لما كانت النفس البشريّة أشبهَ بقلعةٍ حصينةٍ ودُرّةٍ مصونةٍ، وبحرٍ زاخرٍ وموجٍ متلاطِمٍ، ووادٍ سحيقٍ وفجٍّ عميق، فقد جاءت النصوصُ لتسبرَ أغوارَها وتكشفَ أسرارَها وترفعَها عند انحطاطها، وتنفيَ عنها ما يحول بينها وبين صفائها وإشراقِها.
ومن هنا فقد أعدّ الدكتور محمد عمر دولة، هذه الدراسة ليبين كيف اعتنت السنة النبويّة عنايةً عظيمةً بمسائل التربية، وتتبعت مسالك العاطفة والانفعال وغاصت في مساربِ النفسِ البشريّة، مقتفيةً طريقةَ القرآن في التربية العامّة للاعتقاد والانفعال، والأقوال والأفعال، والسِّر والإعلان.
أهمية بيان ثمرات كظم الغيظ في السنة النبوية
لا شك أنّ أهمية الكتابة في هذا الموضوع تنبع من كثرة الثمرات الإيمانية والأخلاقيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والمنهجيّة لكظم الغيظ؛ ولشدّة حاجةِ المسلمين إلى العفو والمسامحة في زماننا الذي كثر فيه التنازُع والتشرذُم؛ مما يجعل الدعاةَ وطُلابَ العلم مُشفِقين على الأمة من الفشل وذهاب الرِّيح.
الثمرات الإيمانيّة لكظمِ الغيظ
[1] كظمُ الغيظ تربيةٌ للإخلاص
وقد عبَّر النبيّ ﷺ عن ذلك أحسنَ تعبيرٍ في حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: «ما من جُرعةٍ أعظمُ عند الله من جُرعةِ غيظٍ؛ كظمها عبدٌ ابتغاءَ وجهِ الله».
ومن علامات الإخلاص ألا يغضبَ المرءُ لنفسِهِ؛ بل يصبر على الأذى ويتحمّل في سبيل الله العناء؛ رجاء أن ينال القبول والرّضا، كما قال ابن معين لما رفسه الحافظ أبو نُعيم الفضل بن دُكين حين امتحنه في قلب الأسانيد: «والله لهذه الرفسة أحبّ إليّ من كل شيء».
[2] إظهارُ الغضبِ غَيْرَةً على حُرُماتِ الله عزَّ وجلَّ
وقد كثرتْ الأحاديثُ التي تؤكِّدُ غضبَ النبيِّ لحدودِ الله إذا انتُهِكتْ، منها:
ما جاء في حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: «جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ فقال: إنِّي لأتأخَّر عن صلاةِ الصبح من أجل فلانٍ مما يُطِيل بنا؛ فما رأيتُ النبيَّ ﷺ غضب في موعظةٍ قطُّ أشدَّ مما غضب يومئذٍ، فقال: يا أيها الناس إنَّ منكم منفِّرِين؛ فأيُّكم أمَّ الناسَ فلْيُوجِزْ؛ فإنَّ من ورائهِ الكبيرَ والصغيرَ وذا الحاجة».
وقد يكون الغضب؛ لأجل رؤية ما يُسخِطُ الله عز وجل، كما حدث عند رؤية صور التماثيل في قِرامٍ لعائشة، فلما رآه رسولُ الله هَتَكَهُ وتلوَّنَ وجهُهُ وقال: «يا عائشةُ أشدُّ الناسِ عذابًا عند الله يومَ القيامة الذين يُضاهُون بخلقِ الله»
[3] كظمُ الغيظ علامةُ الأخوّةِ الصادقة
وقد بيَّن الحافظ ابن كثير هذا الأمر في تفسير قول الله عز وجل: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة:54)، فقال: هذه صفاتُ المؤمنين الكُمَّل: أن يكون أحدُهم متواضِعًا لأخيه ووليِّهِ، متعزِّزًا على خصمِهِ وعدوِّهِ، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (آخر سورة الفتح).
الثمار الأخلاقيّة لكظم الغيظ
[1] تكامل الأخلاق في الإسلام.
[2] العفو عن الناس وملك النفس عند الغضب؛ من أعظمِ العبادة وجهادِ النفسِ.
[3] كظمُ الغيظ سبيلٌ إلى مكارم الأخلاق.
الثمرات الاجتماعيّة لكظم الغيظ
[1] الغضب يؤدّي إلى عزلِ المسلم عن غيره نفسيًا واجتماعيّا، وتنفير الناس منه.
[2] كظم الغيظ علامةٌ على التخلق بالعفو والإعراض عن الجاهلين.
[3] كظم الغيظ سبيلٌ إلى الإصلاح بين الناس.
[4] كظم الغيظ تربيةٌ للتواضع.
[5] الرجل الغضوب أقربُ إلى العقوقِ منه إلى رعايةِ الحقوقِ، وأبعدهم عن النجاح في ربطِ العلاقات.
.