تعد فئة المتعلمين عصب المجتمع ومكونه الـرئيس؛ ومـن بـين الأهداف التي تسعى التربية الإسلامية لتحقيقها في الأوساط التعليمية تكوينُ شخصية اجتماعية للمتعلم، تتفاعل مع محيطها بصورة معتدلة، وذلك عن طريـق منهجهـا التربـوي الوسطي، الذي يحمل في طياته كل المقومات اللازمة لبلوغ هذا الهدف.
وهدفت الدراسة، التى أعدها الدكتور عدنان مصطفي خطاطبة، إلى الإجابة عن السؤال الآتي: ما مقومـات التفاعـل المجتمعي المتزن لشخصية المتعلم من منظور تربوي إسلامي؟ وكان من أهم نتائج الدراسة: أن العلاقاتِ الإنسانية الإيجابية تسود بين جميع مكونات المؤسسة التعليمية، حينما تجعل تلك المؤسسة من بيئتها حاضنة تربوية سليمة، مؤسَّسة علـى المـنهج التربـوي الإسلامي الوسطي، وأن من أهم مهارات وقيم التواصل الاجتماعي التي يلزم تفعيلها في حياة المتعلم: العمل بنظام المؤسسة التعليمية، والنظافـة والالتـزام بـالمظهر الإسلامي، واستثمار الوقت، والعمل التطوعي، والمشاركة في المحاضرات، وإلقـاء تحية الإسلام، واستعمال الكلمة الطيبة، والحوار، وتبادل الهدايا، والتزاور، والبحث والقراءة الجماعية.
وسطية المنهج التربوي للمتعلم
المنهج التربوي في الإسلام يعرف بأنه: «نظام الحقائق والمعـايير والقـيم الإلهيـة الثابتة، والمعارف والخبرات والمهارات الإنسانية المتغيرة التي تقدمها مؤسسة تربوية إسلامية إلى المتعلمين فيها، بقصد إيصالهم إلى درجات الكمال التي هيأهم ﷲ لها، وبذلك يـستطيعون القيام بحق الخلافة في الأرض، عن طريق الإسهام بإيجابية وفاعلية في عمارتها، وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج ﷲ».
ويتسع مفهوم المنهج الوسطي التربوي في الإسلام ليتجاوز حدود المقررات الدراسية التي يتلقاها الطالب– الجامعي- على مقاعد الدراسة، فيشمل بالنسبة للمتعلم كلّ الخبرات التعليمية والمؤثرات التربوية التي تعمل على إحداث التغيير الإيجابي في شخصيته بما يتفق مع منهج ﷲ تعالى، وهذا الاتساع في المفهوم يتفق مع النظرة الحديثة لمفهوم المنهاج التربوي، والذي يعني: «جميع النشاطات التي يقوم الطلبة بها، أو جميع الخبرات التي يمرون فيها تحت إشـراف المدرسة وبتوجيه منها، إضافة إلى الأهداف والمحتوى ووسائل التقـويم المختلفـة».
وعلى الرغم من اتساع المفهوم الحديث للمنهج وشموله، إلا أنه يركز كل اهتمامه على ربط الإنسان بالحياة الدنيا والاستمتاع بها دون النظر إلى خالق الكون، على حين أن مهمـة المنهج في التربية الإسلامية الأولى والأخيرة هي أن توصل الإنسان بالله، ليصلح حاله علـى الأرض وتنتظم حياته فيها.
البعد الاجتماعي في المنهج التربوي
يمكن تجلية البعد الاجتماعي في المنهج التربوي الوسطي في الإسلام من خلال نظـرتين أصليتين، الأولى: تتصل بالمنظور الإسلامي للطبيعة الإنسانية، والثانية: تتصل بطبيعة النظـام الإسلامي الرباني، وبالجمع بين هاتين النظرتين– وهما متداخلتان إلى حد كبير- يتضح البعد الاجتماعي الأصيل في المنهج التربوي الوسطي الذي يصوغ حياة المسلم عامـة، والمـتعلم خاصة، بطريقة تكفل له التوازن الاجتماعي، والتفاعل المعتدل مع الآخر.
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه منذ أن خلق ﷲ تعالى من النفس الإنسانية زوجهـا، وكيانـه الإنساني يجمع خطوطًا مزدوجة، ومنها: هذان الخطان المرتبطان المتناقضان: إحساس الإنسان بفرديته، وإحساسه بالميل إلى الاجتماع بالآخرين والحياة معهم كواحد منهم. ولقد اضـطربت كثير من النظم وكثير من الفلسفات بين هذه النزعة وتلك، بعضها يوسع دائرة الفرديـة حتـى تصل إلى الأنانية المرذولة، وتفكيك روابط المجتمع، وتشتيت طاقاته، وبعضها يوسع الـدائرة الجماعية حتى تقضي على كيان الفرد وتلغي وجوده.
والمنهج التربـوي الوسطي الإسلامي يعالج كلتا النزعتين؛ فيغذيهما معًا، ويجعلهما متساندتين بدلًا من أن تكونا متنازعتين. إنـه يحتـاج إليهمـا معًـا لأن الفطـرة لا تـستقيم بإحـداهما دون الأخـرى، ويسجد ذلك حديث النبي ﷺ: «مثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتعاطفِهم وتراحُمِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ، إذا اشتَكى منْهُ عضوٌ؛ تداعى لَهُ سائرُ الأعضاءِ بالحمَّى والسَّهَرِ».
مراعاة الجانب النفسي لشخصية لمتعلم
1- مراعاة المنظور النفسي الإسلامي لشخصية المتعلم
يتلخص المنظور النفسي الإسلامي للشخصية الإنسانية، ومنها شخصية المتعلم، في النظر إليها على أنها: وِحدة متكاملة، قائمة على تداخل وامتزاج وتشابك دقيق الحبكة، شديد التعقيد بين المادة والروح، وليس في الإسلام انفصال بين روح وجسد، أو انشقاق بين عقل ومادة، ولـيس الإنسان جسمًا فقط كما رأى أصحاب الاتجاه المادي، وليست الحياة الشعورية حركات بدنيـة وتغيرات فسيولوجية في المخ، وإنما الإنسان جسم وروح، والروح ليست من طبيعة مادية كما أنها ليست مجرد أداء الجسم لوظائفه، ولا توجد الروح والمادة فـي الإنـسان منفـصلتين أو مستقلتين إحداهما عن الأخرى، وإنما هما ممتزجتان معًا في وحدة متكاملة متناسقة، وتتكـون من هذا المزيج المتكامل والمتناسق ذات الإنسان وشخصيته.
فالشخصية- في المنظور النفسي الإسلامي- وحدة متكاملة، ناتجة عن تفاعل شديد التعقيد بين مكوني الجسد والروح، وهي كيان مستقل يميز صاحبه عن غيره من البشر من حيث الفكر (المعتقد) والانفعـالات (العواطـف والمشاعر والميول والاتجاهات) والسلوك، وتشمل المجموع الكلي المتكامل للجوانب الجسمية والعقلية والانفعالية والروحية للإنسان، في تفاعله المعقد مع البيئة الطبيعية والاجتماعيـة منـذ ولادته وحتى مماته.
والشخصية الإنسانية في المنظور النفسي الإسلامي لها دوافعها التي تدفعها لسلوك معين، وهذه الدوافع منها الفسيولوجية، ومنها الروحية، والنفسية، والاجتماعية، ومنهـا اللاشـعورية. وهناك صراع بين الدوافع لا بد معه من أن تستجيب النفس للغالب منها، كما أن هذه الشخصية تتطور وتمر بمراحل نمو، هذا التطور له عوامله المؤثرة فيـه، وهـي عوامل الوراثة (عوامل النضج)، وعوامل البيئة (عوامل التعلم والخبرة)، كما أن لكل مرحلة من مراحل نمو الشخصية وتطورها مطالبها التربوية.
ب- التربية النفسية المتوازنة لشخصية المتعلم
إن المتعلم في مراحله الدراسية المختلفة يخضع لعمليات تربوية تطبَّق عليه من القـائمين على التعليم، تبعًا للمنهج التربوي المعتمد من قبل مؤسسات التعليم، وما لم يتبن المنهج التربوي في أي مؤسسة تعليمية خط التربية الوسطية الإسلامية، فلن يفلح في تقديم مخرجات تعليميـة معتدلة، وذلك لما تحظى به هذه التربية الوسطية ونهجها المعتدل من خـصائص ومقومـات وعمليات، تمكنها من إحداث التوازن النفسي والسلوكي في شخصية المتعلم وإبعاده عن مسالك التهور والتطرف، لامتلاكها رؤية قرآنية، ونبوية صحيحة، حول الطبيعة الإنسانية المكونة للمتعلم، وهو أمر يؤهلها لبناء شخصية هذا الطالب بناءً نفسيًا معتدلًا، ومعالجته معالجة شاملة لا تترك منه شيئًا، ولا تغفل عن شيء: جسمه، وعقله، وروحه، وحياته المادية والمعنوية، وكـل نشاطه على الأرض، وتتعامل معه كوحدة واحدة متفاعلة الأجـزاء، تتكامل قواهـا النفـسية وتتسق معاً، فلا تقوى إحداها بحيث تضر بالأخرى، ولا تبطل إحداها فعل الأخرى، ولا تعمل أي منها بمعزل عن الأخرى، فمع أنها قوى متباينة في ماهيتها إلا أن كلًا منها يؤدي وظيفتـه في نطاق التكامل الروحي والجسدي معًا.
جـ- أهمية الصحة النفسية لشخصية المتعلم
هناك علاقة قوية بين الجانب النفسي للمتعلم وسلوكه، فكلما اتصف الوضع النفسي لـدى المتعلم بالإيجابية أو بما يعرف بالصحة النفسية، كان سلوكه أكثر اعتدالًا وبعدًا عن التطرف، وبالمقابل كلما نكست صحته النفسية؛ كلما صار أكثر عرضة للسلوك المتطرف، وأقوى قابلية على تلبية مطالب المتطرفين.
وبما أنه يطرأ كثير من التغيرات والتطورات على الخصائص والمميزات العامة للنمو الجسمي والانفعالي في مرحلة الشباب– ومنها المرحلة الجامعية- وتتأثر بكثير من العوامـل الوراثية والبيئية = فإنه لا بد من إعطاء هذه المرحلة العناية التربوية والنفسية القوية، التي تتمكن من تلبية الحاجات الفسيولوجية، والحاجـات النفـسية، والحاجـات الاجتماعية، لدى الشاب الجامعي، وضبط انفعالاته وتوجيه دوافعـه، وصولًا به إلى حالة من التمتع اللائق لديه بصحة نفسية تمكنه من ضـبط سـلوكه، وتوجيـه انفعالاته في جو من الاعتدال والوسطية.
والحقيقة، أن كل ما في إسلامنا الحنيف يبعث على التمتع بالفطرة السوية، أو بلغة علم النفس الحديث: حسن التكيف والتوافق، والتمتع بالصحة النفسية الجيـدة. والهدي القرآني، والإيمان به وتطبيقه في حياة المتعلم يساعده على التمتـع بالـصحة النفسية الجيدة، وبالصحة الجسمية أيضًا، ويدعوه إلى الشعور بالأمن والأمـان، والاطمئنـان والهدوء، والسكينة والراحة، والمودة والشفقة، والشعور بالرضا والتوكل على ﷲ، والثقة والأمل والرجاء والتفاؤل، وكلها من دواعي التمتع بالصحة النفسية والعقلية، والبعد عن تيارات العنف والجريمة، والتطرف والتعصب والانحراف عن جادة الصواب.
د- تنمية مهارات التواصل الاجتماعي لدى المتعلم
من المقومات الهامة لتكوين تفاعل متزن للشخصية = تعليمُها مهارات التواصل، مثل: مهارة التعاون، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، والإحـسان، والإصلاح، والإيثار، والتسامح، والعدل، والرحمة، وحفظ اللسان، والوفاء بالعهد، وغيرها من القيم الاجتماعية التي تبني جسور التواصل الاجتماعي بين المتعلم وغيره من فئات المجتمـع عامة، ومجتمعه التعلمي خاصة، من موظفين ومتعلمين وأساتذة.
ولعل طبيعة العلاقة بين المتعلم وأستاذه من بين العوامل ذات التأثير القوي فـي تنميـة مهارات التواصل الاجتماعي لدى الطالب وتوجهاته؛ لما لها من انعكاسات نفسية عليه، قد تكون إيجابية إذا ما كانت هذه العلاقة في الاتجاه الصحيح، وقد تكون سلبية إذا ما كانت في غيـر مسارها اللائق، وفي كلتا الحالتين ستترك أثرًا في نفسية الطالب وفي تشكيل مهارات التواصل الاجتماعي لديه.
وحتى يقوم المدرس بوضع علاقته بطالبه في مسار إيجابي؛ لا بد من تبنيه لقيم ومبـادئ المنهج التربوي الوسطي في الإسلام، ووعيه بدوره الأساسي تجاه طالبه، والذي يتجاوز مهمة حشو ذهنه بالمعلومات وإلقاء المادة العلمية عليه في قاعة المحاضرات ضمن وقـت زمنـي محدد، إلى قيامه بدوره ومقصودة الأكبر، وهو تنمية شخصية الطالب بكل جوانبهـا: العقليـة، والعاطفية، والثقافية، والاجتماعية، وتشكيل مشاعره ورؤيته للحياة، وزرع القيم التي تحث على التواصل، والاحترام، والحـب، وتنمـي روح الأخوة، وصدق اللهجة، وتبادل العواطف والحوار، في إطار العدل والرحمة والثقة، وإذا بالطالب يجد نفسه أمام نوع من التفاعل المجتمعي الإيجابي في حياته الجامعيـة كلهـا وفـي حياتـه الاجتماعية والوظيفية الخاصة به، مما يبعده عن الأجواء الملبدة التي قد تهيـؤه ليـدخل فـي مسارب التطرف والانعزالية.
إيجاد البيئة التعليمية المتزنة
من أبرز سمات التربية الإسلامية ومنهجها التربوي سمة التوازن، التي تعني اعتدال موقفها في التعامل مع الإنسان، بين الخصوصية الذاتيـة والاجتماعيـة، وبين البدن والروح، وتحقيق الذات وهوية الأمة، والاستقلالية والانـدماج.
وبما أن المنهج التربوي يرتبط دائما بعقيدة الأمة وبتراثها وبثقافتها وبفلسفتها في الحيـاة، فإنه يكون من غير المقبول أن يتم نقل تلك الفلسفات التربوية الغربية ومناهجها إلى مجتمعاتنا الإسلامية، كما حصل ذلك بشكل قوي في فترات الاستعمار الغربي للعالم الإسـلامي، وفي مراحل الانبهار بالحضارة الغربية من مراحل الفكـر الإسـلامي فـي مطلـع القـرن العشرين، وما زال يحدث بوتيرة مختلفة في عالمنا الإسلامي، ولو نظرنا في الخريطة الثقافية والتربوية للكرة الأرضية، لوجدنا أن كل أمة تتولى تربية أبنائها وإعـدادهمِ عِلميًا داخل إطارها الثقافي والاجتماعي، حتى إذا نضجوا واشتدت أعوادهم، لم تخشَ عليهم أن يتفاعلوا مع الآخرين في كل مكان على الأرض. ولكن العالم الثالث– ومنه الأقطار العربيـة والإسلامية- هو وحده الذي يقذف بأبنائه ويسمح بنهبهم تحت ستار المـساعدات الثقافيـة، ليجري تشكيل شخصياتهم في بيئات بعيدة، وليعانوا فيما بعد من الاغتراب الثقافي والاجتماعي والتربوي. ويرى (مارتن كارنوي)، صاحب بحث (التربية كأداة للاستعمار الثقافي) في تحليله للآثار المترتبة على الاستيراد التربوي عن الخارج: أن نظم التربية الغربية الرسـمية التـي جاءت إلى معظم أقطار العالم الثالث- ومنها الأقطار العربية الإسلامية– كجزء من السيطرة الاستعمارية = كانت منسجمة مع أهداف الاستعمار الاقتصادي، والهيمنة السياسية.
وهناك فرق بين نقل فلسفة تعليم النظم الغربية ومناهجها التربوية، وبين نقل تكنولوجيا التعليم والمعارف العلمية العالمية؛ لأن فلسفة التعليم ومناهجه تنطوي على تصورات تلك المجتمعات للوجود وللحياة وللإنـسان وللقيم، وهذه من خصوصيات الأمة المسلمة ولها فيها تصورها المنبثق من الوحي، وهنا تكمن الخطورة، لا في المعارف المجردة والتكنولوجيا المحايدة، فحينما نستورد المنـاهج والبـرامج والسياسات التعليمية والتربوية التي أعدت لغير مجتمعاتنا، وضمن مرجعية غير مرجعيتنـا، تزداد المشكلة تأزمًا، ويزداد الشرخ بين أفراد الأمة، ويكبر التـصدع والانـشطار الثقـافي، وتمزيق رقعة التفكير، واضطراب رؤية الحياة وكيفية التعامل معها، وبدل أن يكـون نظـام التعليم وسياسته سبيلًا للترقي والتفكير والنمو، يصبح محلًا للحيرة والارتباك والتلقين والعطالة وبعثرة المواهب.
وبهذا التبني لمعطيات المنهج التربوي الوسطي المستمدة من شريعة ﷲ تبارك وتعـالى، والتطبيق المعتدل لمضامينه في المرحلة المدرسية والجامعية من حياة طلابنـا، نكـون قـد أسلمناهم إلى أيدٍ أمينة، ترعاهم وتنصحهم وتحوطهم، وتعطيهم، وتبنيهم وترتقي بهم، في إطار من الوسطية والاعتدال، بعيدًا عن نزعة الانطوائية أو مشارب التجمعات المتطرفة، لتُخرج لنا طالبًا يتمتع بالإيمان الصادق، وبالصحة النفسية، وبالسلوك المتزن وبالعطاء الممتد، كل ذلك في إطار من التفاعل الاجتماعي المرن، والتواصل الإنساني المعتدل.
.