جاء خطاب التشريع الإسلامي يحمل رسالة تربوية، تحمل الهداية للإنسانية الحائرة؛ لتخرجها من شقوة الانحراف عن دين الله إلى نور الإيمان، بما شرع وأنزل لها من أوامر ونواهٍ وهداية، وبما رسم لها من مناهج تتلاقى مع الفطرة، وتوافق العقل، وتواكب تطور الإنسانية على اختلاف مراحلها.
وهدفت هذه الدراسة التى أعدها كلٌّ من الدكتورة هيفاء فياض فوارس، والدكتورة أحلام محمود مطالقة، الأستاذين بقسم الدراسات الإسلامية جامعة اليرموك، إلى استجلاء الأثر التربوي للخطاب التشريعي في مجالي: تكريم ذات الإنسان، واحترام إرادته، باستخدام المنهج الوصفي التحليلي.
الخطاب التشريعي وتكريم الإنسان
إن تكريم الإنسان يعني: إيصاله إلى مرتبة شريفة عزيزة، يسمو بها بجهده وجهاده نحو الكمال؛ تحقيقًا لإنعام الله تعالى وإحسانه غير المحدود، بعيدًا عن الابتذال والإهانة والتحقير، وعملًا وفق سننه التي لا تتبدل ولا تتغير.
فتكريم الذات الإنسانية يكون على جانبين: جانب تشريفي، يتمثل بالعطايا والإحسان وحفظ الكيان المعنوي لبني البشر، وآخر تكليفي، يتمثل بما أنيط بهم من أعمال ووظائف ترتقي بإنسانيتهم إلى مستوى الكمال البشري المنشود.
مظاهر تربوية لتكريم الذات الإنسانية في الخطاب التشريعي
1- تكريم الإنسان من خلال تكليفه بإقامة شرع الله
كان من مظاهر تكريم الإنسان: منح الخالق للإنسان الأهلية لتحمّل الأمانة، قال تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72)، ووجه تكريم الإنسان في حمل الأمانة، أن حملها وأداءها يحققان الكمال الإنساني، الذي تهدف التربية الإسلامية إلى تحقيقه، والكمال الإنساني لا يتم إلا بالاستجابة لما شرع الله للإنسان في كتابه من البينات والهدى والفرقان.
2- تأكيد مقاصد الشريعة على مصالح الفرد والأمة
بين الفقهاء أن مقاصد الشريعة تؤكد مصلحة الفرد والمجتمع معًا، والوفاء بحاجات الناس ومطالبهم في كل عصر وبيئة، وهذه المقاصد تكفل حفظ خمسة أمور: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. ثم إن وسيلة حفظ هذه الأمور الخمسة تتدرج في ثلاثة مستويات، بحسب أهميتها، وهي ما أطلق عليه علماء الأصول اسم: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات.
3- احترام إنسانية الإنسان
كفلت التشريعات الإسلامية حفظ الكرامة الإنسانية وصيانتها من الاحتقار، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
- أن الدافع الأساسي من الغزوات هو إنقاذ الناس من الظلم والجور، وإدخالهم في دين الله بكرامة وعزة، وأحكام الجهاد في التشريع الإسلامي صريحة في ذلك.
- جعل الإسلام من واجبات الزوج تجاه زوجه حفظ حق الكرامة للمرأة، المتمثل بصون كرامتها بشكل كامل، وبصورة لا لبس فيها، ولا غموض، فلا يُسمعها كلامًا هابطًا، أو يؤدبها بألفاظ سوقية رخيصة، ولا يطلب منها تعاطي أفعال مهينة لكرامتها.
4- استخلاف الإنسان في عمارة الأرض
من مظاهر تكريم الخالق الحكيم للإنسان تكليفه بالخلافة في الأرض؛ ليخلف بعضهم بعضًا في أداء حق العبودية الخالصة لله عز وجل، وتطبيق أحكام شرعه، وأداء تكاليفه، والقيام بإعمار الأرض بما يحقق له المنفعة والاستقرار والسعادة والأمان؛ وبذلك يفوز الإنسان بأعظم مرتبة، وأفضل منزلة، يعلو بها على جميع مخلوقات الله.
المبادئ التربوية المستفادة من تكريم الإنسان في الخطاب التشريعي
من أهم المبادئ التربوية التي تؤكدها الأحكام الشرعية في تكريم ذات الإنسان فيما يأتي:
- الاعتراف بقدرة الإنسان على الإنشاء والتعمير والتجديد المستمر، وعلى تحمل المسؤولية نحو نفسه، ونحو مجتمعه، حيث منّ الله تعالى على الإنسان بقدرات وطاقات وشرع له من الأحكام ما يكفل المحافظة عليها من جهة، والارتقاء بها من جهة أخرى.
- الإنسان سيد على ما استخلفه الله فيه، يديره وفق ما أمره به، وفي ضوء ما أودع في الكون من سنن ثابتة، فهو صاحب مكانة عظيمة؛ بما حُمل من أمانة التكليف، وتحمل المسؤولية تجاه نفسه ابتداء، وتجاه غيره انتهاء.
- إن لتكريم الإنسان دورًا مهمًا في إقرار التوازن في ذات الإنسان، وإشاعة الشعور بالقوة في نفسه؛ ذلك لأن اتجاه الرفعة والعزة يؤدي إلى قوة الإحساس بالوجود، وينمي الشعور بالذات، ويثمر بالتالي الإيمان في النفس، الذي هو مفتاح التوازن في الشخصية، ومعقد الفاعلية في المحيط.
- الإنسان مخلوق مكرم ومقدر ومفضل من لدن خالقه، لا يقبل تحت أي مبرر إذلال نفسه، أو تحقير ذاته، أو تعطيل قدراته.
مبادى تربوية في احترام إرادة الإنسان
- تقرر التربية الإسلامية أن للإنسان حرية في اختيار قيمه ومبادئه التي تنظم مناشط حياته المختلفة، إلا أن هذه الحرية مقرونة بتحمل الإنسان المسؤولية تجاه ما يحتكم به إليه من قيم ومبادئ، وبالتالي يترتب الجزاء على ذلك في الدنيا والآخرة. ويأتي هذا المبدأ في ضوء الوظيفة الأساسية للتربية الإسلامية والمتمثلة بإعداد الشخصية الإنسانية في كل مجالاتها: الروحي، والعقلي، والجسمي، والنفسي، وما إلى ذلك، الأمر الذي يتطلب أن يبرز سلوك الإنسان في ضوء إرادة واختيار بعيدًا عن الجبر والإكراه.
- حرية الاختيار من أهم عوامل الارتقاء بإنسانية الإنسان، وإطلاق قدراته الفكرية المبدعة، وطاقاته الإنتاجية المبتكرة، واستنهاض همته وحماسته، واستنفاذ مواهبه وملكاته، وذلك لأن الإسلام يعطي العقل البشري الفرصة في العطاء والإبداع الحر المقرون بثوابت الدين الحنيف وأسسه.
- السلوك في التربية الإسلامية إرادي، بعيد عن التلقائية والتقليد، وذلك لأن الإنسان مطلوب منه أن يقوم بسلوكه في ضوء وعي تام به، منبثق عن إرادة ورضًا كاملين به.
- إن احترام الإرادة الإنسانية يكفل حق إبداء الرأي، وجعله واجبًا من واجبات الأمة، خاصة وأن الله قد خص هذه الأمة على غيرها من الأمم؛ بقيامها بالشهادة على الناس.
- احترام الإرادة يحفظ الهوية الإسلامية للفرد والأمة، لا سيما في عصر العولمة، حيث تعد العولمة مظهرًا من مظاهر التقاء العوالم، وهي تحمل بين طياتها أساليب القضاء على فكر الأمم وأيديولوجياتها؛ وتنازل الأمة المسلمة عن هويتها باسم وحدة العالم؛ ليصبح قرية كونية واحدة.
وعليه فإن النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على الأفراد والجماعات والمتمثلة بحرية الاختيار، تتيح للفرد والمجتمع قدرًا من الاختيار، بعيدًا عن مجرد التقليد والانصياع لقيم قديمة دارجة أو حديثة منتشرة على يد العولمة.
.