تعد التنمية الشغل الشاغل للإنسان في مختلف مناحي حياته، كونها عملية شاملة متكاملة تشمل جميع أوجه النشاط الإنساني، اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، تتفاعل فيها عمليات النمو مع معطيات التغيير ومتطلباته، كون التنمية بناء للقدرة الذاتية في استخدام الطاقة البشرية بهدف تعزيز الإنتاجية وزيادتها في أوجه النشاط الإنساني الفردي، والجمعي، اقتصاديًا، واجتماعيًا، وثقافيًا.
وفى دراسة بعنوان: «الدور التربوي في تنمية المجتمع»، للدكتور عمر محمد عبد الله الخرابشة، الأستاذ بجامعة البلقاء التطبيقية - الأردن، يرى أن التربية والتنمية يتفقان فى أن محورهما الأساس هو الإنسان، وعليه ينظر للتربية على أنها عملية تنموية، وللتنمية على أنها عملية تربوية، وهذا يدل على الترابط العضوي فيما بينهما، فمخرجات التنمية من تغير ثقافي، واجتماعي، في تركيبة المجتمع سياسيًا، واقتصاديًا، يتأثر فيه الإنسان سلبًا أو إيجابًا، فينظر للتعليم على أنه ضرورة حياتية للمحافظة على الثقافة، ونقلها بين الأجيال، وأنه أداة للتماسك القومي، والاجتماعي، ويسهم في المساعدة على الابتكار، والتفكير الخلاق، كما ساهم التعليم في تغيير كثير من الاتجاهات، والعادات التي ارتبطت بها الشعوب والمجتمعات.
الدور التربوى للتنمية
وقد تزايد مع الزمن الاهتمام بالدور التربوي في تنمية المجتمعات، بوصفها العامل الفعال، والحاسم في التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، فأجرى الباحثون عددًا من الدراسات، والأبحاث التي تبحث في الدور التربوي في تنمية المجتمعات، ودور العامل البشري في ذلك، بل تعدى ذلك إلى قيام بعض الباحثين بقياس العائد الاقتصادي، والاجتماعي للتربية، قياسًا كميًا علميًا، دقيقًا، مستخدمين في ذلك الأساليب العلمية الحديثة في القياس والتقويم، لمعرفة مدى الإسهام الاقتصادي، والاجتماعي للتربية في تنمية المجتمعات، فتوجهت أنظار المسؤولين، ومتخذي القرارات، وراسمي السياسات، إلى أهمية إعطاء أولوية متقدمة للإنفاق على التعليم، والتركيز على المجالات التي يمكن فيها للتربية والتعليم من تحقيق أقصى عائد في العملية التنموية.
ويحتل القرن الحادي والعشرين والذي يشكل انطلاقة لألفية ثالثة، أهمية خاصة في حياة الأمم، ويمثل وقفة مراجعة الأمم مع نفسها، لا بد لها فيه من مراجعة أعمالها، وإجراء عملية تقييم لمنجزاتها للوقوف على السلبيات، وتقويمها، وتصويبها، وتعزيز الإيجابيات، وتطويرها، كون ذلك السبيل الأمثل للتنمية، فالأمم الحية أدركت بعين اليقين أنها ما كان لها أن تأخذ دورها في خريطة الحضارة الإنسانية، والتقدم العلمي، والتنمية البشرية، والحضارية، إلا بالتربية القائمة على التكامل، والحداثة، والتطور، وامتلاك قاعدة معلوماتية، متكاملة، شاملة، وامتلاك خبرات تربوية، علمية، عملية، وقيم سلوكية، مجتمعية، تمكنها من التكيف مع مستجدات العصر، ومتغيراته، والتي أصبحت السمة البارزة لعصرنا الذي نعيش؛ فالتغير سريع، ومتلاحق، ولا بد لمن أراد النجاح من التعايش فيه، والتكيف معه، وامتلاك آليات التعامل معه، ومعالجته، بما يخدم أهدافنا في هذه الحياة، ويمكننا من التغلب على الظروف المستجدة، وعدم تمكينها من التغلب علينا؛ فهذا معناه بداية النهاية، وعليه أصبحت كثير من الدول تقوم بمراجعة جذرية، دورية، مستمرة لأنظمتها التربوية، والتعليمية، للاطمئنان على قدرتها على تنشئة أجيالها الجديدة تنشئة اجتماعية تمكنها من إحداث التنمية المأمولة والمنشودة.
وعليه يمكن القول أن أكثر الأمم نجاحًا، وتقدمًا، هي تلك التي ركزت جهودها، ووجهتها نحو الاستثمار في الإنسان، من خلال الاهتمام بالتعليم، والتعامل معه بوصفه قضية أمن قومي، يتعاملون معه ببالغ الاهتمام، وعلى أعلى مستويات اتخاذ القرار، وأصبحت التربية والتعليم من أهم متطلبات التنمية الشاملة، ومتطلبا رئيسًا، وعاملًا حاسمًا في نجاح المشاريع التنموية، مع الاعتراف بوجود عوامل أخرى سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، تؤدي دورًا في نجاح المشاريع التنموية، فكان لا بد من تكامل هذه العوامل مع بعضها لنجاح التنمية المأمولة.
وظائف التربية نحو المجتمع
تقوم التربية بوظائف رئيسة نحو المجتمع وتتمثل في الآتي:
- نقل الثقافة والتراث الثقافي من جيل إلى جيل، وهي وظيفة هامة وضرورية، فتنمو الحياة وتتطور وتتجدد، من خلال ترسيخ قيم ثقافية أصيلة، وانحسار قيم ثبت عدم مواكبتها لمتغيرات العصر ومستجداته.
- تنقية التراث الثقافي من الشوائب التي علقت في الثقافة، حيث تضع التربية نصب عينيها العناصر المختلفة للثقافة، وتقوم بتبويبها، وتحليلها، وتنقيتها، بما يتفق ومعطيات المعاصرة والتحديث.
- تدعيم التغير الاجتماعي وإحداثه، تسعى التربية إلى تغيير المفاهيم السلبية لأفراد المجتمع، واتجاهاتهم، إلى مفاهيم واتجاهات إيجابية، وإعداد أفراد قادرين على الابتكار، والإبداع، وإحداث التغيير الإيجابي الفعال فيكونون بذلك عناصر تجديد وإبداع وابتكار.
- تحقيق التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والمحافظة على الموارد الطبيعية، من خلال إعداد العناصر البشرية، وتدريبها، وتأهيلها، وتمكينها من القيام بالأعباء والمهام الموكلة بها على الوجه الأكمل.
العلاقة بين التربية والمجتمع
لا يمكن للتربية التعامل مع الفرد بمعزل عن المجتمع الذي يعيش فيه، لأن الأفراد هم نتاج مجتمعاتهم، يتأثرون بكل ما فيها من مؤثرات، ولا يمكن أن نتصور إنسانًا مهما أوتي من قدرات، وطاقات، وإبداعات، أن يعيش بعزلة عن مجتمعه، والإنسان في نموه يخضع لعملية تفاعلية مستمرة بين المجتمع والبيئة المادية من جهة، وبين قواه ومواهبه الفطرية من جهة أخرى، ويقاس النجاح بمدى التفاعل الإيجابي والفعال بين الجهتين.
ويتطلع المجتمع دائمًا وأبدًا للكثير من التربويين؛ كونهم المسؤولون عن حاضر الأمة ومستقبلها، وعليه فالمجتمع يتطلع إلى أفراد وخريجين جادين، ومنضبطين، يشعرون بالمسؤولية تجاه مجتمعهم، ووطنهم، وعقيدتهم، ويعطونها ما تستحق من تقدير، ويتطلع المجتمع أيضًا إلى أفراد يحترمون النظام، ويسهمون بالعملية التنموية خير إسهام، متسلحون بالعلم، والمعرفة، والتقنية الحديثة، بشكل يتمكنون معه من القيام بالمهام، والأعمال المنوطة بهم، بكل كفاءة واقتدار، ويتطلع التربويون بدورهم إلى المجتمع، ويتوقعون منه التعاون والمشاركة بفعالية، والشعور بالمسؤولية المشتركة تجاه تربية النشء.
وقد بحث الباحثون والمتخصصون في الكشف عن العلاقة الوثيقة بين التربية والتنمية، وتأثير وتأثر كل منهما بالآخر، وقد توزع الباحثون في تعاملهم مع هذا الموضوع بين ثلاثة آراء موزعة كالآتي:
1- تيار يقول بأن التربية هي مفتاح التنمية:
إذ يؤمن أصحاب هذا التيار بقوة التعليم وقدرته على تحقيق ما يصعب تحقيقه بوسائل أخرى، ويعدونه الشرط الرئيس لتحقيق التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والرفاه الاجتماعي، وتحقيق التنمية، ويرى أصحاب هذا الرأي أن المدرسة تستطيع صياغة الإنسان، وتشكيله، من خلال المؤثرات التي يتعرض لها الفرد، وفي هذا يقولون إن مجتمع الغد إما تصنعه المدرسة أو لا يكون، وأن تغيير الإنسان سابق، ومتطلب لتغيير المجتمع، والتنمية لن تتحقق إلا بوجود شكل جديد من التعليم والمدرسة.
ويعزز هذا الرأي أن الإنسان جزء رئيس، ومكون أساسي في التنمية، فهو أداها، وهدفها، في الوقت ذاته، والتنمية لا يمكن أن تكون في جزء معين دون غيره، لكنها تنمية اجتماعية، وثقافية، وأخلاقية، وقيمية، وهي تمتد إلى الإنسان فتنمي قدراته مهما كانت هذه القدرات، وعملية بناء قدرات الإنسان، وتنميتها، تتطلب الاهتمام العالي والجاد والحقيقي بالتعليم وجودته، وما من خيار غيره، وقد أدى هذا الاتجاه إلى ربط التربية بالتنمية بعلاقة سببية، لا سيما في دول العالم النامية، فآمنت بأن التربية الجيدة تقود بالضرورة والنتيجة إلى تنمية جيدة.
2- تيار قائل بعجز التربية عن إحداث التنمية المقصودة:
حيث يرى القائلون بهذا الرأي أن الأنظمة التعليمية أنظمة تابعة وليست مستقلة، عاجزة عن القيادة والمبادرة، وعليه فإنه لا يمكن النظر إليها بوصفها مؤسسات تغيير أصيلة، ويعتبرونها مؤسسات مُسيسة، وجدت لتحقيق أهداف النظام السياسي القائم، فالدولة أو النظام السياسي هي من تحدد أهداف المدرسة، ويخلصون إلى أن النظام التعليمي لا يمكن أن يكون مستقلًا عن المجتمع، والذي يشكل جزءًا منه، فهناك علاقة وطيدة وتكاملية بين مؤسسات المجتمع السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والتربوية، والنظام التربوي لا يمكن أن يعمل أو ينجح خارج إطار منظومته الاجتماعية، وعليه لا يمكن التعامل مع النظام التربوي بوصفه أداة تغيير تحقق العدل الاجتماعي.
وبالرغم مما قد يظهر عليه هذا الرأي من تطرف، أو حدة، إلا أن القائلين أو المؤمنين به لا يتجاهلون دور التربية، وأهميتها لكنهم يحاولون البحث عن سياق جديد، ودور أو طريق واضح المعالم، يمشون في ضوئه، يتسم بالواقعية، ويتناسب مع ما يمكن أن تقوم به التربية على أرض الواقع، بعيدًا عن المثاليات، أو المهمات المستحيلة، ويخلص القائلون بهذا الرأي إلى أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة، وهي: هل التربية هي التي تقود المجتمع؟ أم المجتمع هو من يقود التربية؟ وهل التربية نظام كلي أم جزئي؟ وإذا كانت نظامًا جزئيًا فهل هو الأهم أم لا؟
3- التيار القائل بالعلاقة التفاعلية بين التربية والتنمية:
يؤمن أصحاب هذا التيار أن التربية لا تنشأ في فراغ، وإنما هي نظام فرعي يرتبط بالنسق الاجتماعي، ويؤثر كل منهما بالآخر، ويتأثر به، فعملية التغيير في المجتمع تتطلب تغييرًا في مجموعة من العوامل، والمتغيرات، منها التربية وليس التربية فقط، فضلًا عن أن نواتج العملية التعليمية لا بد أن تتأثر بشكل لافت بدرجة التفاعل بين الجوانب المجتمعية المختلفة ونوعها، فإذا كان النظام التعليمي قادرًا على التأثير في الأفراد، ومن بعدهم المجتمع، فإن المجتمع بدوره قادر على فرض رغباته، وتوجهاته على النظام التعليمي، ويستخدم الأخير أداة تساعده في تحقيق أهدافه وغاياته.
والمجتمع بحاجة إلى التربية للمحافظة على خصائصه والمتمثلة في:
- خاصية المحافظة على النفس: وهي خاصية متوافرة في كل مجتمع بغض النظر عن درجة تقدمه، وهذا يدفع المجتمعات إلى تربية النشء للمحافظة على مقوماتها الخاصة، وكل مجتمع يرغب بالمحافظة على هويته، وعليه فالتربية عمل تحتمه الضرورة الاجتماعية بالدرجة الأولى.
- خاصية الاستمرار: وهي خاصية لا يمكن تحقيقها باستمرار أفراد الجماعات؛ لأنهم يولدون ثم يموتون، والمقصود بالاستمرارية هنا استمرارية أساليب الحياة وطرق التفكير فيها، فكل جيل يكتسب مهارات الحياة في المجتمع، ومهارات الحفاظ عليها، واكتساب المعارف، والمهارات من خلال التربية.
- خاصية التقدم والتطور: تطمح الجماعات الإنسانية في رفع مستوى حياتها، ومواكبة العصر الذي تعيش فيه، وفي إطار القيم والمثل العليا التي تسود في المجتمع، قال علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه: «ربوا أولادكم على غير ما تربيتم عليه، فقد خُلِقُوا لزمان غير زمانكم»، وهذا التقدم والتطور لا بد له من أداة لإيصال المجتمع إلى الأهداف المرسومة من رقي، وتطور، وحضارة، ومواكبة لمستجدات العصر، ولا أداة أفضل من التربية في تحقيق هذا الهدف السامي.
التعليم والتنمية
يعد موضوع العلاقة بين التعليم والتنمية من الموضوعات التي أصبحت تشغل الفكر الإنساني، كون دور وأهمية كل من التعليم والتنمية يتوقف على الآخر، فالتنمية عملية حضارية تشمل مختلف أوجه النشاط في المجتمع بما يحقق رفاه الإنسان وكرامته، ولا يقتصر التعليم على ما هو فكري وثقافي فحسب، بل أصبح الميدان المسؤول عن مختلف الميادين الأخرى، بوصفه الميدان الذي يسهم مساهمة فعالة في عملية التخطيط لتنمية المجتمعات في حاضرها ومستقبلها، والبحث في كيفية التغلب على المشكلات التي تواجه المجتمعات، والعمل على تقدمها.
دور التربية في التنمية الثقافية
تعد الثقافة أساسًا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي هامة في تكوين الفرد، وإثراء وجدانه بالقيم، والتقاليد الأصيلة، وتنمية وعيه الثقافي، وعليه تمثل الثقافة ضرورة إنسانية، ولازمة لرقي المجتمعات، وتقدمها، فالثقافة وسيلة الإنسان للبقاء، والتطور، والتربية وسيلتها لحفظ التراث الثقافي، ونقله من جيل لآخر، فالتربية جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع، وهي حلقة الوصل بين المجتمع، واتجاهات العصر الذي يعيش فيه، ولكل عصر أفكاره، واتجاهاته، وقوانينه التي تشكل علاقة الأفراد، والمجتمعات، وتؤثر على نوع الحياة بصفة عامة.
وتهدف التربية إلى تنمية سلوك الأفراد في محيط ثقافي معين، وتعد المناهج، والكتب، والمواد الدراسية، وسائل لتحقيق هذا الهدف، وتهتم التربية بالثقافة وما تحتويه من تغيرات، وقضايا، ومشكلات من جهة، وبالفرد باعتباره إمكانية عظيمة ينبغي الأخذ بيديه، ومساعدته للوصول إلى أفضل مستوى من النضج النفسي، والاجتماعي ضمن منظور ثقافته، وتسعى التربية إلى ضمان سعادة الفرد، والجماعة، وإنتاج شخصية الفرد، وصقلها، بحيث تكون متكاملة من مختلف الجوانب.
دور التربية في الديمقراطية
المجتمع الديمقراطي هو مجتمع الجدارة، واحترام الإنسان، ورأيه، وخصوصيته، وهي سمات لا تحصل للإنسان دفعة واحدة، أو بعصا سحرية، لكنها ممارسة تبدأ بالأسرة، ثم المدرسة، والجامعة، ومكان العمل، والإعلام، لتصبح جزءًا من التنشئة الاجتماعية، والسياسية للفرد، ولعل التحدي الذي يواجه الأنظمة التربوية، والتعليمية العربية، هو في كيفية تصميم وتنفيذ أنموذج ديمقراطي يتجاوز كل السلبيات، ونقاط الضعف في المجتمعات، سواء أكانت سياسية، أم اجتماعية، الأمر الذي يلقي على هذه الأنظمة مسؤولية تطوير آليات يصبح معها عقل الفرد موجهًا نحو الوطن، والدولة، فيعظم الإنجاز، ويقدر الإبداع، ويحترم الاختلاف في وجهات النظر، ويسمح لكل فرد بالتعبير عن وجهة نظره المؤيدة، أو المخالفة لما هو مطروح، ويحترم رأي الأغلبية ويتبناه، ويتخلص من النزعة الفردية، ويحكم العقل، والمنطق في تعامله مع الآراء المطروحة، فتصبح العدالة الاجتماعية جزءًا من هذا النسيج الاجتماعي، فتسود الحرية الأكاديمية، بوصفها مظهرًا من مظاهر الديمقراطية، والمؤسسة التربوية هي أكثر المؤسسات قدرة، وأحقية في تبني هذا النهج، وإكسابه للأجيال اللاحقة، فتصبح مكونًا رئيسًا من سلوكياته، وعقله، والتنشئة الاجتماعية الديمقراطية يصعب حدوثها إلا في ظل حدوث تحول ديمقراطي حقيقي في بنيان المجتمع، ومؤسساته، وحوار معمق يرسخ مفهوم الديمقراطية فكرًا وسلوكًا لدى العاملين في المؤسسة التربوية.
وتتأثر الفلسفات التربوية بشكل كبير بنظام الحكم في المجتمع، فالأنظمة الأوتوقراطية تتبع في الغالب أنظمة تربوية تشبه نظام الجندية، وتهدف من وراء التعليم إلى تربية أفراد الشعب على الطاعة العمياء، والخضوع للسلطة، وتسعى الأنظمة الأرستقراطية إلى تعليم طبقة الخاصة دون العامة، وإن علمت الطبقة العامة فإلى حد معين لا تسمح لها بتجاوزه، وتؤمن الديمقراطية بقيمة الفرد الإنسانية، باعتباره مصدر السلطة في الحكم، والمرجع الأخير في أمور الحكم، وعليه تعنى التربية الديمقراطية بنشر التعليم في صفوف الجماهير الذين حرموا في أوقات سابقة منه، وهي بذلك تمنع اتساع الفجوة بين الكثرة المحرومة، والقلة المحظوظة، وتستثمر المواهب الدفينة، وتحافظ عليها.
دور التربية في التعامل مع العولمة والاختراق الثقافي
تلغي العولمة حدود الدول، وتشكل مجتمعًا كونيًا متصلًا، بدون حواجز زمنية أو جغرافية، فتختزل حدود الزمان والمكان، مستثمرة التقنيات العالية، والحديثة في الاتصال، ويلاحظ المتأمل في التحولات السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والثقافية، القوية والمتسارعة، التي يشهدها العالم من حولنا أنه تعود إلى سببين:
أولهما: إما أنها سبب من أسباب العولمة.
وثانيهما: أو أنها نتيجة من نتائجها الضخمة والعميقة.
وفرضت العولمة على الشعوب والأمم إعادة النظر في كل القيم، والمعتقدات، والثورة على قبول الأمور على أنها مسلمات، وتشجيع الفكر المستقبلي للناشئة، وصياغة عقولهم، وتشكيلها بعيدًا عن القالب المألوف، والمتكرر في الظروف السابقة لظهور العولمة، الأمر الذي أوجب علينا كتربويين أن نفهم، ونتحدث اللغة التي يتكلمها العالم، ونستخدم أدواته حتى نتمكن من مسايرة العولمة، ونعيش كجزء من هذا العالم، نؤثر ونتأثر به، فالعولمة أصبحت حقيقة واقعة، وأمرًا حتميًا، وليس اختياريًا، وأصبحنا غير قادرين على إيقافها لكننا نستطيع التعامل معها، وفهمها، واستيعابها، وتوظيفها بما يخدم أهدافنا، فأصبح السبيل الوحيد أمام الحكومات، والمؤسسات التربوية، لا يتمثل في مقاومتها لأن ذلك يعني التغريد خارج السرب، لكننا معنيون في كيفية إدارتها، وفهم خصائصها، وابتكار سياسات تربوية جديدة، تحقق المصالح الوطنية، وتحافظ على الهوية القومية.
وللعولمة جانب ثقافي يشكل نوعًا من التحدي، والضغط على الخصوصيات الثقافية للأمم والشعوب، وتمثل العولمة أحد وأهم الضغوط على الخصوصية الثقافية، وهي تحمل في طياتها مخاطر عديدة، متنوعة، سياسية، وثقافية، واقتصادية، فقد تهدد العولمة الخصوصيات الحضارية، وتهمش الثقافات، وعلى الرغم من اعتبار التعليم أداة رئيسة لمواجهة مخاطر الاختراق الثقافي، فإن التعليم بوضعه الحالي لم يعد قادرًا على مواجهة العولمة، والاختراق الثقافي، إلا بالنزر اليسير، الأمر الذي يرتب علينا كتربويين العمل على إيجاد صيغة يتكامل فيها التعليم مع الثقافة، ليؤديا دورًا في بناء الشعوب والأفراد.
وتمثل العولمة تحديًا ثقافيًا غير مسبوق، قائمًا على الاجتياح الثقافي، ويتم ذلك وفق آليات ثلاث هي:
- تفقد الدول الصغيرة ثقافتها تحت ضغط الاجتياح الثقافي العالمي، فتبدأ بالتخلي تدريجيًا عن خصائصها الثقافية لصالح الثقافة العالمية الجديدة.
- ظهور الثقافة الوطنية في صورة باهتة عاجزة عن تقديم الشخصية الراقية، وفي الوقت نفسه تظهر فيه ثقافة العولمة مشرقة، وجميلة، ومقبولة بديلًا عن الثقافة الوطنية.
- ظهور روابط، وجسور، وأدوات، مهمتها إيجاد معايير تعبر من خلالها الأمم والشعوب إلى الثقافة العالمية، والوصول بالفكر الثقافي العالمي إلى أرجاء المعمورة؛ فيحدث نوع من التواجد الثقافي.
التربية والتغير الاجتماعي
يعد التغير ظاهرة طبيعية تخضع لها مختلف الظواهر الكونية والمجتمعات الإنسانية بسبب التفاعلات الاجتماعية بين مكونات النظام الاجتماعي، ولا شك أن للتغيير عمليات إيجابية تمكن المجتمع من البقاء، والاستمرار، ويتطلع الإنسان بطبعه إلى ما هو أحسن، وأفضل، والتخلص من القديم لمسايرة العصر، ومواكبة التغير، والتقدم التكنولوجي، وقد تكون عملية التغير سريعة، أو بطيئة، لكن الإنسان يفهم أن التغير عملية تحافظ على كينونة المجتمعات.
أخذ التغير الاجتماعي أشكالًا متنوعة في المجتمع الإنساني، وأثر على حياة الأفراد في مختلف المجالات، لا سيما تلك التي مرت بظروف خاصة ارتبطت بهذا التغير، وشغلت ظاهرة التغير الاجتماعي الفكر الإنساني، مما جعلها مادة خصبة للبحث، والتمحيص، لمعرفة أسبابها، وما يترتب من آثار، وتبعات، والتربية من المشروعات القومية التي تتأثر بهذه الظاهرة فهي أول من يواجه هذه التغيرات، التي تؤثر بدورها على الواقع الاجتماعي، فالتربية تؤثر في قيم المجتمعات، وعاداتها، والمستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية للأسر، وأصبحت عملية الحكم على الشعوب، والأمم، ودرجة رقيها من عدمه، تقاس بما يقدم لأفرادها من تربية وتعليم، فعملت الأمم والشعوب على إعداد أفرادها، وتنشئتهم تنشئة اجتماعية، وتربيتهم، وتعليمهم، وتوفير كل ما يلزمهم، لمواجهة ظروف الحياة، ومتغيراتها، والتغلب عليها.
والتربية نظام اجتماعي، وتسعى إلى تحقيق أهداف تتعلق بالمجتمع من خلال مؤسسات مقصودة للتربية كالمدرسة، وتعد المدرسة أحد الأسس التي يقوم عليها التغيير، والتقدم الاجتماعي، والثقافي، وهما أمران يصعب حصولهما بدون العمليات التربوية، كون التربية عبارة عن قوى اجتماعية حاملة للأفكار، تذيعها، وتنشرها، وتؤسس الأجيال على مجموعة من القيم، والمبادئ، وتعمل على إكساب أفراد المجتمع مهارات، وقدرات، ومعارف، تمكنهم من التفاعل مع المجتمع المتغير باستمرار، ويعد التعليم شرطًا، ومتطلبًا لنجاح كل الجهود التي تبذل من أجل التنمية، وهناك بعض المجتمعات التي تتعرض للتغير الاجتماعي، والثقافي السريع، تختلف اتجاهات أفرادها اتجاه هذا التغيير، فبعضهم يتقبله، ويستطيع التكيف، والتأقلم معه، والبعض الآخر يرفضه، ويسعى إلى المحافظة على قديمه، مغفلًا دور الحداثة، والمستجدات، والتطورات، والمعطيات الجديدة في فرض واقع جديد، وهنا يبرز دور التربية في توجيه التغيير، ومساعدة الأفراد، وإعدادهم لفهم التغيير، وتقبله، والاستفادة منه، وتدريب الأفراد، وإكسابهم المرونة، وتمكينهم من تمييز العناصر الثقافية الهامة، والتي تتفق مع مقومات ثقافتهم، وتتفق مع حاجاتهم، وحاجات مجتمعهم في هذا العصر.
وتستطيع التربية القيام بدور ريادي وتجديدي في التغير الاجتماعي، فهي تقوم بتهيئة الظروف والعوامل المؤدية إلى التغيير الاجتماعي فتستطيع على سبيل المثال إرساء قواعد الديمقراطية وتشجيعها بين الأجيال واحترام الرأي والرأي الآخر وتعليم النشء طريقة حل الصراعات بالحوار والحجة والمنطق ودون اللجوء إلى العنف، كما يمكن للتربية أن تقوم بتقليل الكلفة الاجتماعية المترتبة على التغيير وذلك من خلال حدوثه بأقل الخسائر، أو أقل صراع ممكن، والحفاظ على النسيج الاجتماعي دون تفكك.
نظريات التغيير
حاول العلماء والباحثون في العلوم الاجتماعية تفسير ظاهرة التغيير من خلال عدة نظريات منبثقة من الرياضيات والعلوم الإنسانية والطبيعية، ومنها:
- نظريات التطور: ارتبطت هذه النظرية بشارلز دارون الذي بين معالمها في كتابه (أصل الأنواع) الذي صدر في عام 1859، وبين فيها أن التغيير يحدث في الأساس نتيجة عوامل داخلية تقتضيها مسألة التكيف بين الفرد وبيئته، وهو عملية تلقائية، بطيئة، حتمية لقانون البقاء للأصلح.
- نظرية الثورة: وتقوم على أن التغيير يحدث نتيجة صراع بين مجموعة أو طبقة، وبقية الطبقات الأخرى في المجتمع، وأن التغيير المفيد هو التغيير الشامل، وليس التعديلات الجزئية الطفيفة، فالتغيير الشامل هو الذي يقلب الأوضاع رأسًا على عقب، ويبدل المفاهيم، ويعيد توزيع الثروات، والخيرات الاجتماعية.
- نظرية الإحياء الثقافي: تؤمن هذه النظرية بأن حسم الصراع لا يتم بالعنف، والقوة كحل وحيد، وإنما بالرجوع إلى مرحلة سابقة مشرقة في تاريخ المجتمع أو الثقافة.
رؤية جديدة في العلاقة بين التربية والتنمية
يمكن القول إن أكثر الدول نجاحًا هي تلك التي استطاعت أن تجعل من التنمية قضية مجتمعية، يتم التعامل معها على أعلى المستويات بدءًا من متخذي القرارات السياسية، وراسمي السياسة العامة، وانتهاءً بمشاركة جميع قطاعات المجتمع الثقافية، والفكرية، والتربوية، والاقتصادية، والاجتماعية، وهذه الأمم لها رؤى تتسم بالوضوح والشمول، ويقوم التعليم فيها بدور رئيس في توفير الطاقات البشرية المدربة، والمؤهلة، والقادرة على الإسهام في تنمية المجتمع، والتعامل مع مستجداته، ومتغيراته، وتطويعها لخدمة الإنسان، والإنسانية.
وإذا ما أردنا النجاح في مهمتنا، والوصول إلى ما وصله غيرنا من نجاحات، فلا بد من وقفة مراجعة مع النفس، نسأل فيها أنفسنا مجموعة من الأسئلة، وعلينا أن نكون صادقين، وموضوعيين مع أنفسنا في الإجابة عليها لنلحق بركب الحضارة والتقدم، وهذه الأسئلة هي: هل لدينا رؤًى واضحة وخطط شاملة لتحقيق تلك الرؤى؟ وهل ندرك ونعلم حقًا من نحن؟ وماذا نريد الفعل؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ وهل نعرف أفضل طرق الوصول؟، فعلينا أن نعترف أن الإصلاح التعليمي على أهميته فإنه لوحده غير كاف، لنهضة المجتمعات، بل يتطلب الأمر حركة إصلاح مجتمعي شاملة في جميع المجتمعات لضمان نجاح التعليم، فالجميع في قارب واحد، إما أن ينجو وينجون جميعًا، وإما أن يغرق ويغرقوا جميعًا، فإذا ما نجحنا في ذلك فالنتيجة الحتمية تحقيق أغراض التعليم، وتمكين المدرسة من القيام بدورها بنجاح، وتمكين المجتمع من النهوض قويًا عزيزًا متماسكًا.
وخلاصة ذلك أنه عندما تكون هناك علاقة بين المدرسة والمجتمع يكون هناك إحساس قوي بأن الآباء مندمجون في أنشطة داخل المدرسة، وخارجها، وهذا دليل قوي على أن الآباء يشعرون بالارتياح في مجيئهم للمدرسة أثناء اليوم الدراسي، لمتابعة دور المدرسة في تعليم أبنائهم، وخدمة المجتمع، ويشعر كل فرد بأنها مدرسة للجميع، يهبون وقتهم، وطاقاتهم، وأموالهم، ويسخرونها من أجل تطوير عملية التعليم في المدرسة، والمجتمع ككل.
.