يعيش المسلمون كل عام في مثل هذه الأيام ذكرى جليلة، حيث يؤدي الحجيج مناسك الركن الخامس من أركان الإسلام، ويحيي باقي المسلمين أيام العشر الأوائل من ذي الحجة.
ويتساءل الكثير عن كيفية تربية الأبناء على هذه المعاني، وغرس القيم والمعاني الإسلامية المرجوة من هذه المناسبة فيهم.
وفي حوار مع الدكتور رجب أبو مليح، الأستاذ المشارك ورئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون، بجامعة السلطان عبد الحليم معظم شاة الإسلامية العالمية بماليزيا، يوضح الأساليب العملية التي يستطيع الآباء والمربون اتباعها مع المُتَربِّين في الأيام العشر وموسم الحج، وكيف يتم تشجيعهم على الطاعة؟ وما السن المناسب لتعليم الأولاد ذلك؟ وغيرها من الأمور الهامة في هذا الحوار.
بدايةً، ينشغل البعض عن هذه الأيام بأعذار شتى، حتى تضيع منه هذه الفرصة العظيمة، فما الذي يميز هذه الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة عن غيرها؟
قبل الدخول في الحوار، نريد أن نهنئ المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها بحلول هذه الأيام المباركات، ونسأل الله أن يعيدها علينا وعلى الأمة الإسلامية بالخير والبركة، والنصر والفرحة والتمكين لدين الله تعالى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أما فضل هذه الأيام فلا يخفى على أحد، وقد ورد في فضله الكثير من الآيات والأحاديث منها:
قول الله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 1- 2]، وقوله عز وجل: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28]، وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «ما العمل في أيام أفضل من هذه العشر، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد».
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ فأجاب: «أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة».
ما الأساليب العملية التي يستطيع الآباء أن ينهجوها مع أبنائهم وخاصة في العشر الأواخر؟
من أهم هذه الطرق العملية، هو تقديم القدوة العملية للأبناء في هذه الأيام، فلا يكتفي الأباء بتقديم الوعظ النظري للأبناء فقط، ولكن لا بد أن يرى الأبناء صورة عملية لآبائهم ومدى حرصهم على الإفادة من هذه الأيام، وقضاء معظم الوقت في الذكر والدعاء، وقراءة القرآن والصيام والقيام والصدقة، وغير ذلك من أبواب الطاعة كلُّ حسب ما تيسر له.
وما السن المناسبة الذي يستطيع فيه الآباء تعليم أبنائهم تمسكهم بأمور دينهم؟
هذا الأمر يختلف من عبادة لأخرى، ومن طفل لآخر، فالنبي الكريم ﷺ قال: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع».
وهذا يختلف عن الصيام الذي ربما يبدأ في سن متأخرة عن الصلاة، على حسب قدرة الأبناء النفسية والجسمية.
المهم أن نختار من العبادات أيسرها على الأبناء، خاصة الأطفال، ومن أيسر العبادات عبادة الذكر، أن يجلس الآباء مع أولادهم ويذكروا الله، أو يصلوا على نبيه ﷺ فترةً زمانيةً محددة، وكذلك الصلوات، والدعاء والتكبير والتهليل.
ما أهمية القدوة الصالحة؟ وأثر المربين في تشكيلها؟
ذكرنا من قبل أن القدوة العملية من أهم الطرق لتربية الأبناء، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2- 3]، وما لم ير الأبناء آباءهم قد اختلطت شعائر الإسلام وتعاليمه بدمائهم ولحومهم، وأصبحوا صورة عملية للإسلام الذي يدعون إليه فلن يستجيبوا لهم، تقول السيدة عائشة- رضي الله عنها- في وصف النبي ﷺ كان خلقه القرآن.
ما القيم التي يجب على الوالدين غرسها في أبنائهم في هذه الأيام؟
من أهم هذه القيم تعظيم شعائر الله، والوقوف عند حدوده، يقول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، فعلى الآباء أن يتدارسوا مع أبنائهم أحكام الحج، وكيف نتخلق بأخلاق حجاج البيت الحرام، وكيف نحسن النية ونكثر الشوق إلى حج بيت الله الحرام حتى نشارك الحجاج الأجر إن كانت الأعذار حبستنا، فالنبي ﷺ قال في شأن الصحابة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «رجعنا من غزوة تبوك مع النبي ﷺ فقال: «إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حبسهم العذر».
لو أردنا أن نلخص بعض الأعمال الضرورية التي يتوجب على المربين والآباء أن يعلموها لأبنائهم في هذه الأيام، فبماذا تنصحهم؟
الأعمال التي سنها لنا النبي ﷺ في هذه الأيام كثيرة، منها:
- قراءة القرآن: وفضل قراءة القرآن لا يجهله أحد، وخاصة في هذه الأيام التي يتضاعف فيها الأجر والثواب.
- الذكر والدعاء: وخاصة الأذكار المأثورة، وجوامع الكلم التي تميز بها نبينا ﷺ، ومنها قوله: «اللهمَّ إني أسألُك من الخيرِ كلِّه، عاجلهِ وآجلهِ، ما علمتُ منه وما لم أعلمْ، وأعوذُ بك من الشرِّ كلِّهِ، عاجلهِ وآجلهِ، ما علمتُ منه وما لم أعلمْ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: «من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك».
- صيام يوم عرفه: ويتأكد صوم يوم عرفة لغير الحاج لما ثبت عنه ﷺ أنه قال عن صوم عرفة: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» (رواه مسلم).
- الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس: أخرج الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة».
ما الصفات التي يجب أن يتحلى بها المربون في تربية أبنائهم؟
من أهم هذه الصفات:
- إخلاص النية لله في التربية، وأن يفعل مثل ما فعلت مريم الصديقة- رضي الله عنها- حيث نذرت ما في بطنها لله رب العالمين؛ فتقبله الله منها، واصطفاه وجعله من المرسلين.
- تقديم القدوة العملية الصالحة للأبناء، فعمل رجلٍ في ألفِ رجلٍ خيرٌ من قول ألفِ رجلٍ في رجل.
- تحري الحلال والبعد عن الشبهات، فكل دمٍ نبت من السحت؛ فالنار أولى به، كما أخبرنا المعصوم ﷺ.
- الأخذ بالأسباب والصبر على الأبناء والدعاء لهم، ومساعدتهم في الصلاة والطاعات يقول الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132].
فيما يتعلق بشعيرة الحج، ما الوسائل والأساليب التي يجب أن يتخذها المربي لجعل الأطفال يعيشون أجواءها مثل الحجاج؟
على المربي أن يعيش هذه الشعائر بقلبة وعقله وجوارحه، فيمكنه الاستفادة بالأفلام العملية المصورة، والبرامج العلمية وخاصة الدراما التي من خلالها يتعلم الأطفال شعائر الحج بطريقة مبسطة، ومحاكاة هذه الشعائر وتطبيقها تطبيقًا عمليًا.
كذلك يمكنه ذكر أجر وثواب كل نسك من هذه المناسك، كفضل الطواف والسعي ورمي الجمرات والوقوف بعرفة وغيرها، وتشويق الأبناء لأداء هذه الفريضة الغالية.
ما الدروس العملية التي يتعلمها الأبناء من الأضحية؟ وما صِلتها بالحج؟
تأتي الأضحية لتعلمنا مجموعة من الدروس العملية والتربوية للأسرة المسلمة، فليذبح كل منا شهواته ورغباته المحرمة قبل أن يذبح ذبيحته، ومن هذه الدروس:
- بر الوالدين: فإسماعيل- عليه السلام- يسمع كلام أبيه ويستسلم للذبح، وكان من الممكن أن يفر هاربًا، أو يعترض، أو يتهم أباه بالجنون، فكيف لوالد أن يذبح ولده بعد ما بلغ معه السعي؟!
- الاستجابة لأمر الله من الوالد: فقد امتثل لأمر الله تعالى ولم يتردد، على الرغم من صعوبة الأمر، فهو يذبح ولده الذي رُزق به بعد شدة شوق، وبعدما بلغ معه السعي، أي أنه يعينه على طلب العيش، وهو ابنٌ بارٌ وليس عاقًا، ولكنه يثق في الله أكثر من ثقته بنفسه.
- ويأتي دور الأم التي تُغلب العقل على عاطفتها، ولا تعترض على أمر الله، بل ترمي إبليس اللعين بالحصى كلما حاول أن يوسوس لها.
ومناسك الحج كلها أو جلها مرتبطة بهذه الأسرة الكريمة، أسرة أبي الأنبياء إبراهيم- عليه السلام-، فالسعي يذكرنا بأم إسماعيل هاجر عليها السلام، والطواف يذكرنا بإبراهيم الذي رفع القواعد بأمر من الله هو وإسماعيل، ورمي الجمرات يذكرنا بأم إسماعيل مرة أخرى، والذبح بالأسرة كاملة، فقد كتب الله الذكر والخلود لهذه الأسرة الطيبة جزاء ما قدمت في سبيل الله تعالى.
.