تنطلق فلسفة التربية في القرآن الكريم من الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيره وشره، والالتزام بالعمل الصالح والتعاون عليه، والتعرف على الحق والتواصي به. وبناء الإنسان بناءً متكاملًا يقوم على تأديب النفس، وتصفية الروح وتثقيف العقل، وتقوية الجسد حتى يصل إلى الكمال الإنساني المتسامي في إطار من القيم والأخلاق التي ينشأ عليها ويُعَوّد على التعامل بها.
وفى دراسة بعنوان: «فلسفة التربية في القرآن الكريم»، للدكتور علي محمد علوان، يرى أن فلسفة التربية في القرآن تمتاز بالفهم في الشمول والتوحيد، وإلى مراقبة السلوك ومحاسبة النفس، فهي توحد في ذات الإنسان بين جسده وروحه وما يربطهما من قيم وأخلاق، وبين عقله وعاطفته وما يحكمهما من علم وحكمة بين عقيدته وإيمانه، وما يصدقهما من عمله لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
فلسفة التربية في القرآن الكريم
التربية لغة هي: النشأة.
وتأتي كذلك بمعنى الزيادة والنماء.
أما اصطلاحًا فيقول البيضاوي عند تفسيره لسورة الفاتحة: أصل الرَّبِّ بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا.
أما الراغب الأصفهاني فعنده: الرب في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام.
ويقول ابن مسكويه: التربية هي أدب الشريعة والأخذ بوظائفها وشرائعها حتى يتعودها الطفل.
كما يقول الدكتور عبد الرحمن النحلاوي: بالرجوع إلى الأصول اللغوية والاصطلاحية للتربية يمكننا أن نستخلص عدة معان تتبلور في الآتي:
- المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.
- تنمية مواهبه واستعداداته كلها.
- توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب نحو صلاحها وكمالها اللائق بها.
- التدرج في هذه العملية وهو ما يشير إليه الإمام البيضاوي بقوله «شيئًا فشئيًا» والراغب يقوله «حالًا فحالًا».
- وعليه فإن المربي الحق هو الله سبحانه وتعالى، خالق الفطرة وواهب المواهب، وهو الذي سن سننًا لنموها وتدرجها وتفاعلها، كما أنه شرع شرعًا لتحقيق كمالها وصلاحها.
- ويمكننا أن نقول: إن التربية في مفهومها الاصطلاحي يخرج عادة عن المعنى اللغوي ولا يبعد عنه، بل عادة يزيد عليه معنى وظيفيًا. فإذا كان المعنى اللغوي لكلمة «Education» لا يزيد عن الزيادة والتنشئة والنمو، فإن المعنى الاصطلاحي يستخدم التربية وينظر إليها باعتبارها تنمية وزيادة الوظائف الجسمية والخلقية والعقيدية والجمالية والترويجية لدى الكائن البشري لكي تبلغ كمالها ورقيها وتمامها، ولا يتم ذلك إلا عن طريق التثقيف والتدريب والتهذيب.
وتشير أكثر استخدامات مفهوم أو مصطلح التربية إلى التنشئة الاجتماعية والتدريب الفكري والأخلاقي عن طريق التلقين المنظم سواء تم هذا في المدارس أو في منظمات أو مؤسسات تتولى عملية التربية.
إن التربية في حقيقة أمرها تشمل جوانب نمو الإنسان، إنها تنظيم للقوى والقدرات البشرية، وهي تعني التوجيه الشامل والكامل للحياة كلها والتشكيل لطريقة الحياة الاجتماعية القائمة بالفعل، وبهذا تغدو عملية تعهد الفرد المسلم بالتكوين المنتظم بما يرقيه في مراتب التدين، تصورًا وممارسة وهو ما تدعو إليه التربية في القرآن.
فلسفة التربية في القرآن
إذا كان القرآن الكريم يمثل المصدر الأساسي لفلسفة التربية في الإسلام، فإنه يتضمن أهم المنطلقات لفلسفة التربية الإسلامية وهي:
أولًا: التأكيد على وجوب وجود الخالق بأسلوب منطقي، وأزلية وجود الخالق سبحانه وتعالى وصفاته وأسمائه وأبديتها وطلاقة إرادته وقدرته وعلمه وصفاته الأخرى بحيث لا تحدها حدود.
ثانيًا: توضيح كيفية خلق الكون وموجوداته وعلة هذا الخلق وسنن ضبطه وقوانينه، وتسخيره لصالح الإنسان.
ثالثًا: بيان الأمور الغيبية التي تتخطى حدود الحس البشري من الخلق غير البشري كالملائكة، والجن وصفاتهم، والقضاء والقدر واليوم الآخر وغيرها.
رابعًا: تحديد كيفية خلق الإنسان ونشأته وما أودع فيه من إمكانيات وقدرات وملكات ومواهب وغيرها؛ من استخلاف الله تعالى له في الأرض، وأهم الصفات المميزة له ومجموعة القدرات التي أهلته لهذا الاستخلاف.
خامسًا: توضيح كيفية تقسيم الحياة إلى حياتين: دنيا وأخرى، فالأولى عمل، والأخرى حساب وجزاء، وكيفية الانتقال من الأولى إلى الأخرى والبعث والنشور والحساب والجنة.
سادسًا: بيان المثل الأعلى لقوامة الحياة الدنيا، وفق مجموعة الأوامر الربانية التي تحقق خيرية الإنسان والحياة ومجموعة النواهي التي تحذر من المعتقدات والأفكار والأقوال والأعمال الضالة.
سابعًا: ضرب الأمثلة من حياة المجتمعات الماضية والأمم السابقة الموحدة منها والمشركة، ومآل كل فئة منها.
ثامنًا: بيان أهمية العلم والمعرفة وقيمتها للإنسان، وأهمية القيم الأخلاقية في قوامة الحياة.
العلاقة بين التربية والتزكية في القرآن
التزكية لغة: قال ابن منظور: يقال يزكى من يشاء، أي يصلح، وتزكيهم بها: أي تطهرهم، والزكاة: الطهارة والنماء والبركة، والتزكية الإصلاح والتطهير.
أما التزكية اصطلاحًا: فهي عند الطبري تعني: تطهير الناس من الشرك، وعبادة الأوثان، وتنميتهم وتكثيرهم بطاعة الله تعالى. وعند ابن تيمية هي: تربية القلب وتنميته بالكمال والصلاح، وذلك بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وتزكية النفس بالصالحات وترك السيئات.
وبالنظر إلى التوجيهات التي رسمت الإطار العام لمنهاج التزكية في القرآن الكريم، والحديث الشريف، تشير إلى أن التزكية: «بأنها عملية تطهير وتنمية شاملين، هدفها استبعاد العناصر الموهنة لإنسانية الإنسان وما ينتج عن هذا الوهن من فساد، وتخلف، وخسران، وتنمية كاملة للعناصر المحققة لإنسانية الإنسان وما ينتج عن هذه التنمية من صلاح، وتقدم، وفلاح في حياة الأفراد والجماعات». وبالنظر إلى مفهوم التزكية لغة واصطلاحًا نجده يتطابق تمامًا مع مفهوم التربية في اللغة والاصطلاح، فكلاهما يدل على معنى النماء، والإصلاح والتطهير، وكل من التربية والتزكية عملية هادفة لها أغراضها وأهدافها وغاياتها، ويقتضي كلاهما خططًا متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية والتزكوية والتعليمية وفق ترتيب منظم صاعد ينتقل مع الإنسان من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة.
والتربية والتزكية يستمدان جذورهما من القرآن الكريم، فسيدنا إبراهيم عندما رفع القواعد من البيت هو وابنه إسماعيل توجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء لذريته التي أسكنها في جوار البيت الحرام، بأن يرسل فيهم رسولًا من أنفسهم ليزكيهم ويربيهم، قال تعالى: {وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ «127» رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «128» رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.
وفي حين تقدير اللفظ «يزكيهم» في جميع الآيات نجد أن المقصود بالتزكية التطهير، والإصلاح وانتزاع ما هو غير مرغوب فيه، وتأكيد ما هو مرغوب فيه، فهي إذن تعديل للسلوك وتهذيب له بلغة التربية الحديثة.
أنواع التزكية والتربية في القرآن
عندما يتحدث القرآن الكريم عن التزكية يتضمن الحديث تزكية النفس، وتزكية العقل، وتزكية البدن:
أ- ففي مجال تزكية النفس: نجد أن المنهاج النظري يتضمن تعريفًا بالمهددات والأخطار التي تواجه النفس البشرية مثل الشيطان، والدنيا، والهوى، والطاغوت، والتي من نتائجها الغرور والحسد والبغضاء والبخل والفساد في الأرض، وهذه بدورها تؤدي إلى تعطيل الفهم، وتعميه البصر، واضطراب السلوك الأخلاقي، والإخلال بالعبودية. قال تعالى: {ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ والإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ}.
ففي الممارسات العلمية يحدد القرآن الكريم مجموعة من الممارسات التي تستهدف تزكية النفس وتربيها؛ لرفعها إلى مقام أحسن، وتقويم وذلك وفق أسلوب الرهبة والرغبة اللذين يدفعان النفس لتطبيق التعاليم القرآنية، ففي الفلسفات المادية تتمثل أساليب الرغبة والرهبة في حب تملك المنفعة الوقتية والشهوة اللحظية والتنافس وحب الدنيا، أما في المنهاج القرآني فتتوفر مقومات التزكية في الحض على ذكر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلًا}. وودرت آيات كثيرة تمدح الذاكرين والصابرين والقانتين والمنفقين، وأيضًا تتأكد مقومات التزكية في الصلاة على النبي ﷺ قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وأيضًا من عوامل التزكية المحافظة على الصلاة في أكثر من آية يقول تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} وقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطَى وقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. وأيضًا نوافل العبادات والمشاركة في الممارسات الجماعية في جميع الشعائر. وفي كل ذلك يحمل القرآن الفرد على الابتعاد عن المعاصي ومصادر الانحرافات الفكرية والسلوكية. وعلى الفرد أن يجاهد نفسه ليقتل سيء الأعمال ويحمل جميل الخصال والأفعال قال تعالى: {والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}. وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا}.
ب- وفي مجال تزكية العقل: فقد حث القرآن الكريم العقل على التدبر في الكون والنظر في آيات الله في الأنفس والآفاق وأمر الإنسان بالتفكير حين قال: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}. وأنكر القرآن على الذين لا يستعملون عقولهم في الفهم والتفكير السليم ووصفهم بالصم والبكم والعمى حين قال يصف المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} لأنهم لم يفكروا فيما نقلته إليهم حواسهم من المرئيات والمسموعات، وأبوا أن ينطق بالحق الذي يمليه عليهم لو سمحوا له بالتفكير والتدبر؛ فهم عُميٌ عن إبصار الحق، أو ما يؤدي إليه من آيات الله في الأنفس والأفاق، صُم عن سماع الحجج، والتفكير في مصيرهم.
وتتمثل عملية التزكية هذه في عدة أمور منها:
- تزكية العقل من العقائد والأفكار المنحرفة والأوهام البالية والمعتقدات الفاسدة التي لا دليل ها، وتزويده بالمعتقدات الصحيحة عن نشأة الخلق والإنسان والكون: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
- ومنها تزكية أساليب التفكير؛ فيدرب القرآن الكريم المتعلم على التجديد بدل التقليد ولا فرق أن يدور التقليد حول نماذج قديمة وأخرى جديدة– فكلا النوعين تعطيل للعقل وإن اختلفت ميادينها وأدواتها. ومن أجل هذا نجد أن القرآن الكريم ينعى على المقلدين الذين يقولون: {إنَا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}، ويستنكر جمودهم وهو يهتف بهم إلى التحرر من أوهام التقليد: {وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ}.
- وأيضًا يُدَرب المتعلم على التفكير العلمي بدل الظن والهوى، وهي تربية علمية ترتقي بالعقل؛ ففي القرآن الكريم آيات تتضمن منهجًا علميًا للنظر العقلي وهي تنعى على الذين يتبعون الظن: {إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى}، {إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا}. ويندد القرآن الكريم بمن يتبع الهوى دون الحقيقة البينية قال تعالى: {ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}. ونهى عن تبديد الطاقات السمعية والبصرية والعقلية في أشياء لا أساس لها: {ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا}، كما وجه العقل إلى عدم التسرع في إصدار الأحكام قبل الإثبات ووجود البينات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
ويقول عبد الرحمن النحلاوي: وهكذا نلاحظ أن التربية القرآنية في سبيل تحقيق هدفها الأسمى وهو الإيمان بالله والخضوع له وتذكر عظمته كلما نظر الإنسان إلى الكون، أو إلى نفسه، تدعو العقل إلى ممارسة حقه في البرهان والاقتناع، والتأمل والملاحظة واستخدام الحجج المنطقية، كما تدعوه إلى استخدام ما سخر الله له في الكون، ودراسة القوى الكونية بقصد معرفة سننها للاستفادة منها.
ج- وأما في مجال تزكية الجسم: يهتم القرآن الكريم بجسم الإنسان الذي كرمه ربه وفضله، قال تعالى: {ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. ويحوطه بسياج من العناية والرعاية بغية الحفاظ عليها، ومن أجل ذلك اشتمل على المناهج التي تتفق مع فطرته والوسائل المشروعة التي تساعد على تقويته وتدريبه حتى يتمكن من القيام برسالته التي أناطه الله بها من القيام بتعمير الكون، وأداء الفرائض والتكاليف. وفي هذا يقول الدكتور عبد الرحمن عميرة: «والقارئ لكتاب الله تعالى يرى أن منهج القرآن عمل على إيجاد التوازن والتعادل في داخل الفرد، التوازن بين الدوافع والضوابط، والتعادل بين متطلباته المادية وأشواقه الروحية؛ ومنهج القرآن بهذا التصور يختلف عن المذاهب الهندوسية والبوذية وما نحا نحوهما من الديانات والفلسفات الأخرى، التي تعمل على كبت الجسد لتعلي من شأن الروح، فوصلت بهذا إلى السلبية المريضة، في التفكير والتدبير، وإلى الهزل والضعف في الجسد، ويختلف منهاج القرآن الكريم أيضًا عن المادية العلمية والشيوعية الإلحادية التي عملت على كبت الروح لتعلي من الإنتاج المادي، وتفرق أصحابها عن المتاع الجسدي فوصلت بذلك إلى الحيوانية البغيضة، تلك الحياة التي لا تليق بالآدمي خليفة الله في الأرض».
إن الإسلام يختلف في تصوره للكون عن النظرة المادية التي تقول: «إن مملكتي ليست إلا هذا العالم المحدود»، ويختلف عن النظرة المسيحية التي كانت تقول: «ليس هذا العالم مملكتي». أما الإسلام فنظرته تتمثل في قوله تعالى: {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.
ومن منهج القرآن في تزكية الجسم أباح له التمتع بالطيبات والزينة شريطة أن تستعمل طبقًا لأهداف الإسلام: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، ويحدد له أنواع الأطعمة التي يأكلها ويشترط فيها أن يكون حلالًا طيبًا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وأباح له النكاح ولم يستقذره بل جعله عملًا من أعمال الخير حين يمارَس على وجهه الصحيح: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، وأيضًا في مجال الإسراف الذي يسرع بالطاقة إلى العطب والتلف، قال تعالى: {ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} وقوله تعالى: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ}.
وهكذا تبدو في مرحلة التزكية التي ترمي إلى إحداث التوازن في الحياة البشرية، توزان يقوم على إيجاد المعادلة في سلوك الفرد وفي حياة الفرد بين روحه وعقله وجسده في وقت واحد.
أهداف فلسفة التربية في القرآن
أولًا: العبودية الخالصة لله تعالى؛ ففي قوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، تؤكد الآية أن بناء العلاقة بين المخلوق لا بد أن تقوم على أساس العبودية الخالصة لله تعالى، فالإنسان يتحرك ويتكلم ويتعلم ويقرأ ويعمل باسم ربه سبحانه وتعالى، وحتى في حالته الامتناع عن الحركة والكلام، ينبغي أن يكون ذلك أيضا باسم ربه، ويكون المعنى في النهاية جرد حياتك كلها، وكيانك كله، أسبابًا وغايات لله تعالى.
ثانيًا: التوحيد؛ ففي قوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، تهدف الآيات إلى تعريف الإنسان بربه، وبخالقه وبناء العلاقة بينهما على أساس من ربانية الخالق وعبودية المخلوق، وفيها دلالة على التربية القائمة على التوحيد، وهي عملية تقوم على جعل التوحيد العقدي شعورًا حاضرًا في الأعمال والأقوال والتطبيقات.
ثالثًا: تطوير الفرد، وتغير سلوكه واتجاهاته نحو الأفضل هو هدف من أهداف فلسفة التربية القرآنية وذلك في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى}، والآية بهذا تأخذ بعين الاعتبار جميع أبعاد النمو في الإنسان: الروحية، والانفعالية، والاجتماعية، والعقلية، والجسمية؛ وهكذا تسهم التربية القرآنية في تحقيق الأهداف الفرعية للإسلام نفسه، ومن تكوين للإسلام والفرد وللمجتمع وللإنسانية الخيرية على وجه العموم؛ وبالرجوع إلى الآية مرة أخرى، يمكننا أن نقول إن فلسفة التربية تتصف بأمرين أساسين: الأول: أنها تبدأ بالفرد وتنتهي بالمجتمع، والثاني : أنها تبدأ بالدنيا وتنتهي بالآخرة، بأسلوب متكامل.
الهدف الرابع: الشعور بالانتماء لأمة الإسلام؛ فقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ} وكذلك قوله تعالى: {والَّذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ} تعطينا الآيات مجموعة من الدلالات في شبكة العلاقات الاجتماعية وهي واحدة من أهداف فلسفة التربية القرآنية، فالآية تخبرنا عن مدى النقلة الاجتماعية الكبيرة التي حصلت في صفوف العرب الذين كانوا بالأمس ممزقين متفرقين، متحاربين، ليس لهم وحدة وبالتالي لا تجمعهم ولاية يجتمعون تحت راية، وهناك عدة دلالات تربوية تكمن في هذه الدلالة، منها:
أولًا: إخراج الأمة من التمزق والتشتت إلى الوحدة القائمة على أساس المرجعية العقدية الإسلامية.
ثانيًا: إبراز أهمية إخراج هذه الأمة واعتبار الانتماء إليها دليلًا لصحة الإيمان وكمالًا للدين.
ثالثًا: بموجب التنزيل الجديد تصبح الرابطة الاجتماعية التي لها وزن ومعنى هي رابطة العقيدة ورابطة الجماعة المؤمنة التي تستلهم مقتضيات الإلوهية والربوبية والعبودية وفق معيار العقيدة.
رابعًا: أن ميدان التنافس في المفهوم الجديد ليس كثرة المال، ولا أصالة النسب والحسب، ولا قوة القبيلة، وإنما الهجرة في سبيل الله وإتباع رسول الله ﷺ وبذل المال والنفس في سبيل الله.
خامسًا: في إطار الهجرة مع الرسول ﷺ وبذل المال والنفس في سبيل الله هناك درجات ومقامات ففي الآية نجد حال المهاجرين أعلى في الفضيلة من حال الأنصار كما يقول الفخر الرازي:
أولًا: لأنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب.
ثانيًا: أنهم تحملوا العناء والمشقة دهرًا دهيرًا، وزمانًا مديدًا من كفار قريش، وصبروا عليه.
ثالثًا: أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران، ولم يحصل ذلك للأنصار.
رابعًا: أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول ﷺ إنما حصل من المهاجرين، والأنصار قد اقتدوا بهم وتشبهوا بهم، وفي حديث الرسول ﷺ: «من سَنَّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وفي قوله تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يتضح من هذه الآية حجم المسؤلية الاجتماعية التي حملها الله سبحانه وتعالى الأمة الجديدة من خلال التربية القائمة على معاني التوحيد. وفي هذه الآية مجموعة من التوجيهات والترتيبات التي تشد الأمة نحو تحقيق غاياتها وهي:
أولًا: تذكر المسلمين بحمل الرسالة الإسلامية إلى شعوب العلم كافة.
ثانيًا: الآية تحث وتحرض الأمة على عالمية الرسالة وربانية المنهج، مما يولد لديهم شعور العزة في سياق الاستعلاء بالإيمان والاستغناء بالله رب العالمين.
ثالثًا: تخاطب الآية المسلمين بكونهم أمة الوسط، ديانة، وثقافة، وعلمًا، وسلوكًا، وجهادًا.
رابعًا: ولكي يكون المسلم أمة وسطًا لا بد من أن يحرز تقدمًا في العلم والسلوك الحضاري، والقيم الاجتماعية والتربوية، وأن يكون أعلى من غيرهم في ذلك.
النتائج
- تبين فلسفة التربية العلاقة بين الإنسان وخالقه على أساس العبودية لله تعالى، والتسليم المطلق لمقتضيات الألوهية والربوبية. والعلاقة بين الإنسان والدنيا على أساس الابتلاء.
- توضح فلسفة التربية القرآنية أن مصدر العملية التربوية والتعليمية هو الله سبحانه وتعالى.
- للتربية القرآن أهداف واضحة منها تأكيد التوحيد، والسعي لتطوير الفرد وتغيير سلوكه وتدريبه على قيامه بمهام الاستخلاف في الأرض.
- يطابق مفهوم التربية مفهوم التزكية في القرآن في أن كليهما يعني الاصطلاح والتطهير والنماء معنويًا وماديًا.
.