على أرض فلسطين نبغ الكثير من العلماء والدعاة الذين تركوا بصماتهم واضحة، وتربت على تراثهم الأجيال، ونهلت من معينهم الفياض، ومن بينهم الإمام الشافعي، وهو من أفضل من ترك تراثًا تربويًا يساهم في إعادة بناء الشخصية المسلمة من جميع جوانبها المختلفة، ويعتبر درةً في تاج العلماء الذين حفظ الله بهم هذا الدين.
وفي دراسة: «مقومات الشخصية الإسلامية في الفكر التربوي للإمام الشافعي»، للدكتور نافذ سليمان الجعب، الأستاذ بكلية التربية، جامعة الأقصى، غزة، فلسطين، استعرض فيها جانبا من التراث التربوي في فكر الإمام الشافعي.
المؤهلات التربوية التي تمتع بها الإمام الشافعي كمفكر تربوي
من خلال الرجوع إلى سيرة الإمام الشافعي وما كتب عنه، يتبين أنه توفرت فيه مقومات التجديد بمفهومه المطلق، كصاحب مذهب فقهي له أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها، وكذلك توفرت فيه مؤهلات التجديد التربوي؛ التي جعلت من أقواله ومواعظه أمثلة سائرة على الألسن، وفي الكتب التربوية، لا يستغني عنها باحث تربوي، ولا مربٍ مسلم، ومن هذه المؤهلات:
1- تنوع البيئات:
تنقل الشافعي بين بلاد عديدة ساهمت في تشكيل شخصيته، وإكسابه مقومات التجديد والإبداع، فقد ولد الشافعي بغزة، عسقلان- فلسطين- ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز، ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن؛ فلما بلغ عشرًا خافت على نسبه الشريف أن يُنسى ويضيع؛ فحوّلته إلى مكة، وذهب كذلك إلى العراق ومصر.
2- التنوع العلمي:
وظهر هذا التنوع العلمي من خلال:
- الجمع بين العلوم المختلفة: كعلوم العقيدة والتفسير والحديث، والسيرة والتاريخ، وعلم القراءات، والتجويد، والفقه وأصول الفقه والجرح والتعديل، وأصول الكلام، وعدد له البيهقي مائةً ونيفٍ وأربعون كتابًا.
- الأخذ عن العلماء وأئمة المذاهب المختلفة: ومنهم الإمام مالك بن أنس، وعدد العسقلاني تسعة وسبعين (79) من الشيوخ العلماء الذين تتلمذ عليهم الشافعي.
- صفاء المنبع وسلامة الفهم: فقد شهد له العلماء في زمانه وبعد وفاته؛ بسعة العلم ودقة الفهم في مجالات العلم المختلفة.
- القدوة الصالحة: كان الشافعي قدوة صالحة فيما يدعو إليه من مكارم الأخلاق والعبادات والمعاملات، ومن ذلك علاقته بربه وزهده في الدنيا.
- قوة الحجة والمناظرة: لم يعرف في عصر الشافعي من له قدرة الشافعي على المناظرة وإفحام الخصم، في جميع المسائل الاجتهادية مثله.
مقومات الشخصية الإسلامية في الفكر التربوي للإمام الشافعي
أولًا: المقومات العقدية
- اعتبر الشافعي أن القرآن كلام الله، أي صفة من صفاته غير مخلوق، ودعا إلى الإيمان بالأسماء والصفات دون تأويل.
- حارب الشافعي الخرافات والاستعانة بالمنجمين الذين يعطلون عقول الناس وطاقاتهم عن العمل اعتمادًا على تكهنات كاذبة.
- الاعتقاد بأن الإسلام هو الدين الحق، وذلك في قضية الانتماء والولاء والتي تمثل محكًا عمليًا لسلامة العقيدة لدى المسلم.
ثانيًا: المقومات العبادية
يربط الشافعي بين العبادة والمشاعر الداخلية، فيعتبر أن العبادة لا بد أن تتم بين الرجاء والخوف، ونراه ينبه إلى صور من العبادات التي تغذي الروح، وتمدها بالطاقة الحيوية لتمارس الشخصية الإسلامية دورها الإيجابي في الحياة، فنراه يعظم من قيمة الدعاء خاصة إذا صدر من إنسان مظلوم في جوف الليل، والضراعة إلى الله، لعله ينجو من النار في الآخرة وعذاب الله في الدنيا.
وهو يدعو المسلم إلى الوسطية في العلاقة بالدنيا، فرغم دعوته للزهد في الدنيا، بمعنى أن تكون الدنيا في جيبك لا في قلبك، يطالب المسلم- في نفس الوقت- بالاجتهاد في العمل حتى بلوغ الرئاسة، بشرط أن يتزود لها بالعبادة حتى لا تفتنه عن الهدف الأسمى وهو رضوان الله، فيقول: «تعبد قبل أن ترأس، فإنك إن رأست لم تقدر أن تتعبد».
ثالثًا: المقومات الأخلاقية
في تراث الشافعي حديث واسع عن مكارم الأخلاق، خاصة في تراثه الشعري، حيث لم يدع- في الغالب- خلقًا إلا وحث عليه ورغب فيه، ببالغ الكلام وفصيح البيان، واعتبر أن الأخلاق هي طريق الكمال البشري في هذه الدنيا، مما يجعل لصاحبه القبول عند الله وعند الناس، فقال: «لا يكمل الرجل في الدنيا إلا بأربع: بالديانة، والأمانة، والصيانة، والرزانة»، كذلك اعتبر أن الأخلاق طريق النجاح في الحياة، وتحقيق أسمى الأهداف وصولًا إلى الحكم والرئاسة.
وعند تحليل مجموعة الأخلاق التي تناولها أدب الشافعي، نجد أنها تنقسم إلى مجموعتين من الأخلاق، مجموعة ما يمكن أن نسميه بأخلاق التحكم والانضباط، وهي مجموعة الأخلاق التي تمنع صاحبها من الاعتداء على الآخرين، أو الرد على عدوانهم، ومن أمثلتها: الصبر، الصمت، الكتمان، العفة، حفظ الجوارح، الإعراض عن الجاهلين.
أما المجموعة الثانية فهي مجموعة أخلاق العطاء وخدمة الآخرين، ومن أمثلتها: نفع الآخرين، الرفق والتأني، المروءة، السخاء والجود.
رابعا: المقومات الاجتماعية:
في تراث الشافعي التربوي مجموعة من الأقوال والأشعار التي ترسم منهجًا قويمًا في التعامل مع الناس بكل أصنافهم وألوانهم، هذا التعامل الذي يعتبر شديدًا على النفس في كثير من الأحيان، كما قال الشافعي: «سياسة الناس أشد من سياسة الدواب»، نقتطف:
1- آداب الصحبة: قال الشافعي: «ليس سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غم يعدل فراقهم»، ولكن من هو الصديق الذي يختاره المسلم؟ يجيب عن ذلك الشافعي بأن الصديق هو الذي يقف بجانبك في الشدائد، وإلا فهو والعدو سواء.
أما الأصل في الصداقة فهو الابتعاد عن التكلف والتصنع، بل تكون علاقة بسيطة طبيعية، كما قال الشافعي: «ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته»، والصديق هو الذي يقيل عثرة أخيه، ويستر عيبه، كما قال: «من صدق في أخوة أخيه قَبِل عللَه، وسد خلله، وعفا عن زلَلِه».
ومن أجل أن تستمر الصداقة على خير وجه فلا بد من التناصح الحكيم الذي يهدف إلى الارتقاء وليس الانتقاد، لذا لا بد من السرية في النصح؛ كما قال الشافعي: «من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه».
ومن لوازم النصيحة الحكيمة حفظ الأسرار وعدم إفشائها حتى لا تقع في يد الأعداء فيشمتون بصاحبها، مما يوغر صدره على صديقه، وحينها لا يلومن المفشي إلا نفسه إذا ما خسر صديقه؛ كما قال الشافعي: «ما أفشيت إلى أحد سرًا فأفشاه فلمته، لأني كنت أضيق صدرًا منه».
2- إنزال الناس منازلهم: رسم الإمام الشافعي منهجًا وسطيًا متوازنًا في التعامل مع فئات الناس المختلفة، فلكل فئة أسلوب خاص يجب التعامل به، وإلا كان التعامل في غير محله، كما قال الشافعي: «ما أكرمت أحدًا فوق مقداره إلا اتضع من قدري عنده بمقدار ما أكرمته به»، واعتبر أن إعطاء الناس غير قيمتهم نوع من الظلم فقال: «أظلَمُ الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من لا ينفعه، وقبل مدح من لا يعرفه»، بل واعتبر ذلك انحطاطًا في القيم، سيما إذا ترتب عليه التنكر للأصحاب فقال: «السفلة هو من يكون إكرامه لمخالفيه أكثر من إكرامه لأهل مذهبه، وليس ذلك إلا لقلة فضله وعلمه، يريد أن يستكثر بهم».
3- خدمة الآخرين:من المقومات الاجتماعية الهامة، أن يبادر المسلم لنفع الآخرين وتقديم الخدمة لهم؛ بتعليم جاهلهم، ودعوة ضالهم، وإطعام جائعهم، وكفالة يتيمهم، ونصره مظلومهم، وقد ورد في الحديث الشريف: «خير الناس أنفعهم للناس».
4- صفاء القلب:ما دام أن الناس ألوانًا مختلفة، فلا بد أن يكون بينهم من يثير المشكلات، ويسبب الآلام والعداوات، وهنا لا بد من إصلاح ذات البين كما قال الشافعي: «وأمرَ بالإصلاح بينهم، فحق على كل أحد دعاء المؤمنين إذا افترقوا وأرادوا القتال أن لا يقاتلوا حتى يدعوا إلى الصلح»، وكذلك يجب أن يتحلى المسلم بأخلاق العفو وترك الحقد، كذلك على المسلم أن يقبل اعتذار الآخرين، إن جاءوا يطلبون الصفح والعفو.
خامسا: المقومات العلمية
عند التأمل في تراث الشافعي نجد مساحة واسعة للحديث عن المقومات العلمية بجميع جوانبها، فقد تحدث عن العقل كوعاء للعلم، وأفاض في الحديث عن طلب العلم وما يتصل بذلك من حفظه وأدواته وتدوينه وانتقائه والعلوم المطلوبة ودور العلم في الحياة ومكابدة الأعداء، وأخيرًا تناول منهج البحث العلمي بصورة متكاملة ومتناسقة، وهذا بيان لذلك:
1- العقل فضله ودوره:
يرى الإمام الشافعي أن العقل جوهرة عظيمة، ونعمة كبيرة من عند الله، على المسلم أن يحافظ عليها من كل ما يلوثها ويعطل مهمتها، واعتبر أن الدال على العقل هو الكلام الصادر عن صاحبه، لذا لا بد أن يكون كلامًا يشرف العقل وصاحبه، وعبر الشافعي عن ذلك بقوله: «الكلام يقظة العقل، والسكوت نومه، فانظر كيف مراعاتك له في نومه ويقظته».
واعتبر كذلك أن العقل مهما تطاول في علمه يبقى قاصرًا، وأن مهمة العقل الأساسية هي ضبط الشخصية والسلوك، لتترفع عن كل عيب، ولذلك لا بد للعاقل من التغافل والعفو عن هفوات الآخرين، ومن جانب آخر بيّن طرق تنمية العقل وتغذيته من خلال توظيف الجوارح في طلب العلم، وصفاء القلب وتطبيق العلم فقال: «من سمع بأذنه صار حاكيًا، ومن أصغى بقلبه كان واعيًا، ومن وعظ بفعله كان هاديا».
2- فضل العلم:
حث الإمام الشافعي المسلم على طلب العلم ورغب فيه، حيث اعتبر أن طلبه دليل على وجود الخير في صاحبه فقال: «من لا يحب العلم لا خير فيه، ولا يكن بينك وبينه معرفة ولا صداقة»، بل واعتبر أن: «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة»، لأن العلم يمثل سلاحًا في مواجهة الأعداء وإحباط مكرهم، وإيقاع الهزيمة بهم، وهو الأساس الذي تقوم عليه العبادات وشئون الدنيا والآخرة، وأن الجاهل هو إنسان ميت، لا قيمة له بين الأحياء.
.