليم ما بعد الثورة، والتي عمدت إلى شيطنة كل ما كان حادثًا أو مؤثرًا في الأحداث قبلها، ولكن بالعودة إلى الوثائق التاريخية تجد أن العكس تمامًا هو ما كان يحدث، وأن ثمة تشويهًا وتزييفًا قد تم في مراحل تاريخية مهمة في حياة مصر.

صفحات كثيرة لا تزال مطوية- بوعي أو بغفلة- من تاريخ الخديوي إسماعيل، ولكن وثائقها موجودة، وبكثرة مذهلة. ولكن أحدًا لم يُعِرْها ما تستحقه من الاهتمام حتى اليوم. من ذلك صفحة كبيرة جدًا لا تزال مطوية في قسم حجج الأوقاف وسجلاتها ووثائقها المحفوظة في ديوان وزارة الأوقاف في باب اللوق بالقاهرة.

صورة الخديوي إسماعيل بجوانبها السلبية والإيجابية لن تتضح بكامل معالمها ما لم نفتح هذه الصفحة، وندقق في محتوياتها وتفاصيلها الكثيرة التي تروي قصة أخرى عن هذا الخديوي. قصة تنتمي إلى عالم الزهد والتقوى والورع من جهة، والوطنية والتفاني في خدمة مصر والمصريين حتى آخر نفس في حياته.

 

وقفية جفلك وادي الطميلات

تقول الوثائق التاريخية إن وقفية إسماعيل لجفلك وادي الطميلات كانت هي السند المادي الأول في تاريخ مصر الحديثة، الذي وفر التمويل لسياسة نشر التعليم الأولي في جميع أنحاء القطر المصري، بعيدًا من أخطار النفوذ الأجنبي، الذي بدأ يتحكم في موازنة مصر آنذاك، وظلت تدعم موازنة وزارة المعارف وتوفر نسبة لا بأس بها من التعليم المجاني، حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا.

وفي العام الذي افتتح فيه إسماعيل مجلس النواب عام 1866، وقف إسماعيل أكبر وقفياته وأكثرها أهمية في تاريخ مصر الحديث كله، وهي وقفية «جفلك وادي الطميلات بالتل الكبير بمديرية الشرقية» ومساحتها 21.918 فدانًا (واحد وعشرون ألف فدان، وتسعمئة وثمانية عشر فدانًا)، وخصص ريعها للتعليم، فاشترط أن يُصرف «على المكاتب الأهلية (المدارس الابتدائية) والمصالح والمهمات اللازمة لإدارة شئونها وشؤون التعليم والتعلم، وإذا تعذر الصرف على المكاتب صُرف الريع على الفقراء والمساكين أينما كانوا وحيثما وجدوا في الديار المصرية». (حجة محررة في مجلس الشرع الشريف المحمدي في سنة 1283هـ - 1866م في محكمة الباب العالي بمصر المحروسة)

وكان لوقفية وادي الطميلات أهمية أخرى ذات طابع استراتيجي، ينم عن بعد نظر الخديوي إسماعيل، وهي أنه قبل أن يقوم بوقف أراضي هذا الجفلك، كان قد استردها من شركة قناة السويس العالمية، التي كانت استولت عليها في عهد الخديوي سعيد مقابل ثمن بخس لتكون مجالًا لتمدد النفوذ الأجنبي، انطلاقًا من مركز الإدارة الدولية للقناة باتجاه الشرق. وما إن استخلص إسماعيل أراضي هذا الجفلك واشتراها لنفسه حتى أسرع بإدخالها في حرز الوقف وخصصها للصرف على شؤون التعليم في جميع أنحاء القطر المصري- كما سلف.

وكان إسماعيل في تصرفه بوقف أراضي وادي الطميلات بعيد النظر من جهة أخرى، إذ سرعان ما تحول النفوذ الأجنبي إلى تدخلٍ رسمي في مالية مصر، بعد أن تم وضعها تحت الرقابة المباشرة للدول الأجنبية الدائنة. وعندما حدثَ ذلك في أواخر عهده كانت أوقافه في مأمنٍ من هذا التدخل، وكانت أعيانها أيضًا- شأن أعيان جميع الأوقاف- خارجة عن إطار التعاملات الاقتصادية العادية التي خضعت هي الأخرى لتأثيرات التسلط الأجنبي عبر المحاكم المختلطة والأهلية حينًا، وتحت وطأة المصادرات التي كانت تقوم بها بنوك الرهن العقاري، وتسلب من المصريين أملاكهم وأراضيهم وفاءً للديون في كثير من الأحيان.

وعندما شرعت نظارة المالية المصرية في بيع أراضي جفلك الوادي في سنة 1898، في إطار إجراءات تدبير أقساط الديون التي تورط في بعضها الخديوي إسماعيل نفسه، لم تتمكن الوزارة من بيعها، إذ عارضه ديوان عموم الأوقاف على أساس أن أراضي الوادي وقف- ومن ثم لا يجوز بيعها- وصدر أمر عالٍ بتاريخ 2 آذار (مارس) 1899 مؤيدًا لوجهة نظر الديوان. وظل النزاع حول هذه المسألة مستمرًا بين وزارات المالية والأشغال والأوقاف حتى تسلمته وزارة الأوقاف سنة 1924، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ هذا الوقف الهائل، ولا تزال تداعياتها مستمرة حتى الساعة بصور متعددة.

 

أوقاف للفقراء

وثائق أوقاف الخديوي إسماعيل تقول إنه ما إن تولى الحكمَ سنة 1863م، 1280 هـ، حتى شرع ابتداءً من تلك السنة ذاتها في تحويل ممتلكاته التي ورثها عن أبيه إبراهيم باشا، وعن جده محمد علي باشا، إلى أوقاف خيرية وأهلية، كانت أولها وقفية مقدارها 252 فدانًا في مديرية الشرقية سجلها في محكمة الباب العالي في مصر المحروسة، بتاريخ 3 صفر 1280هـ، واشترط فيها أن: «يُصرف ريعها على الفقراء المولوية الواردين والمقيمين والمنقطعين والمترددين» على تكية المولوية في السيوفية (مصر). ثم توالت وقفياته على تكايا ومساجد وعلى الفقراء والمساكين في عموم الديار.

وبعد عامين من توليه الحكم، بادر الخديوي إسماعيل بوقف عشرة آلاف فدان دفعة واحدة، ليصرف ريعها في «بناء وعمارة ومرمات ومصالح ومهمات وإقامة الشعائر الإسلامية بالمساجد، والمكاتب الكائنة بمصر المحروسة». ووقف في الوقت عينه على بطرخانة الأقباط الكاثوليك مساحة مقدارها 233 فدانًا في سنة 1285هـ ــ 1868م ليصرف ريعها على الفقراء وأبناء السبيل والمترددين على البطرخانة.

نعود إلى دفاتر أوقاف الخديوي إسماعيل لنكتشف أنها بلغت أكثر من خمسين ألف فدان، بخلاف وقفياته من العقارات المبنية، والقصور، والمنقولات المختلفة. وتكشف هذه الدفاتر أيضًا عن أنه لم يكف عن تحويل ممتلكاته إلى وقفيات منذ السنة الأولى التي تولى فيها الحكم حتى آخر أيامه، وهو في المنفى في قرية «ميركون» التابعة لناحية «غلاطة» في إسطنبول، حيث سجل آخر وقفياته في محكمة «بشكطاش في دار الخلافة العلية» يوم 9 شعبان 1312هـ- 4 شباط (فبراير) 1895م، ثم وافته المنية هناك بعد شهر واحد في يوم 9 رمضان 1312هـ- 2 آذار 1895م. وكانت مساحتها 9557 فدانًا (وكسور من الفدان). وورد قرب نهاية وثيقة حجة هذا الوقف قول الخديوي إسماعيل، إنه عدل عن كتابة وصيته، لأنه لم يعد يملك شيئًا من حطام الدنيا، لأنه أوقفها وحبسها، وأنه «لم يعد يملك شيئًا فيطلق عليه اسم مال، خلاف ما على بدنه من الملابس».

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم