ظهرت منذ سنوات طويلة كتابات ودراسات ربطت بين الإعلام من جهة، وبين الإسلام بمجمله وعمومه من جهة أخرى فيما عرف بدراسات الإعلام الإسلامي، كما ظهرت مصطلحات أخرى تربط بين الإعلام والدعوة الإسلامية تحديدًا فيما أطلقَ عليه البعضُ مصطلح الإعلام الدعوي، وفي الآونة الأخيرة تزايد الحديث حول مصطلحات جديدة ربطت بين الإعلام والتربية فيما عرف بالإعلام التربوي أو بين الإعلام والقيم فيما عرف بالإعلام القِيَمِيّ.
وقد اختلطت كثيرٌ من هذه المصطلحات في أذهان من يقولونها حينًا، ومداركِ من يسمعها أحيانًا، وبدى هناك اتجاهٌ بأن هذه المصطلحات ما زال يعوزها كثيرٌ من التعريفات التي توضحها، وتنقصها كثير من المحددات التي تحدد الخطوط الفاصلة فيما بينها لتُمَيِّزَ كُلًّا منها عن الآخر.
ونطرح في هذه القراءة عددًا من المحددات والمفاهيم التي نراها فاصلة بين مكونات هذه المصطلحات، ومحددةً لما بينها من فروق، ومبلورةً لخصوصية كل نوع منها بما يميزه عن غيره من مصطلحات.
بين الإعلاميّ والإسلاميّ
ولعلنا في البداية نقف مع المصطلح الأكثر شيوعًا والأكثر ترددًا، وهو مصطلح الإعلام الإسلامي الذي نال قسطًا وافرًا من الاهتمام لدى من أطلقه ومن عارضه سواءً بسواءً، إذ يتراوح المختصون والمهتمون في التعامل معه بين التمسك الكامل بالمصطلح انطلاقًا من مفهوم الإسلام الشامل الذي يضم بين طياته كل مناحي الحياة، والتي يمثل الإعلام أحدَ أبرزِ جوانبها من ناحية، وبين من يرفض المصطلح جملة وتفصيلًا، فلا يرى مجالًا للربط بين الإسلام أو الدين من ناحية وبين الإعلام أو أي من مجالات الحياة من ناحية أخرى.
ففي الوقت الذي يتحمس فيه البعض للمصطلح انطلاقًا من فهمه الشامل للإسلام، واعتقادًا جازمًا بإسهامات الإسلام البَيِّنَةِ في كافة مجالات الحياة ومختلف مؤسساتها، فإن فريقًا يرى أنه لا مجال للربط بين الإسلام والإعلام، ولا مجال لتصنيف الإعلام على أنه إسلاميّ أو ليبراليّ أو اشتراكيّ، فالإعلام في نظر هؤلاء يحمل قِيَمًا ذاتية وأدوات خاصة ومكونات محددة، ولا تصلح أن تميل إلى عقيدة أو أيديولوجية.
وما نراه بين الفريقين أنه من الإنصاف ألا نغمط الإعلامَ حقه، من اشتماله على قيم وأدوات مستقلة، إلا أنه من غير الإنصاف- في المقابل- أن نتجاهل حزمة القيم المضافة التي يَرْفِدُ بها الإسلام الإعلام كما يَرْفِدُ غيره من مجريات الحياة، تضيف له خصوصية تميزه عن غيره، وتدفعنا لدعم مزيد من الدراسات التي تستنبط من الإسلام القواعد الأخلاقية والقيمية التي تجعلنا أمام مجال متميز من الإعلام.
ونطرح في هذا المجال عددًا من المحاور التي تضيفها المنظومة القيمية الإسلامية في مجال الإعلام ومن ذلك:
- صياغةُ الموارد البشرية التي تؤمن بشمول الإسلام وقيمه ومبادئه وتحترف العمل الإعلامي صياغةً خاصة تُعْلِي من القيم، وتُعَمِّقُ دلالات ومفاهيم المصداقية والخصوصية والأمانة والشفافية والعدالة بصورة تفصيلية؛ فإذا كان الإعلام يشترط فيمن يتخذه مهنةً أن يتحلى عند ممارسة مهنته بهذه الصفات، إلا أن الإسلام يُعمق هذه المفاهيم ويمثل ضمانة لتطبيقها في وجود القانون وفي غيابه سواء بسواء.
- تعميق مفهوم المسؤولية لدى المؤسسات الإعلامية بحيث يكون للمؤسسة الإعلامية مستهدفات تقع في دائرة احتياجات المجتمع وتسهم في تقدمه وتطوره، ولا تكتفي بتلبية الحاجات والغرائز بعيدًا عن المسؤولية التي ترتقي بالمجتمع وتحافظ على ثوابته وقيمه، إذ أن بديل هذه المسؤولية إطلاق العنان لرغبات الأفراد وميولهم حتى وإن ساقت المجتمعات إلى حتفها.
وحتى يستقيم المعنى لا بد أن نؤكد أن المسؤولية ليست في هذه الحالة ضربًا من الوِصَاية على المجتمع أو نوعًا من تحجيم حريته، ولكنها ضمانة للحفاظ على نقطة التوازن الفاصلة بين إطلاق حرية الأفراد وبين حرية المجتمع في تحقيق أهدافه الجمعية التي ترتكز على تماسك المجتمع وتنميته وضمان استقراره وتطوره.
وبالتالي فنحن نتكلم عن المسؤولية من مدخل الحرية لا من مدخل الرقابة والوصاية، فإذا كان للأفراد حق ممارسة حريتهم فللمجتمع حريته بل حقه في حماية قيمه وأخلاقه، وبالتالي فإن الوصول إلى نقطة التوازن بين حرية المجتمع وإرادته في الحفاظ على قيمه وبين حرية الأفراد الخاصة هو المرحلة التي يتوجب على الجميع أفرادًا ومجتمعًا الحفاظ عليها كصيغة مناسبة للتعايش، وبالتالي فإن الإعلام المنضبط بالقيم والمفاهيم الإسلامية يحرص على الوصول إلى هذه النقطة من الاتزان.
- مصداقية المؤسسة ومصداقية العاملين فيها: فإذا كان الإعلام يضع الضوابط والقيم التي تضمن سلامة المحتوى وصحة الرسالة التي تبثها أو تصدرها وسائل الإعلام، إلا أن الأمور تقف في العادة عند هذه المرحلة دون أن يتخطاها إلى ما بعدها في سلوك المؤسسة غير المُعلن أو سلوك الإعلاميين في حياتهم الخاصة.
فالإسلام يُضفي على المؤسسة الإعلامية والعاملين فيها ضوابط ممتدة ومتعدية لما يقولونه أو يكتبونه ليجمع الإنسان بين المظهر والمخبر، وبين ما خطته يداه وبين ما غاب عن أنظار الناس وعيون الجماهير التي تتلقى الرسالة الإعلامية.
فقد تلتزم المؤسسة الإعلامية والعاملون فيها بصياغة رسالة مفعمة بالقيم ملتزمة بالمبادي العامة ولكنك قد تجد تناقضًا بين تلك المبادئ المسطورة والمنطوقة وبين مفردات وسلوك هؤلاء العاملين بعد فراغهم من أعمالهم، مما يُوَجِّهُ طعنةً للمحتوى الذي تتبنى المؤسسة الإعلامية إيصالها للجمهور مصطدمًا بحاجز المصداقية الشاملة أو المصداقية المتعدية لحدود الوسيلة الإعلامية.
- الدافعية والتحفيز: فالموارد البشرية العاملة في مجال الإعلام لديها تحفيزات متعددة إلا أن الإسلام يضفي على العاملين في المؤسسة الإعلامية مزيدًا من الشعور بالرسالة والهدف، مما يحفزه لمزيد من التجويد والبذل والعطاء والتفاعل، وليس مجرد أداء وظيفة أو مهمة تنتهي بمجرد الفراغ من ساعات العمل.
- الانضباط القيمي في إعداد المحتوى: فالإعلام قد يوفر للعاملين في مؤسساته ضمانة الالتزام بالقيم والمبادئ في المحتوى المنشور أو المذاع، والذي تطلع عليه الجماهير بينما لا يكون حاضرًا بدرجة فاعلة ومؤثرة وصارمة في مرحلة إعداد المحتوى.
فقد يتحلى الإعلامي بالأمانة والمصداقية والدقة والشفافية والتوازن في عرض المادة إلا أنه ربما يكون قد حصل على هذه المادة بطريقة غير مشروعة، وهو ما تتحرز منه المؤسسات الإعلامية التي تنضبط بالقيم الإسلامية إذ لا تفصل في الانحياز للقيم بين مرحلة إعداد المحتوى ومرحلة نشره وبين الوسائل المتبعة للحصول على المادة وبين طريقة عرضها لهذه المادة.
- التوازن النفسي للعاملين في مجال الإعلام: فقد تلتزم المؤسسة الإعلامية وكذلك منتسبيها بأداء الرسالة الإعلامية بانضباط قيميّ وأخلاقيّ، على حين لا يتحلى العاملون فيها بتوازن نفسي يحول بينهم وبين كثير من الآثار النفسية السلبية مثل تضخم الذات والاستعلاء الذي قد يصل مع الوقت إلى استعلاء على الجماهير.
- وفي ختام هذا الجزء من الحديث عن مصطلح الإعلام الإسلامي توضيحًا وتحريرًا، لا يفوتنا التأكيد على أن المؤسسة الإعلامية والعاملين فيها ينطبق عليهم مفهوم الإعلام الإسلامي- الذي ذكرنا- بقدر ما يحملون من القيم التي أسلفنا عنها الحديث، فالمؤسسة وأفرداها يقتربون من الإعلام الإسلامي بقدر قربهم من تلك القيم والمفاهيم ويبتعدون عنها بقدر ابتعادهم عن تلك القيم، ولا مجال هنا للعناوين الثابتة والمطلقة على المؤسسات الإعلامية أو العاملين فيها والتي تمنح بعضها لقب الإسلاميّ، وتحرم أخرى منه، بل إن المِحَكّ يكمن في مدى الالتزام بهذه القيم قُربًا أو بُعدًا.
.