قد اهتم علي بتربية العقل وأعطاه منزلته التي أعطاه إياها الإسلام فهو مناط التكليف وهو معدن الرجل وتدل آثاره رضي الله عنه على تلك العناية، بل والاهتمام بتربيته باعتباره مناط التفكير العلمي الذي يعتبر أساس كل شيء في الحياة، ومن الوسائل التي يمكن تحقيقها لتربية العقل في نظر الإمام علي:
العقل عند الإمام علي هو الموجه والمرشد للإنسان لسلوك طريق الخير واجتناب طريق الشر، لأن نظرة الإسلام للخير والشر، تقوم على بيان النتيجة النهائية لكل منهما قال تعالى: {وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا٧فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا٨قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا٩وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا١٠}؛ وذلك حتى تتحقق للإنسان حريته الكاملة في الاختيار.
والغني عند الإمام علي ليس هو امتلاك المال الكثير إنما هو امتلاك الإنسان لعقل معافى يهديه سبل الرشاد وقال الإمام علي كرم الله وجهه: «لا غنى كالعقل»، وأوصى الإمام علي ابنه الحسن بقوله: «إن أغنى الغني العقل».
والعقل عند الإمام علي خزانة لحفظ التجارب، التي يتمكن من خلالها الإنسان من حل مشكلاته، قال الإمام علي كرم الله وجهه «العقل حفظ التجارب».
وكان يجسد ذلك في وصيته لبنيه فيقول: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه».
قال أيضًا تعزيزًا لتربية العقل: «لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة»، ومن حكمه قوله: «إذا تم العقل نقص الكلام».
فالإسلام يؤكد قيمة العلم، فهو الحاكم الضابط لكل شيء مما يقع تحت إمكانية إدراك الحس أو في مقدور العقل أن يدركه.
وقد أولى الإمام علي العلم عناية خاصة تليق بمكانته في حياة الإنسان، فالعلم عنده خير من المال، قال الإمام علي لتلميذه كميل بن زياد: «يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال تُنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق». والخير كله في كثرة العلم قال الإمام علي: «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك»، وأفضل طريقة عند الإمام علي لتحصيل العلم هي الإكثار من مجالسة العلماء ومناقشتهم وفي هذا تنمية للقدرة على التأمل والنظر والتفكير، وعن طريق محاورة العلماء تتم عمليات نقل الأفكار إلى الأجيال اللاحقة. قال الإمام علي كرم الله وجهه لعامله على مصر مالك النخعي: «أكثر من مدارسة الحكماء».
- التفكير في مخلوقات الله تعالى
تحدث الإمام علي في كثير من خطبه عن الحيوانات والنباتات والسحاب والمطر، وعن أحوال الناس وما يمرون به في حياتهم من مواقف مما يدل على ممارسته لما يعرف الآن بالتفكير العلمي الذي يقوم على الوصف الدقيق للظاهرة من جهة، وحثه للناس من حوله على استعمال قدراتهم العقلية في التفكير والتأمل في مخلوقات الله تعالى ليتأكدوا من صدق ما أتى به الوحي المسطور ومقارنته بالكون المنظور ومن تلك المخلوقات التي وصفها الإمام علي النمل والخفاش، قال الإمام علي في وصف الخفاش ومن لطائف صنعته، وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة، في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي».
ومن هنا كان سر اهتمام علي بالتربية العقلية لا بهدف زيادة المعارف والمعلومات بل بهدف كيفية الاستفادة منها في حياة الإنسان، لأنه كرم الله وجهه ليس شاعرًا ومصورًا فقط بل هو حكيم قبل كل شيء، حكيم في جميع مواعظه وخطبه، يحافظ على الحد الأوسط في أكثرها وإذا هاجت عاطفته الأحزان فخشي عليها من التهور، ظهر العقل أمرًا فأوقفها وإننا نرى أبلغ مظهر لعقله في القوة المنطقية والمقدرة على القياس، التي اتصف بها أكثر كتبه إلى معاوية أو إلى عماله، والتي يقرأها المطالع فلا يتمالك عن القول: الحق معه».
وإننا لندرك من خلال كلامه كرم الله وجهه الأمور الآتية:
- أهمية تربية العقل وتنميته من خلال الاستفادة من التجارب والعبر والصفات السابقة وذلك لما لنضج العقل من أثر فعال في حياة الإنسان والمجتمع.
- أهمية تربية العقل للمشاركة في الشورى، وأهميته في مجال القضاء، فالرأي مهم فيما لم يكن فيه حكم من المنهج القرآني النبوي، أو لم يرد في قضاء الأئمة.
- أهمية تدريب العقل على التأمل والتدبر والتفكر والمراجعة ومعرفة الحق والفهم الجيد فيه.
- التأكيد في تربية العقل على الجدل الحسن والسؤال والإجابة والتلقين والاستنساخ والحفظ والرواية.
- وهذا ما أكده علي كرم الله وجهه في وصية وصى بها الحسن فقال يا بني أحفظ عني أربعًا وأربعًا، لا يضرك ما عملت معهن، أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق، يا بني إياك ومصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وإياك ومصادقة البخيل، فإنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه وإياك ومصادقة الكذاب فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب.
.