دولة المتقين.
مما كتبه: الإمام حسن البنا
يروي المحدثون في الصحيح ما معناه أن رجلًا- وقف والرسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة- فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاعت العيال، واحتبس المطر، فادع الله يسقينا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يستسقي ويسأل الله - وما في السماء قزعة- فأخذ السحاب يتجمع بعضه إلى بعضه، ثم وكف المطر وهطل حتى تقاطر خلال لحيته الشريفة وهو على المنبر.
وجاء يخطب في الأسبوع التالي فوقف الرجل وقال: يا رسول الله. سالت الأودية بالمطر وكدنا نهلك، فادع الله لنا، فابتسم صلى الله عليه وسلم وقال ما معناه : ما أسرع ملالة ابن آدم، ثم رفع يديه يدعو ويقول اللهم حوالينا لا علينا، فانحسر الماء وبعد السحاب عن أفق المدينة وأقطارها.
أيها الناس:
أرأيتم أعجب من هذا، وأوسع دولة، وأعظم ملكًا، وأعز جانبًا، وأقوى سلطانًا؟
أيها الناس:
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبر من جذوع النخل في مسجد سقفه الجريد لا يمسك المطر، حتي إنه ليتساقط فيتخلل لحيته الشريفة، هذا حظه من دنياه وهذه مظاهر دولته الأرضية ومملكته البشرية، ولكن هذا العظيم المتواضع الذي قنع من دنياه بخبز الشعير طعامًا وبالقميص ثوبًا، وبالمسجد مثابة وأمنًا، وبمنبر الجريد شرفة يطلع منها على الناس هو الذي يأمر السماء فتأتمر، ويدعو السحاب فيتجمع، وينادي المطر فيستجيب، ويزجر الهواكل فتنزجر، ويتصرف بإذن مولاه وتأييده في مملكة السماء.
أيها الإخوان المسلمون:
إن لأهل الأرواح دولة وللمتقين سلطانًا ومملكة، هي أوسع أقطارًا، وأعلى منارًا من هذا الملك الزائل والدولة الحائلة والسلطان المزعزع المترجرج، فاتقوا الله.
أيها الإخوان:
طهروا أرواحكم، وفدوا نفوسكم، واسموا بعواطفكم ومشاعركم عن هذه الأعراض الدنيوية، وكونوا ربانيين، يمنحكم الله من قوته وتأييده ما تعنو له الحياة وتنحني أمامه رءوس الجبارين.
أيها الإخوان المسلمين:
إنما سقت لكم هذا الحديث-وقد سمعتموه من قبل وكلكم به عليم- لأنكم بصدد دعوة جريئة لا ينهض بعبئها إلا كل صبور شكور، فأحببت أن ألفتكم إلى دولة التقوى ومملكة السماء، فكل الدولات لها تبع وكل الممالك معها هباء.
فاعملوا والله معكم.
حسن البنا
.