إننا نشهد عصرًا متسارعًا في دروب التقدم الحضاري بتجلياته العلمية والتقنية والاتصالية، مما جعل القبض بقوة على مفاتيح العلم شرطًا موضوعيًا لازمًا لزيادة الرصيد من المخزون القومي المعرفي، باعتباره المعيار الحقيقي المعاصر للتقدم الحضاري.
وفى دراسة بعنوان: «المعرفة العلمية وإصلاح المنظومة التربوية المصرية»، للدكتور علي قطب حسن العبد، الأستاذ بكلية التربية- جامعة طنطا، يرى أن التربية هي جوهر الصراع الحضاري بين الأمم، ومقصدها الأصلي هو إعداد أفراد مزودين بالمعرفة العلمية التي تجعلهم يبلون بلاء حسنًا مع متغيرات العصر وتحدياته ومن هنا تأتي ضرورة الإسراع إلى إصلاح منظومتنا التربوية المصرية.
حول مفهوم المعرفة العلمية
إن العلم بمعناه اللغوي الواسع هو نقيض الجهل، وهو بهذا المعنى يشمل الخطأ والصواب والظني واليقيني والجزئي والكلي، مما يتحقق به أو يتحصل منه معرفة أيا كان موضوعها، والعلم بمعناه اللغوي الخاص يقتصر عادة على ما تبين صوابه ويقينه وسلامته، ويترتب على هذا المفهوم أن المعرفة تكون علمية، إذا قام عليها دليل، والمعرفة التي لا تقوم على دليل لا تعد علمية.
أما العلم اصطلاحا فليس ثمة اتفاق على مفهومه، والمعروف في الثقافة الغربية الحديثة هو حصر معنى العلم على ما شاع تسميته بالعلم الطبيعي أو المنهج التجريبي، أي ما يثبت أو يمكن إثباته عن طريق المنهج التجريبي.. وهو يشمل العلوم السياسية كالفيزياء والكيمياء، والعلوم التطبيقية كالطب.
والعلم بهذا المعنى الاصطلاحي الغربي يضيق عن المعرفة بالوحي المتلقى عن الله عن طريق رسله، كما يضيق عن سائر ما يعرف بالعلوم الإنسانية التي ما زالت مستعصية عن محاولات بنائها على ذات أسس ومتطلبات العلم التجريبي، كما أن العلوم الصورية وبخاصة علما الرياضيات والنطق، يتعذر إخضاعها للعلم، بينما هذه العلوم الصورية من الصعب إنكار علميتها، مما اضطر البعض من القائلين بالمفهوم الاصطلاحي الغربي إلى توسيع هذا المفهوم لعلمي الرياضيات والمنطق. وبهذا يكون المفهوم الاصطلاحي للعلم هو النشاط العقلي النظري التجريبي البشري، القابل للتغيير والتفنيد والتعديل بصورة مستمرة. وبهذا فإن المعرفة التي توصف بأنها علمية هي التي تستهدي بروح العلم وتقتفي أثر منهجه وترتكز على أسسه، وتعتمد مقولاته وتستوفي معاييره، عند الشروع في ممارسة «التفكير العلمي».
أما العلم في المفهوم الإسلامي فإنه ينطلق من قراءة ظواهر الكون من خلال الملاحظة والاختبار، وهما خاصيتا العلم المادي، استجابة لنداء القرآن لبني آدم بالنظر في الآفاق وفي الأنفس، ليدركوا أن الله وحده هو خالق هذا الكون بنظامه البديع الذي لا يتعوره نقص أو يشوبه خلل: {فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وهُوَ حَسِيرٌ} (الملك: 3-4).
وبعد هذا الإقرار بالوحدانية، تنطلق رحلة الإنسان مع العلم لتحصيل المعرفة الجزئية في الظواهر الكونية والانتفاع بها في حياته، وهذه الرحلة يتواصل تطورها عبر تاريخ البشرية؛ لأن العلم- كما بين الله تعالى- لا يبلغ أبدًا طور الاكتمال وذلك لقوله تعالى: {ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) وقوله تعالى: {وقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114) وهكذا تكون قراءة الكون العلمية من خلال قدرات الحواس والعقل للوصول إلى المعرفة الجزئية الثانوية في بطون الحقائق الكونية.
أما إذا تعلق موضوع المعرفة بالقضايا والغايات الكبرى مثل الغاية من الوجود، ومن خلق الإنسان ومصيره.. إلخ، فإن الأمر يتجاوز قدرات الحواس والعقل. من هنا تكون قيمة قراءة الوحي؛ حيث تَفَضَّلَ الله على خلقه بإرسال الرسل إليهم للإجابة عن كافة الأسئلة الوجودية الكبرى، التي تدور حول الغايات والأهداف النهائية من خلق الإنسان والأكوان جميعًا، يقول تعالى: {رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165)، وكذلك فإن قراءة الوحي ترشد الناس إلى المعارف الكلية لتنظيم شئون حياتهم الدنيوية، كي لا يضلوا طريق الهدى، ولا تشقى نفوسهم باتباع الهدى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى} (طه: 123)، وهكذا فإن المعرفة العلمية لها شقان؛ الشق الأول يرتبط بالبحث عن معرفة الحقائق الجزئية، عن طريق المنهج التجريبي. وهذه المعرفة بطبيعتها- التي خلقها الله بها- قابلة للتغيير والتطوير بصورة دائمة.
ولذلك جعل الله أدوات المعرفة مهيأة للقيام بهذه الوظيفة: {واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78)، فالفعل «تشكرون» جاء بصيغة المضارع ليدل على استمرارية الكشوف العلمية وتواترها.
أما الشق الثاني من المعرفة، فإنه يرتبط بالحقائق الكبرى الكلية التي بلغت تمام الكمال وارتضاها الله لعباده إلى قيام الساعة: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3). وهذه المعرفة الربانية التي مصدرها الوحي، هي التي توجه المعرفة البشرية إلى المنهج الصحيح في إعمار الأرض، وإشاعة الحق والعدل والخير في أرجاء المجتمعات البشرية.
أما إذا اكتفت البشرية بما أنجزته من المعرفة العلمية، وأعرضت عن المعرفة الربانية فإن الإنسان عندئذ يستخدم العلم في الطغيان في الأرض: {كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) ويزداد هذا الطغيان حتى يبلغ مداه في الإتيان على عناصر البيئة الكونية فيحل فيها الخلل والفساد: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} (الروم: 41)، وهكذا فإنه في غياب معرفة الوحي يضل البشر طريقهم في تحديد غايات استخدامهم للمعرفة العلمية التي يبدعونها فيفسدون في الأرض بدلًا من إصلاحها.
أهمية المعرفة العلمية:
1- المعرفة أداة للتواصل:
إن المجتمع الإنساني- كما قيل- ليس وليد نظمه السياسية أو الاقتصادية بقدر ما هو صنيعة نظام التواصل الفعال داخل المجتمع، وهذا يتطلب درجة عالية من الشفافية، من خلال توافر المعلومات الدقيقة والمكتملة عما هو قائم وحادث، ومن خلال استخلاص المعرفة الصافية من خضم المعلومات الحاملة لها وهذه المعرفة هي التي تحقق التواصل بين أفراد المجتمع، من خلال اتفاقهم على معاونيهم وقبولهم بحقائقها، والمشاركة في إنتاجها، وتحديد معايير الحكم على صحتها ودرجة أصالتها وبهذا يمكن إيجاد آليات للتواصل المعياري في المجتمع الواحد، كما يمكن أن يسهل هذا في التواصل الإنساني لتحقيق سبل التعاون المشترك في المجالات الاقتصادية والسياسية.
2- المعرفة أداة للتنمية:
إضافة إلى كونها أداة للتواصل، فالمعرفة أداة لكل نمو، من نمو الطفل ذهنيًا ووجدانيًا، كما أثبت لنا علم النفس المعرفي، إلى نمو المجتمع بأسره، ثقافيًا وتربويًا واقتصاديًا، وذلك بعد أن أصبحت الثقافة هي محور منظومة التنمية في مجتمع المعرفة، وأصبحت التربية مرادفة للتنمية، وأصبحت المعرفة أهم مورد حضاري، كما أصبحت وسيلة إلى تسريع حركة التنمية، حيث يمكن من خلالها استحداث بدائل مبتكرة لتعويض التخلف وحرق المراحل. ولعل هذا هو التأصيل العلمي لمقولة «المعرفة قوة» التي وسيلتها التربية، وغايتها التنمية.
3- المعرفة وحل المشكلات:
إن كثيرًا من مشكلاتنا يمكن أن تُحَلّ عندما نتعامل معها من جانب المعرفة العلمية، التي تعد سلاحًا قويًا للتغلب على اللاعلمية المتفشية في المجتمع، وكانت من أهم الأسباب في استمرار مشكلاتنا الراهنة وتفاهم آثارها واستفحال أضرارها في المستقبل.
الخصائص الرئيسة لعلم عصر المعلومات
التعقد والتفخم: ويشمل تعقد الظواهر التي يتصدى لها العلم والتعقد وسائله لحلها، أما التضخم فيشمل تضخم المادة العلمية وتسارع معدل إنتاجها، ومن ثم هلاكها، لذا لم يعد السؤال ماذا نعرف فقط؟ بل كيف نعرف؟ أيضًا.
العلوم البيئية: وهي التي نشأت نتيجة تداخل الفروع المعرفية المختلفة وظهور مجالات علمية (ميتا معرفية) قادرة على اختراق الحواجز الفاصلة بين أجناس المعرفة العلمية ومن هنا تأتي أهمية الجشتالت المعرفي الذي يمكن من خلاله رؤية العالم من زوايا مختلفة لمواجهة الإشكالات التي يواجهها عالم اليوم، وهذا يتطلب اتخاذ موقف وسط بين عمق التخصص رأسيا وشمولية النظرة أفقيًا.
المؤالفة بين الأضداد: يتسم عصر المعلومات بقدرته على المؤالفة بين ثنائيات الأضداد التي وقفت حجر عثرة أمام عالم ما قبل عصر المعلومات، ومن أمثلة هذه الثنائيات: ثنائية المادي واللامادي، وثنائية العضوي واللاعضوي وثنائية الميكرو والماكرو.
علاقة العلم بخارجه: فمع تعاظم الدور المجتمعي للعلم تنوعت وتعقدت علاقاته بخارجه على أصعدة السياسة والاقتصاد والأخلاق، ومن العلاقات العلمية الحاكمة، وكذلك علاقة العلم بالتكنولوجيا فقد أصبحت العلاقة بينهما ذات طابع تبادلي حاد، وكاد الوضع أن ينقلب لتصبح التكنولوجيا هي محرك البحث العلمي ليسود الشعار: التكنولوجيا تطلب والعلم يلبي.
المعرفة العلمية والمعرفة القيمية
إنه برغم الإمكانات الهائلة التي حققها العلم وما ترتب عليه من معارف وتطبيقات تقنية- أسهمت لدى حائزيها في الارتفاع بمتوسط دخل الفرد فيها، إلا إن ذلك كان على حساب فقدان الإحساس بالأمان فيما يشبه موجة من الدوافع النفسية المتدنية الآخذة في الاستفحال، وتعبر عنها العديد من صور الانفعال الأخرق، وحالات اليأس والقلق في أوساط الأسر والمجتمعات، واعتياد العنف بين الأطفال والمراهقين والكبار وحتى بين الأزواج.
كما أن المعرفة العلمية أصبحت شأنًا نخبويًا، حيث تقوم به نخبة أصحاب العقول لمصلحة نخبة أخرى من أصحاب السلطة والمال، وأقصيت الأغلبية العظمى من المشاركة في إنتاج المعرفة، فمات الملايين جوعًا برغم وفرة وسائل إنتاج الغذاء، وكل ما أنجز في مجال تكنولوجيا الطب وصناعة الدواء.
وهكذا ضلت المعرفة العلمية طريقها في تحديد غايات استخدامها، مما جعل العلماء الحكماء الغربيين يقولون إنه بسبب العالم الجديد الذي صنعناه تصبح طبيعة الأحكام الكونية العلمية الأخلاقية أمور حتمية غير مسبوقة.
لذلك فنحن في حاجة إلى نموذج جديد للحياة يسوده نظام يقوم على التضامن بين أعضاء الأسر البشرية والشعوب، عوضًا على النظام الحالي، لضبط الآثار السلبية لتطبيقات العلم، كي تكون المعرفة العلمية في خدمة البناء والتعمير.
الأسس العلمية لتربية مجتمع المعرفة والنظام التعليمي المصري
- من التعلم إلى التعلم مدى الحياة
لقد أمسى شعار «التعليم من المهد إلى اللحد» توجهًا أساسيًا تفرضه مطالب الحياة في مجتمع المعرفة. فقد ولى إلى الأبد عصر التعليم المغلق والمنغلق، المحدود مكانًا بالمدرسة، والمحدود نطاقًا في مجالات التخصص الضيقة، ليحل محل التعليم مدى الحياة، حيث يمتزج التعليم والتعلم في أثناء العمل والتعلم في أوقات الفراغ، وتصبح الرغبة في التعلم متجددة يصعب إشباعها.
وبينما كانت الدراسة الجامعية بمثابة مرحلة التعليم النهائية، أصبحت الآن بداية لرحلة تعلم امتداد الحياة. وكثر الحديث عن الجامعات المفتوحة، وجامعات الهواء الطلق، وجامعات بلا جدران، ومدارس بلا أسوار، وجامعات شعبية، وجامعات عمالية وصناعية، ومراكز المعرفة الريفية. ففي عصر المعرفة الذي يزخر بتعدد الوسائل والإمكانات لاستكمال المعرفة والارتفاع بمستواها وجعلها مسايرة للتقدم المتواصل- يصبح التعليم المستمر حقًا لكل فرد، في أي سن وفي أي ظروف.
والواقع التعليمي المصري يقول إن التعليم في المدارس المصرية تعتمد على أسلوب التلقين والمشافهة؛ والمعلم هنا يقوم بالدور الأكبر في الإلقاء والشرح، مع الاعتماد الكامل على الكتاب المدرسي، دون التوجه إلى مصادر تعليمية أخرى. أما المتعلم فموقفه سلبي في معظم الأحيان، ويلتزم بالإصغاء، ثم الحفظ والتردد والاسترجاع، ولا يقوم المتعلم هنا بدوره الإيجابي في عملية التعلم، حيث إنه منذ أولى درجات السلم التعليمي حتى نهايته، لا يفعل أكثر من الجلوس، وتلقي ما يُلقى إليه من معلمه.
كما أن تقويم التلاميذ في المدارس المصرية، لا يزال يركز على جانب واحد فقط من جوانب العملية التعليمية، وهو جانب المادة الدراسية، مع التركيز على رتبتها الدنيا وهي رتبة الذاكرة وما يرتبط بها من حفظ واستظهار. وهكذا اختصرت جوانب التقويم الكلية مع العملية التعليمية في تقويم التلميذ بوسيلة خاصة، وهي الامتحانات المدرسية وبهذا قلت الدافعية نحو التعلم الذاتي، وضعفت الرغبة في المعرفة وقد أدى استمرار هذا الوضع إلى انحسار نصيبنا من المعرفة، حيث يقرأ ثمانون شخصًا في العالم العربي كتابًا في العام، بينما يقرأ كل فرد في الدول التي تقدمت ما لا يقل عن عشرين كتابًا في العالم.
إصلاح المنظومة التربوية المصرية
ويتم ذلك من خلال الخطوات الثلاث الآتية:
الخطوة الأولى: استخدام أسلوب الإثارة والتشوق في التدريس، لأن ذلك يوقظ لدى المتعلمين ميلهم الفطري إلى حب الاستطلاع الذي يحفز بدوره على الرغبة في التعلم، وهذا يتطلب في المعلم أن يمتلك ناصية مادة الدراسة، فضلًا عن طرق التدريس، فعندئذ تصبح الموضوعات العلمية حية حيوية وآسرة للاهتمام، فينتقل هذا الاهتمام والحب للعلم لدى المتعلمين، بدلًا من أن تحول تلك الموضوعات إلى ممارسة جافة تعتمد على الاستظهار عن طريق التكرار من دون فهم.
الخطوة الثانية: التمحور حول المتعلم: وذلك بعد أن أصبحت القدرة على مواصلة التعلم ذاتيًا، لا التعليم، هو أساس تربية عصر المعلومات. وتعني محورية المتعلم هنا التركيز على احتياجات المتعلم، وإضفاء الطابع الفردي الشخصي على عملية التعليم، لأن كل متعلم يختلف عن الآخرين بسبب التركيبات الجينية، ومؤثرات الخلقية، والتفضيلات القيمية؛ ومن ثم: لكل فرد مستويات مختلفة من تعقد؛ كالقدرة على التعرف إلى التلميحات وفهمها؛ فبعض المتعلمين يتعرفون بسهولة إلى التلميحات والأشكال المعقدة، بينما لا يتمكن آخرون من ذلك في مواقف متشابهة، وبعض الأفراد يجيدون في استخدام الرموز، ويفضل بعضهم تمثيل الأشياء بالرسوم والصور، بينما يفضل غيرهم الحقائق المحددة، وبعض المتعلمين يصلون إلى الاستنباطات بيسر بناء على مجموعة من الحقائق، بينما لا يستطيع آخرون ذلك كليًا.
وبناء على ذلك يمكن اختيار مجموعات الطلاب وفقًا لمقارنة تعقد مستوى الإدراك لديهم، لكي يتم وضعهم في صفوف خاصة، كي يتمكن المعلم بعد ذلك من التركيز على استخدام المادة التي تلائم أسلوب الطالب المفضل في التعليم بحيث يجد كل طالب الجو الملائم لنموه واستغلال طاقاته الإبداعية على أوسع نطاق إلى الحد الذي تصل إليه طموحاته الشخصية وهذا النظام يتطلب أن يتمتع المعلم بمزيد من الحرية في اختيار مادة الدراسة، وأسلوب تقديمها وعرضها، وكذلك في تقويم أداء طلابه على النحو التالي:
- هدف التعليم: أي التغيرات السلوكية المتوقعة في نهاية عملية التدريس لكل مجموعة.
- محتوى التعليم: تحديد المعلومات والمعارف اللازمة لتحقيق الأهداف.
- أسلوب التعليم: وهو ما يتعلق باختيار الأسلوب وكيفيته الذي يناسب كل مجموعة.
- نتائج التعليم: وهو المعيار التقويمي الذي يجعلنا نتعرف إلى نتائج عمليات التدريس.
والتعلم، ومدى إسهامها في تحقيق الأهداف وتغير سلوك كل متعلم.
الخطوة الثالثة: استحداث آليات جديدة لزيادة فرص التعلم:
الآلية الأولى: دعم العملية التعليمية داخل المدارس والجامعات العربية، والانتقال بعملية التعليم من طور التعليم المعتمد على الورق وبعض الوسائل التعليمية التقليدية إلى التعلم التفاعلي المعتمد على الوسائط المتعددة والحاسبات داخل قاعات الدرس والمعامل، بحيث يتفاعل الطالب مع المادة العلمية عبر الحاسب بدلا من أن يخضع له، وأن يجعله ملائما لعاداته وثقافته، وهذا الأسلوب يسهل عمليات التعليم، ويساعد في إيجابية المتعلم، وهذا الأسلوب يسهل عمليات التعليم، ويساعد في إيجابية المتعلم، بحيث يصبح قادرًا على التعلم الذاتي.
الآلية الثانية: إتاحة التعليم والتعلم المستمر بشكل مفتوح لمختلف فئات المواطنين، خاصة لدى البالغين وكبار السن ممن لم يحصلوا على التعليم الأساسي بصورة كاملة؛ حيث إن التعليم في مجتمع المعرفة حق مكفول لكل الأفراد مدى الحياة، ومن المهد إلى اللحد.
الآلية الثالثة: التوسع في عمليات التعليم الإلكتروني عن بعد عبر الإنترنت سواء للجمهور العام أو للطلاب الدارسين في مؤسسات التعليم المختلفة حيث تأتي إليهم المعرفة طائعة إذا كانت أحوالهم تحول دون الذهاب إلى مؤسساتها الرسمية. ولقد أشارت نتائج المسح الذي أجرى على مواقع التعليم الإلكتروني العربية إلى أن التعليم الإلكتروني العربي واجه قصورًا واضحًا على مستوى الكم والكيف، فهو غير منتشر أفقيًا ولا يعتمد آلية ذات حضور مناسب لدى مؤسسات التعليم العربية والجهات القائمة عليها، وفي المقابل فإن محدودية الموارد وانتشار الأمية في الكثير من أجزاء الوطن العربي يفرضان التوسع في مسار التعليم والتعلم الإلكتروني، لا سيما أن ما تم تشييده ونشره من بنية أساسية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، يسمح بمزيد من التوسع في مشروعات التعليم الإلكتروني عما هو عليه الآن.
- من معرفة الماهية إلى معرفة الكيفية
في عصر المعلومات الذي يزخر بتضخيم المادة العلمية وتسارع معدل إنتاجها انتقل تركيز التعليم من (ماذا نعرف؟) إلى (كيف نعرف؟). إذ أصبحت أولويات للكيفية التي نحصل بها على المعرفة، وكيفية إتقان أدوات التعامل معها، لا ماذا تتضمنه هذه المعرفة من معلومات ومهارات وخبرات. إن التعليم في عصر المعلومات هو أن نعلم الفرد كيف يتعلم ذاتيًا، والثقافة في عصر المعلومات هي فن ممارسة الحياة في ظل بدائل هذا العصر العديدة ومتغيراته الهادرة. وجميع هذه الأمور- بلا استثناء- تتطلب تغييرًا جذريًا في علاقة الإنسان بالمعرفة في دورتها الكاملة: إلمامًا واستيعابًا وتوظيفًا وإنتاجًا.
وواقع التعليم المصري يقول إن المقررات الدراسية في المدارس المصرية فضلًا عن أنها تتسم بعدم تفريد التعليم، وصبه على قوالب جامدة، فهي كذلك تزدحم بالعديد من المعلومات والتفاصيل التي تؤدي إلى حشو الذهن بالمعلومات، مما لا يتيح الفرصة أمام التلاميذ للانطلاق في التفكير والتحليل والوصول إلى النتائج بأنفسهم. وتتوقف دورة اكتسابنا للمعرفة- عادة- عند حدود الإلمام بها من دون توظيف لها؛ وهو الأمر الذي يجعلها عرضة للضياع والتبدد ويشكو معظم طلابنا من نقص شديد في مهارات البحث عن المعرفة، وطرق تمثيلها منهجيا من جهة، ومن عرضها وتسويقها من جهة أخرى، كذلك فإن مدارسنا تركز على المناهج المعياري والاختبارات المعيارية، وهذا يعوق في الحقيقة العلمية التعليمية؛ لأنها تفترض أن التلاميذ بحاجة إلى يتعلموا مجموعة من الحقائق، حتى يصبحوا متعلمين ناجحين.
ولإصلاح هذه الأوضاع يجب اتباع أساليب جديدة لتنمية مهارات التفكير لدى الطلاب يمكن من خلالها إحداث التغيير الجذري في علاقتهم بالمعرفة في دورتها الكاملة
ففي المرحلة الأولى: يتم فيها تقديم المعارف العلمية الأولية المراد تعلمها في عصر مجتمع المعرفة.
والمرحلة الثانية: تتمثل في تأكيد فهم الأفكار والمفهومات الأساسية، وليس مجرد تذكرة المادة العلمية، وهذا الفهم يعتمد على الطريقة التي يتم بها عرض المادة وتفسيرها مثل استخدام الرسوم التوضيحية والشفافيات لاستيعاب الطالب معنى ما يتم تعلمه من معارف علمية.
والمرحلة الثالثة: تتمثل في معرفة أين وكيف سيستخدم الطالب ما تم استيعابه من معرفة الحقائق العلمية.
أما المرحلة الرابعة: فإن المعلم يقوم بتقديم أسئلة توجيهية لتحفيز الطلاب على التفكير بدلًا من إعطاء إجابات محددة وذلك لمساعدتهم في التوصل إلى استنباطات منطقية والتدريب على التفكير من خلال الربط بين المعلومات ذات العلاقة.
ومعيار النجاح في هذا التدريب هنا هو القدرة على البناء على المعرفة السابقة، وتوليد أفكار جديدة مبتكرة
ولكي يتمكن المعلم المصري من تنمية مهارات التفكير لدى طلابه، لا بد أن يكون هو نفسه مالكًا لها وملمُا بأساسيات نظرية المعرفة وفلسفتها، وتاريخ تطور الفكر الإنساني وتحدياته الراهنة.
- من المعرفة اللفظية إلى المعرفة الإبداعية
ففي عالم متزايد التعقد وغير منتظم، تزداد الحاجة إلى (التفكير الإبداعي) لاتخاذ مسالك وطرق جديدة للتكيف مع المشكلات التي توجه المجتمعات، فقد ولى عصر البساطة إلى الأبد، وأصبح لا مناص من مواجهة التعقيد وجهًا لوجه، ولا مكان هنا للنظريات العلمية الشاملة والصروح الفلسفية الشامخة.. فالتعقد سيظل قائمًا بيننا، وعلى العقل الإنساني أن يستأنس رفقته الدائمة، وأن يداوم على تجديد أدوات صناعته للمعرفة من أجل التصدي له.
والواقع التعليمي المصري يقول إن المعرفة اللفظية المجردة تهيمن على الآليات التعليمية في مدارسنا المصرية فتجر الطلاب إلى (التفكير المنوالي) الذي يصنع عقولهم على شاكلة واحدة، من خلال الإذعان لمجموعة من الحقائق المعرفية التي لا يجوز الخروج عليها، فضلًا عن ذلك فإن المعرفة اللفظية لا تتعامل مع الواقع الذي يعيشه الطلاب، فيكتفون بمعرفته من الكلمات، لذلك فإنها تحول الموضوعات الحية والحيوية والأسرة للاهتمام إلى ممارسة جافة تعتمد على الاستظهار عن طريق التكرار من دون فهم، فلا غرو عندئذ أن يسيطر على عقول الطلاب التفكير الاختزالي الذي يتوقف عند إدراك العوامل الخارجية للظواهر والمشكلات، فيغدو عاجزًا عن التعمق في المعرفة أبعادها وعلاقاتها المختلفة. ومن هنا تأتي ضرورة تطبيق الإبداع في التعليم المصري من خلال الأساليب الآتية:
- لما كانت جذور التعليم الإبداعي تمتد إلى حب الاستطلاع والقدرة على التعجب؛ لذا يجب أن تكون البيئة التعليمية جاذبة للأطفال، وأن تدخل عليهم السرور، وتجعل المعلم يصل إلى مرحلة التدفق والاستمتاع بتعامله معهم من خلال التركيز على عناصر الدهشة والتعجب وحب الاستطلاع، لما يتولد عن ذلك من شوق للنمو وتفتح لآفاق الوعي.
- فتح الطريق إلى تنمية الخيال- الذي هو أساس العلم- لدى الأطفال، لأن الخيال- من حيث كونه نشاطًا نفسيًا- تحدث خلاله عمليات تركيب ودمج بين مكونات الذاكرة والإدراك، وبين الصورة العقلية التي تشكلت، من قبل من خلال الخبرات الماضية؛ فتكون نواتج وأشكالًا عقلية جديدة. وبهذا فإنه بتنمية الخيال لدى الأطفال يمكن تجاوز القيود والتنميط والجمود، واقتحام الحلول غير المطروقة، حيث يجدون متعتهم في البحث عن أصل الأشياء.
- اتخاذ مسالك أكثر إبداعا في التعليم والتعلم والتدريب مثل التعليم العلمي الذي ينغمس في كل طالب في دائرة كاملة من صياغة الفرضيات، واختبارها من خلال التجربة، حيث يتم تعزيزها أو تعديلها، بناء على ما تسفر عنه نتائجها.
- إيقاظ الرغبة في التعلم لدى الأطفال، عن طريق حفزهم على أن يكونوا منفتحين، ويبادرون بالتساؤل حول ما يقدم لهم من المعلومات، وتشجيعهم على تقديم الأفكار الجديدة والجريئة.
- الاستفادة من تحول تركيز المؤسسات التعليمية المتقدمة من اجتياز الامتحانات إلى توفير الخبرات التي تقوم على إعمال الذهن، وتشجع الاستفسار والاكتشاف والتساؤل وتجريب الطرق الجديدة ومن ذلك إتاحة الفرص للطلاب للقيام برحلات ميدانية، ومن المشي في الطبيعة، إلى زيادة أنشطة الأعمال المحلية، وتشجيعهم على تفسير ما يرونه، وعلى صياغة الفرضيات بناء على ملحوظاتهم واختبارها.
- ضرورة ترسيخ النهج المنظومي في مدارسنا، لتدريب الطلاب على رؤية الجوانب المختلفة للإشكاليات، وعناصر الحلول المقترحة لها. ولكي يتمكن المعلم من تنمية هذه المهارات لدى طلابه لا بد أن يتنوع في استخدامه الأنشطة المتعلقة بالتدريس؛ كالتقديم والتمهيد، والوصف والمقارنة، والدفاع عن فكرة معينة، وإثارة الشك والتساؤل، ثم التفصيل والمطالبة والاستقصاء ومن خلال هذه الأنشطة يكتسب الطلاب مهارات عقلية تساعدهم في التفكير والابتكار، ويتعلمون كيف يتناقلون ما تعلمون من معارف، وكيف يستخدمونها في مواقف حياتهم المختلفة.
وفي هذا السياق يمكن للإعلام المصري أن ينهض بمسؤليته في التثقيف العلمي للجماهير عن طريق ما يلي:
- التبسيط العلمي لجذب الجماهير إلى العلم، وتكوين اتجاه إيجابي نحوه.
- إلقاء الضوء على تجارب العلماء والخبراء العرب في المجالات العلمية والتقنية، لتحريك دوافع الجماهير لإيقاظ ميولهم الفطرية نحو المعرفة.
- ربط العلم بحياة الفرد والمجتمع، من خلال إبراز الإسهام المعرفي في الارتقاء بحياة الفرد، ومعالجة مشكلات المجتمع، وكذلك من خلال إبراز الجوانب السلبية في حياة الأفراد وفي المجتمع نتيجة لعدم اتباع أساليب العلم.
- التصدي لمظاهر اللاعلمية و أدعياء العلم الذين يقدمون الخرافة لضحاياهم في مواجهة المشكلات أو الظواهر التي يتعرضون لها، وكذلك التصدي لمظاهر التغييب العقلي التي يعكسها المشهد الإعلامي فيما يقدمه من الفنون الاستهلاكية بصورها المتعددة، لتحقيق المصالح المادية لصناعها؛ لأن استمرار هذه المظاهر يشكل خطورة داهمة على العقلية المصرية وتصرفها عن التفكير العلمي في فهم المشكلات أو الظواهر وتحليلها وتفسيرها، وهذا يجر المجتمع إلى التخلف الحضاري في المجتمع المعرفة؛ لذا وجب التصدي لمنع وقوع هذه الحالة، وذلك بتوعية الجماهير و ترغيبهم في مناقشة قضايا مجتمعهم مناقشة علمية وتفعيل ذاتيتهم الثقافية في إطار ما يحيط بهم من ظواهر عالمية.
- الاستعانة بتكنولوجيا المحاكاة والوسائط المتعددة وتكنولوجيا الواقع الخائلي إسهام في (ديموقراطية التعقيد المعرفي) حيث أن هذه الأساليب ستمكن الإنسان العادي من أن ينفذ، ببصره وبصريته، إلى ما يجري داخل نواة الذرة، ويشاهد العمليات الكيميائية التي تحدث داخل الخلايا، ويتتبع مثار الإشارات الكهربية التي تسري خلال الجهاز العصبي، وأن يرنو ببصره على أعلى ليراقب الأجرام في أفلاكها، ويلاحظ من حوله كيف تتغير البيئة، وتتولد الأعاصير، وتنشأ الزلازل. وبهذا فإن تكنولوجيا الواقع الخائلي تعد هي لغة تواصل جديدة، لغة أكثر قدرة من كل اللغات على توصيل الحقائق وزرع المفاهيم الصحيحة وإزالة المفاهيم الخاطئة، وهي وسيلتنا القائمة للتخلص من السطحية وممارسة متعة التعامل المباشر مع التعقد، الذي هو حق للجميع.
- من التعليم الفردي إلى التعليم التكافلي
من أجل التوصل إلى المجتمع الإنساني الذي ينادي به العلماء الحكماء؛ لمواجهة صراع القوى المعرفية والتقنية، ووقف محاولات العولمة من أجل التجنيس الثقافي وإلغاء الثقافات القومية. فإن هذا يتطلب من تربية عصر المعلومات عدم الاكتفاء بالمعرفة إلى الاهتمام بتنمية مهارات القيادة وإدارة المشروعات والمشاركة في الموارد، وتبادل الآراء والخبرات، وكيفية خلق التوازن بين نزعة التنافس وتنمية روح التعاون.
والواقع يقول إن نظامنا التعليمي في إطار متطلبات المعرفة التكافلية السابقة، يواجه العديد من التحديات التي يجب التوقف عندها ثم اتخاذ الحلول التربوية العاجلة والآجلة، لهذه التحديات، باعتبار أن التربية هي القاعدة التي يقوم عليها كل مجتمع منظم، وليس من الممكن قيام بناء ثقافي بغير بنية ملائمة توافرها العملية التعليمية من أجل التفاعل الإيجابي الحر في عصر القوة المعرفية، والتنمية البشرية، والتنافسية الاقتصادية.
وهناك تحديات لتجاوز هذه العقبة:
1- تحدي ضمور مهارات التواصل اللغوي
يشكو معظم الطلاب في نظامنا التعليمي من ضمور مهارات التواصل اللغوي؛ وذلك نتيجة لآفة التلقي السلبي داخل مؤسستنا التعليمية، فضلًا عما يتعرضون له من زحف (ثقافة الصورة) على عقولهم، وانقضاء زمن (ثقافة الكلمة) القائمة على اللغة. وهذا التحدي يقف عقبة أمام تنمية عمل الطلاب بروح الفريق، التي تعد الوحدة الأولية في بنية التفاوض الثقافي، والحوار الدولي، وإبرام الثقافات المتوازنة.. وهذا يحتاج من نظامنا التعليمي إلى تغيير جوهري في تطوير تعليم اللغات بصفة عامة، واللغة العربية بصفة خاصة، لأن اللغة- من خلال المعرفة- هي التي تحقق التواصل بين أفراد المجتمع من خلال اتفاقهم على معانيها، والوعي بحقائقها، والمشاركة في إنتاجها، وتحديد معايير الحكم على صحتها ودرجة أصالتها.
2- تحدي ضعف القدرات القيادية
إن ضعف القدرات القيادية لدينا يتردد بين الإدارة المتسلطة، والإدارة التي تتوقف مسئوليتها عند النواحي التنظيمية. ولا شك أننا في ظل الفكر التربوي الجديد- الذي يضع في اعتباره متطلبات العولمة- أحوج ما نكون إلى القيادات التربوية الرشيدة القادرة على الإبداع والضبط والتوجيه في إطار من الإيمان بقيمة المهنة، والالتزام بأداء الأدوار.
لهذا فإن هناك حاجة إلى تطوير النظرة إلى القيادات التربوية على جميع المستويات، لأنه بقدر ما تكون سلامة القرارات التربوية تكون كفاءة العلمية التربوية. وكذلك لا بد من نظرة جديدة إلى مدير المدرسة بحيث لا يقتصر دوره على النواحي التنظيمية والإدارية، بل يمتد ليشمل تطوير نموه المهني والعلمي والثقافي ليسهم بفاعلية أكثر في تحقيق الأهداف التربوية المنشودة، من خلال كونه قيادة تربوية مقيمة، وبالتالي فهو مطالب بالمتابعة والتأكيد من كفاءة العملية التدريسية، واستمرار عملية التقويم، واستخدام مصادر التعلم؛ وتظهر قدرته على الرؤية التحليلية للفرص التعليمية والتربوية، وإلهامه المعلمين، حيث يكون ذا حيوية لافتة للنظر، ويظهر شجاعة عظيمة في أوقات الأزمات، ولديه القدرة على نقل الثقة والعزم للآخرين؛ من المعلمين والإداريين والمتعلمين، في الوقت الذي يحافظ فيه على روح المرح التي تؤدي إلى جودة العملية التعليمية والتربوية.
3- تحدي قلة فرص التعليم التنافسي
يعتمد النجاح الاقتصادي بشكل متزايد على الاستغلال الفعال للأصول غير الملموسة مثل: المعرفة والمهارات والقدرات الإبداعية، باعتبارها موردًا أساسيًا للمزايا التنافسية. ويعد التعليم هو الأساس المتين الذي تقوم عليه هذه التنافسية لذلك يترجم الطلب على القوى العاملة ذات المهارات العالية إلى زيادة الطلب على العمالة الأكثر تعليميًا، القدرة على التعامل برونة مع المشكلات المعقدة والتواصل بشكل فعال، وإدارة المعلومات، والعمل بروح الفريق، وإنتاج معارف جديدة؛ لذلك من المهم بث تلك المهارات في المنظومة التعليمية برمتها بدءًا من التعليم الابتدائي.
وبالتمعن في نظامنا التعليمي نجد قلة فرص التنافسية، ويشهد على ذلك ضعف إنجازات التعليم العالي لدينا، وقصور الصناعات التنافسية عن استيعاب العرض الزائد من الخريجين والعمالة الماهرة. وثمة عقبة أخرى وهي التفضيل الشديد للتعليم الذي يعد لوظائف إدارية، حيث نجد أن حوالي 64% من الطلاب المقيدين في الجامعات المصرية في العام الدراسي 2007-2008، كانوا مقيدين في الدراسات الاجتماعية (التجارة والحقوق والآداب والتربية).
أما الطلاب المقيدين في الهندسة والطب والصيدلة والعلوم، فكان عددهم محدودًا بالنسبة لإجمالي عدد الطلاب، حيث كانوا يمثلون 17.6% من الطلاب المقيدين ويصدق نفس الشيء على خريجي العلوم التطبيقية الذين يمثلون 15.2% من النسبة المئوية الإجمالية للخريجين، ولا غرابة في هذا السياق، أن تعتمد مصر اعتمادًا شديدًا في مشروعات التنمية على الخبرات الأجنبية، بل يمكن أن نذهب إلى القول أيضًا أن القدرة صناعة الخدمات والصناعات التمويلية على النمو والتطور باستخدام الشهادات التي تمنحها معاهد التعليم العالي هي القدرة محدودة.
ولمواجهة هذه العقبات في نظامنا التربوي لا بد من تبني سياسة تعليمية تقوم على الموجهات التالية:
- الاهتمام بتدريس العلوم الطبيعية والتطبيقية، وتوفير أجهزتها المعملية.
- الانتقال من تعليم الطلاب باستخدام المحاضرات التي تغطي قائمة طويلة من الحقائق دون أن تجعلهم قادرين على التفكير، إلى استخدام التعليم العملي الذي يقود إلى فهم أفضل للمبادئ الأساسية في العلوم والرياضيات.
- ربط المسافات العلمية التي يدرسها الطلاب بالعالم الحقيقي الذي يحيط بهم وبالمسائل البيئية؛ من أجل فهم حياتهم اليومية.
التوازن بين المعرفة العقلية والمعرفة الأخلاقية
برغم ما أنجزه العلم من تحقيق نهضة علمية وتقنية هائلة، إلا إننا لا يجب أن نقع في خطأ التقديس الأعمى للعلم، ولا بد أن نكون على معرفة عميقة بأن العلم الذي يطبق على هامش الأخلاق يمكن أن يتحول إلى شر أكثر مما ينفع فهناك أشياء كثيرة ممكنة التحقيق، ولكنها مرفوضة من وجهة النظر الخلقية. لهذا فإن التربية يجب أن تضع في طليعة أهدافها الارتقاء بالكائن البشري من الناحية المادية والروحية والخلقية، وطبقًا لهذا المفهوم فإن المجتمع والاقتصاد لا بد أن يكونا في خدمة الإنسان، لا أن يكون الإنسان في خدمتهما. وفي هذا السياق فإن الإنسان المعاصر يواجه تحديين مهمين، وهما: ما الذي عليه أن يفعل؟ والأهم من ذلك، ما الذي عليه ألا يفعل؟
وذلك بعد ما أصبح أطفال الجيل الحالي ومراهقوه أكثر اضطرابًا وأضعف قدرة في السيطرة على الانفعالات، بسبب غياب المعنى الذي ينظم لهم حياتهم؛ لذلك ففي عصر مجتمع المعرفة ثم اكتشاف مفهوم الذكاء العاطفي أو الذكاء الأخلاقي لتحقيق النجاح في الحياة التي تغيرت معالمها الاجتماعية والثقافية والسياسية وترتب على ذلك أن أصبح معامل الذكاء العقلي للإنسان يسهم فقط في 20% من العوامل التي تحدد النجاح في الحياة، و80% تسهم فيه العوامل ترفع من كفاءة الحالة الإدراكية في أثناء العملية التعليمية.
وواقع نظام التعليم المصري يكشف أنه قد ازدادت في نظامنا التعليمي مظاهر العنف المدرسي التي أخذت أشكالًا خطيرة ومؤسفة تعكس افتقاد القدرة على ضبط النفس، والوقوع في أسر الانفعالات الجامحة، فأصبحوا أكثر غضبًا، وأكثر عدوانية، وأكثر ميلًا إلى الوحدة والاكتئاب؛ ومن ثم فقدوا القدرة على بذل الجهد العقلي اللازم في تحصيل العلم، مما جعلهم يلجؤون إلى الدروس الخصوصية، لتساعدهم في النجاح المستعار.
ولمواجهة هذه المخاطر التي تتهدد المعرفة العقلية والمعرفة الخلقية معًا، ومن أجل استعادة التوازن بينهما فإن نظام التعليم المصري عليه السعي إلى تحقيق الإصلاحات التالية:
- تأكيد وعي الطلاب برسالتهم في الحياة، حيث خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض وسلحه بأدوات المعرفة، وسخر له ما في السماوات والأرض، ثم دعاه للسعي في الأرض واستثمارها وتعميرها: {وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ} (إبراهيم: 33) {وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ} (الجاثية: 12) {واللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا} (نوح: 19-20). إن هذا النسق العقائدي في صلة الإنسان بالكون: وحدة ورفعة وتسخيرًا ينطوي على عناية إلهية بالإنسان تتمثل في إعداده ليتعامل مع الكون من شأن الإيمان بها أن ينشئ في النفس الشعور بالقرابة من الكون والوفاق معه، ويدفع بمشاعر الخوف منه والعداء له، وهو المناخ الضروري لانطلاق القدرات الإنسانية وإقبالها على الكون لتباشره بالفعل والاستثمار، وليس من معطل لتلك القدرات مثل التوتر والخوف وهذا ما يدفع بقوى الإنسان إلى منطقة الفعالية والتأثير.
- الاهتمام بدراسة السيرة الخلقية للرسول التي امتدحها المولي عز وجل بقوله تعالى: {وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) وكذلك دراسة سير الأنبياء والمرسلين، ثم سير الصحابة الميامين، فإن هذه الدراسة من شأنها أن تؤدي إلى تعميق الانتماء والولاء للمنظومة الأخلاقية الدينية، والاعتداد بمقاييسها ونقاطها المرجعية، ولسنا أقل من اليابانيين في ذلك حيث جعلوا التعليم يغرس في نفوس وعقول طلابهم الولاء والانتماء، واعتبار ذلك دافعًا إلى النهضة والتقدم الحضاري. إن الانتماء إلى المنظومة الدينية يجعل الطلاب يشعرون بالسكينة والطمأنينة ويبعث في نفوسهم الأنس بمعيته وهذا يبعد عنهم الإحساس بالاغتراب والوحدة: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل 128). وكذلك فإن الطلاب يعرفون طبيعة التصرفات المتوقعة منهم: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) وكبح الميل إلى التصرف الخطأ: {والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران 134).
- تضمين التعليم العاطفي في المقررات الدراسية:
وهنا يمكن الاستفادة من نظريات الذكاء العاطفي التي يمكن أن يعتمد عليها الطفل لتقبل المدرسة، وتساعده في كيفية التعلم، والتي من عناصرها:
- الثقة: الإحساس بالسيطرة على الجسد والتعامل معه والتمكن من التصرف والتعامل مع العالم المحيط، وأن يشعر الطفل بأنه- على الأرجح- سوف ينجح فيما يعهد إليه.
- حب الاستطلاع: الإحساس بأن اكتشاف الأشياء أمر إيجابي يملأ النفس بالسرور.
- الإصرار: الرغبة والقدرة على أن ينمو، وعلى أن يفعل ذلك بإصرار ودأب، وهذه القدرة ترتبط بالشعور بالكفاءة والفعالية.
- السيطرة على النفس: القدرة على تغيير الأفعال والتحكم فيها بطرق تتناسب مع المرحلة السنية، والإحساس بأن هذا الانضباط نابع من داخله.
- القدرة على التواصل: الرغبة والقدرة على التبادل الشفوي للأفكار، والمشاعر، والمفاهيم مع الغير، وهذا مرتبط مع الثقة بالآخرين، والاستمتاع بالارتباط بهم، بمن في ذلك البالغون
- التعاون: القدرة على عمل توازن في نشاط الجماعة، بين الاحتياجات الشخصية، واحتياجات الغير.
.