البيت مملكة صغيرة في بُنيانها، قويةٌ في ثمارها؛ تنبت الخير إذا كانت بذور النبات من الخير، وسُقيت من خير، وتُخرِج الشوك والشر إذا كانت بذور النبات مُحاطة بالشوك، أو سقيت بطريقة خاطئة بها شوائب عالقة؛ فتفسد ما كان صالحًا، ولو كانت السقيا بجهلٍ وبدون قصد، فستخرج مما تُروى منه وتنهل.
وفى دراسة بعنوان: «الأب المربي»، للباحث: مصطفى محمود زكي، يرى أن هذه المملكة يجب أن يكون لها ملِك حاكم يقودُ الأمور، ويُهيمن ويسيطر عليها، ولكن بالحب والود والتألُّف، وليس بالقمع والقهر والقوة، فالقهر لن يولِّد سوى الانفجار، والحب سيولِّد الخيرَ والألفة، والتعايش والاستقرار الذي سيعم على المملكة كلِّها، مما يعود بالنفع على الملِك ذاتِه، المتمثِّل في الأب، أما الأم، فهي نبع الحنان الصافي، ذلك النبع الدافئ الذي يُشِعُّ نور الحب وضياء المحبة؛ فهي باختصار عنوان الخير كله.
الوجود الفعلي للأب المربي
إن دور الأب لا يجب أن يقتصر على دور البنك المركزي للأسرة، أو أنه مركز تحصيل المنفعة وفقط، بل هو القائد المحبوب بين أفراد الأسرة، فكثيرٌ من مشاكلها تحل بوجود الأب، وجودًا فعليًّا محيطًا وملمًّا بما حوله، وعكس ذلك يُحدث بلبلة في الكيان الأسري.
إن كثيرًا من الآباء يأتي إلى البيت بعد يوم شاقٍّ متعب في العمل، لا يفكر في شيء سوى أن يأكل ثم يرتاح بعد هذا اليوم الشاق، وينام نومة هنيَّة، ولا يفكر في أي شيء آخر سوى ذلك؛ حتى يكون مهيَّأ ليوم غد، الشاق من أوله إلى آخره، وهكذا إلى ما لا نهاية، حتى في يوم العطلة لا يفكر الأب إلا في الراحة وفقط؛ حتى يستعدَّ للعناء الذي يلاقيه في الأيام التالية في العمل، ولكن هذه هي الطامة الكبرى، فنعم، هو موجود في المنزل ولكنه عديم الفائدة، بل تجد الأسرة تقول على ذلك: ليته لم يكن موجودًا، حيث إنهم لا يشعرون به، بل إنه بذلك يضيق عليهم أيضًا، فهو حتى يرتاح لا يريد أن يضايقه أحد، أو يُصدِر صوتًا، أو يُحدِث أمرًا، وتقوم الأم هنا بدور الحارسة التي تُسكت كلَّ صوت يخرج، وتكتم كلَّ فم يتحدث بصوت عالٍ؛ حتى لا يستيقظ الملك الحاضر الغائب عديم الفائدة.
فهذا وجود، ولكنه عديم الفائدة، أما الوجود الذي نتحدث عنه فهو إعطاء الأسرة جزءًا من الوقت، فلتعتبره عملًا إضافيًّا أو أي أمر آخر يحتاج إلى وقتك الذي يجب أن تفرغَه لهم، ولو بضع ساعات يوميَّة، المهم أن تكون موجودًا فعليًّا في المنزل، ولكن كيف يكون هذا الوجود الفعلي؟
إن الوجود الفعلي يكون بعدة أساليب وطرق؛ كي يشعر المحيطون أنك موجود معهم؛ وللجميع الحق في الابتكار:
أولًا: الوجود بالاستماع:
بمعنى أن يكون الأب جالسًا مع الأسرة بعد نهاية اليوم يستمعُ لهم، فيما يريدون أن يتحدثوا فيه، حتى ولو كانت توافهَ الأمور كما يظن البعض، وقطعًا ستكون كذلك؛ فإن الطفل لن يجلس ليتحدَّث معك في مسألة الكونجرس الأمريكي مثلًا، وقراراته التي تضيق على العرب والمسلمين، أو أنه سيتحدَّث حتى عن حلِّ مجلس إدارة إحدى نوادي الكرة، فإنه سيكون حديثُه على قدر سنه؛ فالطفل كل أحلامه وطموحاته أن يبرز اهتمامك به؛ ولذلك يتحدَّث كثيرًا في أي شيء تافهٍ وصغير، ولكنه كبير بالنسبة له؛ لأن ذلك أقصى ما وصل إليه فكرُه حتى الآن؛ فلا يجب عليك أن تحقر مما يقول، وأن تبرز اهتمامَك بما يقول، وأن تشعر أن ما يقوله ذو قيمة كبيرة لك، وأنه هامٌّ ومؤثر في حياتك؛ فهذا يُنتِج لدى الطفل الحس بالمسؤولية، والثقة بالنفس، والاهتمام بالمواضيع كبيرِها وصغيرها، وأمورًا كثيرة جدًّا نعجز أن نحصيَها الآن، وكل هذا ينتج فقط بمجرد جلوسك والاستماع لما يقول الطفل، وإبراز اهتمامك والتحاور حول ما يقوله.
فهذا الاستماع سوف ينتج أمرًا إضافيًّا عما سبق؛ وهو المصارحة والتصادق بين الأب والأبناء، وأنه لا داعي للذَّهاب للغير ليستمعوا له، وأهمية هذا الأمر هو أن الطفل يحتاج إلى من يسمعُه، فإذا وُجد وكان الأب ممن يستمع له، فإنه لن يذهبَ إلى خارج هذا الإطار ليُخرِج تلك الطاقة التي يجب أن تخرُج؛ لأنه لا يعلم مَن الذي سوف يوجِّهه، وأي توجيه سيوجه، وهل سيكون صحيحًا أم خاطئًا؟ وإن كان في الغالب الأعم سيكون خاطئًا ألفًا بالمائة؛ ذلك لأن الطفل سيصادق طفلًا مثله، وفي مثل فكره، ولا يستطيعون أن يوجِّه بعضهم بعضًا توجيهًا صحيحًا.
ثانيًا: الوجود بالنصح:
ملك البيت لا يجب أن يكون حازمًا طوال الوقت، ولكنه يملأ المملكة حبًّا ودفئًا، وبذلك الحب وهذا الدفء يقوم بالنصح بأنواعه، بالترغيب وبالترهيب: فأما النصح بالترغيب، فيكون بترغيبه في أمرٍ ما يحبُّه ويريده، بقولنا: إن فعلت ذلك فسوف تنال هذا، أو بالترهيب: إن لم تفعل ذلك فلن تنال ما تريد؛ فهذا النصح العادي المتعارف عليه بين الناس وفقط، وهذا ليس سيئًا، بل هو شيء جيد للغاية، ولكن يجب أن يضاف عليه أمر هام جدًّا؛ وهو التوعية؛ كي يكون نصحًا حقيقيًّا، وليس نوعًا من أنواع الأوامر التي يفرضُها الحاكم على الرعيَّة، فيجب أن تُفهِّم الطفل بأن هذا الأمر الذي فعله هو أمر خاطئ؛ ذلك لأنه كذا وكذا، وخطورته كذا وكذا، أو أنه يجب أن تفعل أمرًا ما، وذلك للأسباب الآتية، والتي تعدِّدها له، قد يظنُّ البعض الطفلَ ذا عقلية صغيرة، ولا يفقه ما تقولُ له، وهذا فهم خاطئ؛ فالطفل ذو عقلية وبصيرة عالية تنمو مع الوقت، ويجب أن تُحترم دائمًا، ولا تؤخذ على سبيل أن الأب هو الكبير الحاكم المهيمن، والذي يجب أن تطاع أوامره ونواهيه دون أي مناقشة كما الحاكم العسكري.
إن ما تمليه على الطفل سوف يتوقَّف عن فعله سواء بالحب أو بالقوة، ولكنه سوف يعاود فعل ذلك مرة أخرى، وسوف تنهاه أنت مرة أخرى، وقد يكون بعنف وقوة أكبر من سابقتها؛ وذلك لأنك أمرته من قبل وعلَّمته من قبل، فكيف نسي هذا؟!
إن الطفل لم ينسَ، ولكنه لم يفهم من الأصل ما تريد؛ فهو حين نفذ ما أردته كان يريد التخلُّص من الموقف، أو أنه يريد ما رغَّبته فيه، أو لا يريدُ ما رهَّبته منه، ولكن حين تُرشد الطفل سوف يرسخ في عقله بعضٌ مما قلته له، حتى إذا أخطأ مرة أخرى وذكَّرته بما قلت من قبل، وبفهم أعمق من ذي قبل، سوف يفهم الطفل حينها أن ما فعله خطأ لأجل كذا، وستجد هذا الطفل يُرشد الأطفال من حوله لهذا الأمر أيضًا بما علمته إياه؛ ذلك لأنه فهم ووعي ما تقول أنت، وليس الأمر عبارة عن أوامر تصدر من الوالي الشرعي للبلاد.
ومن أخطر الأمور التي نراها يوميًّا عملية التضارب التي تحدث للطفل؛ لأنه كما ذكرنا يقوم بعملية القياس؛ فعندما نقول له: لا تكذب، ويرى أباه أو أمه يكذبان أمامه، يحدث التضارب، عندما نقول له: إن التدخين سيئ، والأب يدخن، يحدث التضارب! عندما نقول: الأكل بالطريقة الفلانية خطأ، ويأكل الأب بها أو الأم بها، فيحدث التضارب! يجب أن نتقي الله في أبنائنا، وأن نراعي ما نفعل أمامهم، فنحن القدوة وهم مقلدون لنا في كل تصرفاتنا، فموقف من الأب أو الأم أمام الطفل يكفيه، أفضل من ألف ألف نصيحة ونصيحة، حيث إن الموقف يرسخ في عقل الطفل منذ الطفولة إلى الممات بمبدأ يصعب إخراجه منه؛ ولذلك نحرص أن يكون ما يرسخ في صالح، الطفل لا ضده، ولا يقيم لديه التضادَّ والتضارب.
ثالثًا: الوجود باللعب:
من أفضل وأروع الوسائل التي تُشعِر الأطفال بالوجود: اللعبُ معهم لفترة طويلة، وبصفة دائمة ويومية، إن الطفل لديه من الطاقة ما يستطيع بها أن يلعب طوال اليوم دون كلل أو ملل أو تعب حتى ينام، ولكن الأب المسكين المطحون طوال اليوم في العمل، فضلًا عن كونه لا يريد اللعب مع الطفل؛ فهو لا يريد أن يسمع صوته من الأصل، وهذه طامة أيضًا؛ فالطفل يحتاج إلى اللعب مع الأب ولو بالقليل من الوقت، فذلك يُشعره بالحب والاحترام، وبأنه مرغوب فيه ومحبوب من قِبَلِ الملِك والحاكم، فما أحلاه من شعور لدى الطفل، وما أسعده في هذه اللحظات! فالطفل يكون سعيدًا عندما يلعب مع الأطفال في مثل سنه، ولكن هذا لا يُضاهي سعادة اللعب مع الأب ولو لدقائق، فهو يحب الأب، ويريده أن يشعر منه بالحبِّ الشديد، والوجود المرغوب فيه.
رابعًا: الوجود بالمشاركة:
إن الوجود بالمشاركة فيما يحبُّه الطفل من أفضل أنواع التأثير في قلب الطفل مباشرةً؛ فعندما تتشارك مع الطفل في مشاهدة فيلم كرتون يحبُّه، فهذا يجعله يشعر أن هناك أمورًا مشتركة بينكما، وبذلك تنمِّي رابطة الصداقة والألفة، وكذلك كما في اللعب فهو نوع من التشارك، وكذلك في الأكل معًا، وليس كل واحد في موعد مستقلٍّ عن الآخر، وحتى لو كان الطفل قد أكل ألف مرة من قبل، فلا تتركوه أثناء تناول الطعام، بل اجعلوه شريكًا لكم، وكذلك الأمر في شتى الأمور.
خامسًا: الوجود بالمحببات:
من الأمور التي يرتقبُها الطفل عند دخولِ الوالد- الحلويات أو ما الذي سيأتي به عند دخوله اليوم، فهذه وسيلة ممتازة أيضًا للوجود؛ لأن الطفل سيقيم رابطًا بين الأب وبين المحببات التي تأتي إليه من حلويات وما شابه ذلك، وإن كنا ننصحُ دائمًا ألا تكون بالإسراف فيها، أو التقطير؛ فخير الأمور الوسط.
فدائمًا في هذا الصَّدد لا يكون الأمر بصفة يوميَّة، ولا يكون بانعدامه؛ بحيث يعرف الطفل أن هذا الأب ليس محلَّ سوبر ماركت يأتي له بما يريد وفقط، فهو أب، ومن حبه له يأتي له بما يحب.
سادسًا: الوجود بالتعليم:
وخصوصًا كتاب الله، فمن أفضل البيوت التي تدخلها، بيت لأبٍ يجلس مع أطفاله، ويحفِّظهم كتاب الله ولو ببضع آيات، فهذا الوجود رائع فوق الوصف؛ لأنه بذلك يعلِّم الطفل ما ينفعه، وأيضًا يكون موجودًا مع الطفل فعليًّا، وكذلك يكون موجودًا بكونه ناصحًا ومعلمًا، وفي هذا الخير الكثير الذي سيجنيه الأب فيما بعد، وكذلك بكونه القدوة، وفي هذا أفضل سبيل لكسب الأبناء والتأثير فيهم.
.