Business

دور القرآن الكريم في تربية النفس الإنسانية

 فضل الله سبحانه وتعالى الإنسان على كل مخلوقاته، وميزه بصفات استحق بها هذه الأفضلية. وأعظم المهمات التي بعث بها نبي هذه الأمة محمد ﷺ تزكية النفس، كما قال تعالى ممتنا على عباده: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}}، لذا فالواجب على كل منا أن يباشر بتزكية نفسه وتطهيرها من الذنوب والمعاصي والآثام بأعمال الخير والبر والصلاح.

ولما كان طريق تزكية النفس هو معرفة النفس، جاء القرآن الكريم داعيًا إلى التأمل في الملكوت وفي أنفسنا؛ ليجعل هذا التأمل وهذه المعرفة طريقًا إلى الله تعالى، فمن عرف نفسه عرف ربه، ومن عرف ربه عمل ما يرضيه، ومن أرضى ربه حظي بالسعادة في الدنيا والآخرة.

وفى دراسة بعنوان: «دور القرآن الكريم في تربية النفس الإنسانية»، للدكتورة انتصار زين العابدين شهباز البياتي، الأستاذة بمركز الدراسات التربوية والأبحاث النفسية، بجامعة بغداد، تناولت فيها آيات النفس في القرآن الكريم التى تتضافر مع بعضها مكونة نظرة الإسلام إلى الإنسان، كما أنها تمثل قاعدة النظرية النفسية الإسلامية.

 

أثر القرآن في الأمن النفسي

لقد بدأت تظهر حديثًا اتجاهات بعض علماء النفس في العصر الحديث تنادي بأهمية الدين في علاج الأمراض النفسية، وترى أن في الإيمان بالله قوة خارقة تمد الإنسان بطاقة روحية تعينه على تحمل مشاق الحياة، وتجنبه القلق الذي يتعرض له كثير من الناس الذين يعيشون في هذا العصر الحديث، هذا العصر الذي تغلب عليه الحياة المادية.

أقوال علماء النفس في العصر الحديث، وما جاء به القرآن الكريم والسنة الشريفة عن علاج القلق منذ 1400عام.

  1. يقول وليم جيمس- عالم النفس الأمريكي-: «إن أعظم علاج للقلق هو الإيمان». وهذا مصداق لقوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
  2. ويقول بريل- المحلل النفسي-: «المرء المتدين لا يعاني قط مرضًا نفسيًا». وهذا مصداق لقوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وهكذا يتضح أن القرآن الكريم قد سبق علماء النفس عندما أوضح لنا أهمية الإيمان في تحقيق الأمن النفسي لأنه:
  • يزيد من ثقة الإنسان بنفسه.
  • يزيد من قدرته على الصبر وتحمل مشاق الحياة.
  • يبعث الأمن والطمأنينة في النفس، ويغمر الإنسان الشعور بالسعادة وكان لا بد لكي نحقق الأمن النفسي أن نتعرف على النفس الإنسانية معرفة شاملة واسعة تحيطنا علمًا بكل جوانبها ومراحلها وأطوارها وآفاتها، والمعالجة الإسلامية لها، والأمراض النفسية التي تتعرض لها، وما تمر به هذه النفس من أحوال وأحاسيس ومشاعر، ووجه إعجاز القرآن في حديثه عن النفس الإنسانية كثيرة، نذكر منها:
  1. تعرّض القرآن الكريم إلى ما يتعلق بالخواطر والوساوس والهواجس والأحاسيس: من فرح وحزن وائتناس؛ وانقباض وانبساط؛ وارتجاف واطمئنان؛ وقلق واضطراب.
  2. أرشدنا إلى أمراض وعلل النفس وألوان قصورها وأوجه قوتها ونشاطها وكمالاتها وأنماط علاجها وصحتها وعافيتها.
  3. يذكر لنا القرآن الكريم الآفات النفسية، مثل: الرياء، الحقد، الحسد، الغيرة، الغرور، الغضب، الغفلة، الطمع...الخ، والمعالجة الإسلامية لها، وقد تحدث القرآن الكريم عن صفات النفس الإنسانية التي ترتكز في: 
  • الضعف: قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم: 54] وقوله أيضًا: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
  • البخل: قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180].
  • الشهوة: قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14].
  • الجهل: قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

تحدث القرآن الكريم، أيضًا عن أوصاف النفس الإنسانية، فكما أن لها صفات فطرية تعتبر من تركيبتها الأولى ومن جبلتها، فإن لها أوصافًا تعرف بها، وأشكالًا ظاهرة تتشكل بها، وأماني شيطانية تمضي إليها، ومظاهر لا تستطيع منها خلاصًا إلا بالمشيئة الإلهية، وهذه الأوصاف المذمومة تتركز فيما يلي:

  1. ادعاء الربوبية؛ قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123] {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56].
  2. حب المديح؛ قال تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ} [لقمان: 23] {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
  3. أخلاق الشياطين؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117].
  4. البهيمية؛ قال وتعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

لقد أرشدنا القرآن الكريم، إلى سمات النفس الإنسانية، فكما للنفس الإنسانية صفات وأوصاف توصف بها، وهي ما فطر عليه الإنسان، فإن تربية النفس وتهذيبها يؤدي إلى ترقي النفس من درجة إلى درجة، ومن منزلة إلى منزلة، ومن مقام إلى مقام، وفي كل مرحلة من هذه المراحل توصف النفس بسمة معينة تُعرف بها، وهذه السمات هي ما يجب أن يسعى إليها الإنسان حتى يحظى برضا الله ومحبته، وهذا لا يأتي إلا بعمل الإنسان وبسعيه ومجاهدته.

 

النفس الإنسانية في القرآن الكريم

ينظر الإسلام إلى نفس الإنسان على أنها مستودع قوى الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ فهي أقوى من الوجود المادي ببحاره وأنهاره وأمواجه وأبراجه وزلازله وبراكينه وسيوله وأعاصيره، والنفس الإنسانية تذكر في القرآن الكريم قرينة لآفاق الكون في أكثر من موضع، لقد احتوى القرآن الكريم على كنوز وذخائر لإصلاح البشرية، وكأن هدفه الرئيس إنقاذ الناس وإخراجها من الظلمات إلى النور، ولذلك فلا غرابة أن نجد القرآن الكريم يتوسع في تناوله لفظة النفس يعكس مدى إعجازه الذي يكمن في أسلوب تناوله وطرحه وعرضه للموضوع من حيث ألفاظه ودلالاته وأساليب تركيبه، فلا نجد في القرآن ما نجده في مؤلفات البشر من التنسيق والتبويب حسب الموضوعات، وتصنيف البحوث مستقلة، وإنما نجد عامة موضوعاته لاحقًا بعضها بعضًا دون فاصل، وقد نجدها متمازجة متداخلة في كثير من السور والآيات، والذي أنزله هو خالق النفس وبارئها.

ولفظة النفس في القرآن الكريم بصورها المتعددة تدل أكثر ما تدل على الإنسان ككائن حي، ذي أصل واحد، يتكاثر ويكسب ويغضب ويشتهي، ثم يجازى عن عمله أخيرًا، لقد وردت ومشتقاتها في القرآن الكريم في مائتين وخمس وتسعين آية موزعة على اثنتين وستين سورة، حيث جاءت على صور متعددة من الإفراد والجمع والتشبيه والإضافة في الآيات الكريمة، وللنفس الإنسانية في القرآن الكريم جملة من الخصائص نذكر منها:

  1. أنها مركز الحاجات والدوافع: قال تعالى: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68].
  2. أنها قادرة على إخفاء أسرارها: قال تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154].
  3. أنها مكلفة شرعًا: قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
  4. أنها هي التي تتعلم: قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
  5. أنها هي التي تقول وتتكلم: قال تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 57].
  6. أنها تشعر وتحس وتتألم: قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].
  7. أنها تموت: قال تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11].
  8. أنها هي التي تحاسَب وتعاقَب: قال تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى: 45].

 

تقسيمات النفس

أولًا: تقسيم النفس بحسب اللفظ الوارد في القرآن الكريم:

فإن لنا أن نتأمل في القرآن الكريم الذي قسم النفس إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي:

  1. النفس الأمّارة بالسوء: قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].
  2. النفس اللوّامة: وهي التي أقسم بها الله سبحانه وتعالى في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {1} وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1-2].
  3. النفس المطمئنة الراضية: وهي المذكورة في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28].

ثانيًا: تقسيم النفس حسب أخلاقها وصفاتها:

  1. الذات الإنسانية «الأنا»: وهي التي خاطبها ربها بقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
  2. الرقيب «الأنا الأعلى»: وقد استُنبط هذا القسم من قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، فهي مجموعة القيم العليا والمثل التي جلبت عليها النفس الإنسانية فطرة.
  3. القلب الإنساني: هو الذي تفرد القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بإعطائه الأولوية القصوى، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

 

القيم الأخلاقية للنفس الإنسانية

قال الرسول ﷺ: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء»، إن الإيمان بالأخلاق من أهم المعاني في هذه الحياة، وتأتي مرتبتها بعد الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والقضاء والقدر، وإذا كان الإيمان بالله تعالى وكيانه يرتبطان في المقام الأول بعلاقة العبد بربه، فإن الأخلاق ترتبط في المقام الأول بعلاقات الإنسان ومعاملاته مع غيره من بني الإنسان سواء كانوا أفرادًا أم جماعة.

وجاء الإسلام ليجمع القلب؛ مستهدفًا إقامة كيان موحد له القدرة على تحقيق الأهداف السامية التي جاءت بها رسالته العظمى من عبادة الله وإعلاء كلمته وإقامة الحق والجهاد من أجل استقرار المبادئ التي يعيش الناس في ظلها آمنين فهو بهذا كله يُكَوِّن روابط وصلات بين أفراد المجتمع، ويجب أن نجعل بين المسلمين تماسكًا قويًا، وأول رباط هو رباط الإيمان فهو المحور الذي تلتقي عنده الجماعة المؤمنة، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. والإسلام يدعو إلى هذا الرباط القوي بالدعوة إلى الاندماج في الجماعة، وينهى عن كل ما من شأنه أن يوهن من قوله أو يضعف من شدته، فيقول الرسول ﷺ: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة».

وعبادات الإسلام كلها لا تُؤَدَّى إلا جماعة، فالصلاة سنة مؤكدة فيها الإجماع، وصلاة الجمعة فرض للتجمع الإسلامي، وتفضل صلاة الفرد سبعًا وعشرين درجة، والزكاة معاملة بين الأغنياء والفقراء، والصيام مشاركة جماعية ومساواة في الجوع في مدة معينة من الوقت، والحج ملتقى عام للمسلمين جميعًا كل عام يجتمعون من أطراف الأرض على أقدس غاية، ولقد كان الرسول ﷺ على أن يجمع المسلمين حتى في المظهر الشكلي، فقد رآهم يومًا فجلسوا متفرقين فقال لهم رسول الله ﷺ: «اجتمعوا اجتمعوا، لو بسط عليهم ثوبه لوسعهم»، وإذا كانت القوة هي التي تحمي دين الله، فإن الفرقة هي التي تقضي على الدين والدنيا معًا، ويقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وهكذا يعمل الإسلام على تحقيق الروابط حتى يحقق مجتمعًا متماسكًا وكيانًا قويًا يستطيع مواجهة الإحداث ورد عدوان المعتدين.

 

صياغة العامل النفسي للشخصية الإسلامية

للإسلام وسائله المحكمة في صياغة المؤمنين صياغة تختلف عن الأديان الأخرى والمبادئ والفلسفات الأرمينية بما فيه من حكمة وعمق في خفايا النفس الإنسانية؛ مصداقًا لقوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة،138]، وقوله تعالى أيضًا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وهذه الوسائل يمكن إجمالها فيما يأتي:

  1. التصور السليم لموقع الإنسان في الكون: فالإنسان عبد بفطرته وخلقته لربه لا لغيره، وظيفته الانقياد لأمره، إذ الدنيا دار امتحان لجميع مواهبه وقواه النفسية في شعاب الحياة، والمختبِر هو الله وحده الذي لا يخفى عليه شيء في قلب الإنسان وعقله وجوارحه، قال تعالى في كتابه الكريم: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
  2. النظام الروحي: إنّ النظام الروحي بمراحله الإيمان والطاعة والتقوى، تسهم في تقوية الصلة بين الإنسان وربه، ويضمن انشراح النفس بالالتزام بالسلوك الإسلامي، ويكون العامل النفسي واضح الأثر في صياغة الشخصية الإسلامية باحتضان هذا النظام الروحي.
  3. القيم الخلقية والمسؤولية الضخمة إزاءها: لا بد من التأكيد على القيم الخلقية واسترجاعها والتذكير الدائم بها واستغلال وسائل الإعلام جميعها للتعريف بها وإزالة الغموض عنها، ونقد الخُلُق الغربي والشرقي نظريًا وواقعيًا مع الموازنات المنطقية الحيادية بين الإسلام وما سواه في ميدان الخلق.
  4. مسؤولية الدولة في الهيمنة على الخلق وتربية الأمة به: لا يقتصر الإسلام على وصايا وتخطيط نظري فحسب، وإنما يجاوزه إلى إلزام الدولة برعاية خُلُق الأمة وإلزامها بالقيم الإسلامية، وإزالة غيرها بجميع الوسائل المحكمة التي عني بها قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
  5. القدرة العلمية في السلوك: ما اقتصر الإسلام على التصور السليم والنظام الروحي المحكم ومواجهة القيم الخلقية في بؤرة الذاكرة فحسب، وإنما صاغ لها أنموذجًا صالحًا، هو سيد البشرية ﷺ وكان خلقه أعظم خلق قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فأمر الله سبحانه وتعالى أن نقتدي به حيث قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

إذن فالعامل النفسي له دور كبير في صياغة الشخصية الإسلامية من خلال:

  • توجيه الدوافع وإشباعها.
  • الاتجاهات والأفكار يجب أن تحتل مركز القيادة في المجتمع؛ حتى لا تتأثر الشخصية بصياغة متعثرة عمن لا يحسن الفكر، ولا يقدر على توجيه الناس الوجهة الصحيحة التي أرادها لهم القرآن الكريم.
  • الميول والعواطف والوجدان، لها أساسيات في صياغة الشخصية الإسلامية فإذا توجهت إلى غير مسارها أصيبت الشخصية بالشكل والعزق.
  • إيجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية التي تؤثر في نفسية الفرد مباشرة أو غير مباشرة، مما يؤدي إلى اضراب الشخصية، أما إذا دفعت الزكاة إلى المستحقين ووزعت الأموال بشكل عادل فإن الشخصية تكون ذات صياغة قوية ومتينة.

 

الآثار التربوية والنفسية على الفرد والأسرة والمجتمع في القرآن الكريم

إن محور هذا الموضوع يرتكز على آثار التربية النفسية المؤثرة في حياة الإنسان في جميع مجالات الحياة، وما لهذه الآثار من جذور عميقة في النفس الإنسانية تجعل الإنسان مطمئنًا على كل شيء في حياته الدنيا، والقرآن الكريم يبين هذا الأمر في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].

وقد تناول القرآن الكريم هذا الموضوع لأهميته في آيات كثيرة، كون الفرد هو الوحدة الأساسية في المجتمع وبقدر صلاحه يصلح المجتمع وينمو ويزدهر وهو كيان مستقل، وعليه يتوقف تكوين الأسرة من خلال حقوقه وواجباته وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من عقل ومنهج وسلوكه المتمثل بالصدق والمحبة، ويكون بعيدًا في سلوكه عن القلق والاضطرابات النفسية التي قد تصيب شخصية الفرد وفي الوقت نفسه إشباع حاجاته الروحية والتوازن في الشخصية الإنسانية في البدن والروح.

والقرآن الكريم دائمًا يرقى بالنفس الإنسانية إلى بنائها بما في آياته الكريمة من تأثير على النفس الإنسانية، ويسعى إلى التحذير من النوازع النفسية الشاذة التي تصيب الفرد وتؤدي به إلى الانحطاط ومنها جنون العظمة وحب المال والرغبة بالحكم، وطريق الإنسان في حياته الطبيعية يبدأ من الفرد وينتهي بالجماعة، فإذن الفرد نفسه ليس غاية وحياته التي يعيشها ليست هدفًا لسعيه، ولكن غايته الأخيرة التي يسعى إليها هي الجماعة التي هي غاية الفرد الأخيرة.

إن الإسلام يعالج العقد النفسية التي أقام عليها فرويد وأتباعه مذهبهم، وهذه تقل أو تنمحي في جو العقيدة الإسلامية التي تعترف منذ الخطوة الأولى برغبات الفرد وضروراته ولا ترى فيها انحطاطًا ولا قذارةً، والفرد المؤمن يعيش حالة نفسية مطمئنة عندما يجد العلاقة بين الرب والعبد علاقة مباشرة، إذ في ظل هذه القوة يأمن الفرد على رزقه ومكانته، وما من أحد يستطيع أن يضره برزق ولا في مركز، جاء في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

إن الأسرة في الإسلام هي الوحدة الأولى في المجتمع والبيئة الصغيرة للفرد، أي هي وحدة واحدة شديدة التماسك قوية الأواصر فينبغي أن يكون هناك تعاون تام بين أفرادها وأن يعرف كل منهم حقوقه وواجباته، ولهذا أقر القرآن الكريم على أساس من الحق والعدل والإحسان وأحاطها بمنهاج من الحب والبر والمواساة، وعلى الإيثار بين أفراد الأسرة ولهذا نجد القرآن الكريم يؤكد على بناء الأسرة على قواعد القرآن الكريم وتعاليمه، وجعلهم كالبنيان يشد بعضهم بعضًا، ويعبر القرآن الكريم بصورة حسية عن هذا الجانب بقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] ووصفهم رسول الله ﷺ كالجسد الواحد كما في الحديث الشريف: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

والقرآن الكريم يحرص على تكوين أفراد في المجتمع، موقنين في الله عز وجل، لا يخافون إلا من الله، وبالتالي تحقق النضج الانفعالي والاتزان العاطفي، ومن ثم يكونون متحررين من العقد والانحرافات، حيث أن مصدر القلق في الحياة هو الدنيا وما فيها من مال وبنين ومنصب وجاه وتهديد للنفس، كما في قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].

والقرآن الكريم يحرص على إعطاء حقوق الانسان غي المجتمع المسلم كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، والفرد في المجتمع المسلم يصبر على حكم الله عز وجل في الدنيا في قوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109].

فالقرآن الكريم يريد لهذا المجتمع السلامة والوقاية من الحروب إذا استوجب الأمر كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، إذن يريد القرآن الكريم للفرد أن يبني نفسه ويكون ذا شخصية، أشبه بالميزان الذي يوزن النفس أو أشبه بوحدة القياس التي يقاس بها السلوك البشري فيوصف باعتداله، فيكون بناء الفرد ضمن ما ذهبنا إليه حلقة الوصل لبناء المجتمع، فالرسول ﷺ قد بنى دولة الإسلام وابتدأ بقلة من الرجال ثم انتهى بأمة في مشارق الأرض ومغاربها.

 

النتائج

  1. لقد أكد القرآن الكريم على أن الإنسان أفضل ما في هذا الكون من عناصر وموجودات ومخلوقات، ميزه الله عن غيره بكثير من الصفات والمميزات، وقد كرمه وفضله على جميع المخلوقات، وجعله المحور الأساسي الذي ترتكز عليه الحياة بكل ما فيها من حركة ونشأة، واختاره الله موضعًا للرسالات السماوية، ثم لدعوات الإصلاح على مر العصور والأزمنة، وقد استخلفه الله سبحانه وتعالى على الأرض لتعميرها وتحميله أمانة التكاليف، وحرية مسؤولية الاختيار والمحافظة على القيم.
  2. إن لفظة النفس في القرآن الكريم بصورها المتعددة تدل أكثر ما تدل على الإنسان ككائن حي، ذي أصل واحد، يتكاثر ويكسب ويغضب ويشتهي، ثم يجازى على عمله، وقد وردت ومشتقاتها في القرآن الكريم في مائتين وخمس وتسعين آية موزعة على اثنتين وستين سورة، حيث جاءت على صور متعددة من الإفراد والجمع والتشبيه والإضافة.
  3. أكد القرآن الكريم أن النفس واحدة لها صفات ثلاث، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة.
  4. إن مبدأ التزكية كما يدلنا عليه الهدي القرآني يتعلق بصفة أساسية، هي أن يستحضر الإنسان الله عز وجل في نفسه عند كل لحظة وفي كل حال، وبذلك يتذكر الإنسان أمر ربه فيلزمه ونهيه فيتجنبه، وعلى الإنسان أن يزكي نفسه ويطهرها بالتخلي عن الرذائل والتحلي بكل الفضائل.
  5. يدعو القرآن الكريم إلى التحلي بالإيمان لتكون الشخصية المؤمنة المتوازنة، إذ أن لكل ذات حدودًا وقدرات تبعث في النفس الإنسانية نوعًا من الاطمئنان النفسي والهدوء الذي لا بد منه من إعادة التوازن في كل سلوك، وبذلك يضع حدًا لما نراه من الطيش والغرور المؤدي إلى التكبر الذي حَرَّمَه الله عز وجل، والذي يُعَدُّ مظهرًا من مظاهر مشاركة الله تعالى في بعض صفاته وهذا ما لا يليق بالإنسان المسلم.
  6. إن علم النفس الحديث لا علاقة له بالنفس؛ وإنما هي تسمية لصقت به في الماضي ولا تزال عالقة به إلى يومنا هذا فهو علم يدرس السلوك الإنساني ولا علاقة له بماهيّة النفس الإنسانية.
  7. يؤمن القرآن الكريم بأن المجتمع هو مجموعة من الأفراد والجماعات الذين تربطهم وحدة الدين والوطن والثقافة، وما ينشأ عن ذلك من علاقات وعادات وتقاليد وأنماط وأساليب الحياة ونظمها التي يشتمل عليها المجتمع.
  8. إن إشاعة الظلم والعدوان وهضم حقوق الآخرين ووضع الرجل غير المناسب في المنصب، وغيرها من معالم الظلم والاستبداد والتكبر وما إليها، كلها تصيب المجتمع بنوع من الإحباط وتعرقل عملية التقدم الحضاري والفكري ثم النفسي وتحطم في المجتمع تلك القدرة على الخلق والإبداع وتصرفه عن منهج الله تعالى في الإبداع، فالتربية النفسية هدفها إنقاذ الأمة مما تعاني من الآلام والهموم التي أثقلت كاهلها ومسحها بمسحة الصدق والعدل، والتوكل على الله عز وجل، فإذا بالأمر الصعب يصير سهلًا مهما كان ذلك الأمر.
  9. ويبرز البحث أمرًا مهمًا: أن النصر مع الإيمان، ولا يعني هذا عدم الأخذ بالأسباب، ولكن التوكل على الله مع الإيمان.
  10. فتح الحوار بين المهتمين بموضوع علم النفس على اختلاف رؤيتهم له، ومشروع التأصيل الإسلامي للدراسات النفسية، ولا بد أن نصل في النهاية إلى صيغة مشاركة تكون لها شرعية جماعية وتعبر عن نقطة العقل المسلم وطموحه إلى الاستقلال الثقافي.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم