يتوقف تفسيرنا للسلوك الإنساني تفسيرًا سليمًا على فهمنا للطبيعة الإنسانية، وللعوامل الاجتماعية المختلفة التي تشترك معها في تكوين هذا السلوك الإنساني وتوجيهه. ولقد نظر الفلاسفة وعلماء الأخلاق والتربية إلى هذه الطبيعة الإنسانية من زوايا متعددة، وترتب على ذلك أن كانت آراؤهم متباينة فيما يوجه إليه هذا السلوك الإنساني.
وفى دراسة بعنوان: «البعد الأخلاقي في الخطاب التربوي المعاصر»، للدكتور محمد الجبر، الأستاذ بكلية الآداب- جامعة دمشق، يرى أن الأخلاق تتعلق– بصفة عامة– بالسيطرة على الطبيعة الإنسانية وتوجيهها. ولذلك كان أمرًا في غاية الأهمية أن نعمل على تنمية سلوك المعلم معتمدين على الواقع وعلى العلم الحديث، بحيث يساعدنا على فهم العلوم الأخرى التي تتصل من قريب أو من بعيد بالفرد الإنساني والسلوك الإنساني في المؤسسة التربوية.
التربية بين التدريب على السلوك وبين التدريس المتحرر
في الحقيقة إن للتربية هدفًا مزدوجًا، يتضمن التدريس من جهة، والتدريب على الخلق الحسن من جهة أخرى. ويختلف مفهوم السلوك الطيب باختلاف المؤسسات السياسية وباختلاف أنواع التراث الاجتماعي للجماعة. ففي العصور الوسطى كانت الفضيلة الأولى هي الطاعة. ولكن النظرة الحديثة تختلف من حيث الهدف والطريقة على السواء. فلقد أحلت الديمقراطية التعاون محل الخضوع، وغريزة القطيع محل الاحترام، وصارت الأمة هي الخليقة بالتبجيل. لذا فقد اهتم القائمون بشؤون التربية بالإقناع وغرس العواطف المناسبة في نفوس الناشئة.
ومن هنا يقول رسل أن «كل تربية تقريبًا تتضمن دافعًا سياسيًا. فهي تهدف إلى تقوية جماعة معينة سواء أكانت جماعة قومية أم دينية أم حتى اجتماعية في مقابل جماعة أخرى. وهذا الدافع في أساسه هو الذي يحدد الموضوعات التي تدرس والعادات العقلية التي يراد للتلاميذ اكتسابها. ومن النادر أن تنحو التربية إلى النمو الداخلي للعقل؛ فالواقع أن أغلب القائمين على التربية مخنوقون في حياتهم العقلية والروحية ومحرومون من الدافع الداخلي، ولديهم فقط بعض الاستعدادات الميكانيكية التي تحل محل الفكر الحي».
ولكي نبلور وجهتي النظر المتقابلتين في صورة أوضح نقول إنه لا يمكن أن يحدث اتفاق بين أولئك الذين يعتبرون التربية وسيلة لغرس عقائد معينة محددة في عقول الناشئة وبين أولئك الذي يعتقدون أن من واجب التربية أن تخلق قوة لدى الشخص يستطيع أن يصدر بها حكمًا مستقلًا.
الحكم الأخلاقي والمسؤولية
إن الحكم الأخلاقي والمسؤولية الأخلاقية هما العمل الذي تخلقه البيئة داخل أنفسنا، هاتان الحقيقتان معناهما أن كل الأخلاق اجتماعية، ليس لأنا يجب أن نُدخل في اعتبارنا نتائج أفعالنا على مصالح الآخرين، ولكن لأن هذه هي الحقيقة؛ فالآخرون يدخلون في اعتبارهم ما نفعل، ويستجيبون لأفعالنا طبقًا لذلك. واستجاباتهم تؤثر في معنى ما نفعل، وما ينسب لأفعالنا من معنى لا يمكن تجنبه، مثله في ذلك مثل نتيجة التفاعل مع البيئة المادية. والحقيقة أنه كلما تقدمت الحضارة ازدادت البيئة الفيزيقية إنسانية، لأن معنى الطاقات والأحداث الفيزيقية يصبح متضمنًا في الدور الذي تلعبه في المناشط الإنسانية. فسلوكنا يقوم على الناحية الاجتماعية، سواء أدركنا هذه الحقيقة أم لم نستطع ذلك.
وتأثير التقاليد في العادة، والعادة في التفكير، يكفي للبرهنة، على هذه العبارة؛ فمقاومة الآخرين وتعاونهم هما الحقيقة الأساسية في متابعة خططنا أو الفشل فيها، إذ تهيئ لنا ارتباطاتنا مع رفاقنا فرص العمل التعليمي، كما تقدم لنا الأدوات التي نستغل بها هذه الفرص، وتحمل جميع أفعال الفرد طابع مجتمعه تمامًا كما يحمل هذا الطابع لغته التي يتكلمها
والاعتراف الصريح بهذه الحقيقة شرط ضروري للتحسن في التربية الأخلاقية للمعلم، وللفهم الذكي للأفكار الرئيسية. فالأخلاق هي تفاعل فرد مع بيئته الاجتماعية. فإذا كان مستوى الأخلاق منخفضًا فمرجع هذا إلى أن التربية الناتجة عن التفاعل بين الفرد وبيئته الاجتماعية تربية ناقصة.
دور المعتقد في سلوك المعلم
إن المعلم في العملية التعليمية يحمل معرفة علمية وقيمًا ومعتقدات واتجاهات تؤثر بشكل أو بآخر في سلوكه القيمي وأدائه التدريسي بالقاعة، استنادًا إلى افتراض أساسي بأن معتقدات المعلم ووجهة نظره نحو المادة العلمية تنعكس بالضرورة على ممارسته التدريسية داخل الفصول، وخاصة أنه لا يقوم بنقل المعرفة فقط، بل ينقل موقفه هو منها.
وإن صدق الاعتقاد فإنه لا يظهر في الأفكار أو الأقوال أو النظريات والمذاهب، بل في السلوك البشري، فالسلوك هو المعيار الحقيقي لصدق الاعتقاد، فالإنسان يكون صادق الاعتقاد عندما يسلك سلوكًا معينًا بإخلاص مدفوعًا إليه باعتقاد معين يؤمن به أو يحترمه، وليس هدفًا شخصيًا أو نفعيًا يدفعه، حينذاك فقط يكون سلوك الفرد الناتج عن اعتقاده صادقًا.
وتختلف المعتقدات عن الاتجاهات في أن الاتجاهات تتضمن شحنات انفعالية وتتخذ صفة الدينامية والتحريك والدفع، بينما لا تتصف المعتقدات بتلك الصفة الانفعالية فهي تتضمن فكرة أو رأيًا محايدًا أو حقيقة نحو موضوع ما. فالاتجاه ضد الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية يتخذ صفة انفعالية، ولا يتضمن أي حقائق أو أفكار محايدة عن طبيعة هذه المشكلة العنصرية، أما في حالة المعتقدات فإن الناحية المعرفية هي السائدة، بينما لا يتضح فيها الجانب الانفعالي المميز للاتجاهات مثل: اعتقاد الفرد عن طبيعة كروية الأرض، فهو لا يتعلق بالانفعال نحوها بقدر ما يرتبط بإيمانه بحقائق ثابتة.
كما أن للاتجاهات شعورًا موجبًا أو سالبًا للفرد تجاه قضية معينة. والاتجاهات تتشكل على أساس المعتقدات ويرتبط سلوك المعلم بكليهما. فعلى سبيل المثال عندما ينظر معلم الاجتماعيات إلى الاجتماعيات على أنها سياق اجتماعي خلال إطار حل المشكلات، فإن ذلك يوضح معتقداته حول طبيعة (المعتقد) وطبقًا لذلك يبلي استعداده وشعوره الإيجابي نحو تدريس الاجتماعيات (الاتجاه) وتصبح النتيجة أن المعلم يسعى إلى تدريس الاجتماعيات من خلال المواقف والبدائل التعليمية المحتملة التي تساعد المتعلم على تنمية تفكيره (سلوكه).
ما المعتقد؟ المعتقد يتمثل في الميل الانتمائي لمجموعة من الأفكار التي تنسجم وتفكيره ورغبته. فإذا استرجعنا تاريخ الفكر الإسلامي فسوف نجد إن المسلمات عند ابن سينا قسمان: معتقدات، ومأخوذات. أما المعتقدات فهي ثلاثة أصناف: الواجب قبولها، والمشهورات، والوهميات. وأما المأخوذات فهي صنفان: مقبولات، وتقارير، والتقارير تشتمل على المصادر والموضوعات.
وأوضح لاريك وينج مراحل تكوين المعتقدات في الآتي:
- جميع المعتقدات تظهر عند المعلمين. وما يحدث في هذه الخطوة أن المعلمين يقومون بعملية جمع المعلومات عن أنفسهم يحصلون عليها عادة من الواقع الحياتي والمادة العلمية والمؤسسة التربوية.
- يتوصل المعلم إلى بعض النتائج عن أنفسهم إيجابية كانت أم سلبية.
- يبحث المعلم عن الدلائل التي تدعم ما توصل إليها من استنتاجات، وبمجرد حصوله على هذه الدلائل يصبح من السهل عليه تفسير أي دليل إضافي يقع في طريقه على أنه مجرد دعم لما توصل إليه.
وقد تصنف المعتقدات إلى الأنواع الآتية:
- المعتقدات الوصفية: الاعتقادات الوصفية حول موضوع ما هي التي تتكون نتيجة ملاحظات مباشرة أو من خبرات تتعلق بالشيء أو الموضوع المعطي بواسطة حواس الفرد الذاتية، ولذا فإن الاعتقادات الوصفية تكون أكثر رسوخًا في نفس الفرد، حيث إنها تعتمد على أحاسيس الفرد.
- المعتقدات الاستدلالية: هي التي تتعدى الأحداث الملاحظة وهي تتكون إما نتيجة لاعتمادها على القواعد المنطقية، والتي تسمح بتكوين الاعتقادات عن الأشياء غير الملاحظة.
- المعتقدات المعلوماتية: تتكون الاعتقادات المعلوماتية بواسطة معلومات وحقائق مستمدة من مصادر خارجية مثل: الصحف، والتلفاز، والكتب، والمعلم، والأصدقاء.
وإن المعتقدات الذاتية التي تؤثر في كفاءة الفرد في التعلم الأكاديمي تتمثل في التالي:
- معتقدات خاصة بالقدرة: وتتضمن معتقدات الفرد قدراته الأكاديمية، والتي كونها منذ سنوات دراسته الأولى وتختلف هذه المعتقدات من مادة دراسية إلى أخرى.
- معتقدات خاصة بالفاعلية: وتتضمن معتقدات الفرد فاعليته الذاتية، وتعرف الفاعلية هنا بأنها تحمل الفرد لمسؤولية أفعاله ونجاحه وفشله فيها، ويرجع النجاح أو الفشل إلى عوامل داخلية لدى الفرد مثل الأهداف والمصادر التي يختارها والجهد المبذول.
- معتقدات خاصة بالضبط: وتتضمن معتقدات الفرد إمكانية التحكم في البيئة المحيطة، وقد تعرف بأنها رابطة بين الذات والأهداف التي يرغب الفرد في تحقيقها في ضوء توقعاته عن البيئة المحيطة.
- المعتقدات والممارسات التدريسية لمعلمي الاجتماعيات: إن معتقدات المعلمين في الفصل لها أثر في تكوين المعرفة العلمية لدى تلاميذهم، فالمعلمون لا يشرحون المادة العلمية فقط، بل ينقلون موقفهم منها لتلاميذهم، فما يستخدمه المعلم من تعابير أو ألفاظ في تخاطبه مع طلابه داخل الفصل الدراسي له تأثير بالغ في الصورة التي يكونها الطلبة للمفاهيم العلمية.
ونلاحظ أن ولسون يقسم مستويات التفكر العميق لدى المعلمين إلى ثلاثة مستويات للمعتقدات دور مهم في هذه المستويات وهي:
- المستوى التقني: وهو أبسط مستويات الممارسة التفكيرية، ويختص بعمليات اختيار المعلم للطرق والوسائل التعليمية لتحقيق الأهداف المرجوة.
- المستوى السياقي: في هذا المستوى ينظر المعلم إلى الموقف التعليمي في سياق معين ينحاز فيه لمعتقداته ويعتمد على فهم المعلم للسياقات والأسس النظرية للممارسات التدريسية.
- المستوى الجدلي: وهو أعلى مستوى للتفكير، وفيه يهتم المعلم بالدفاع عن خَيَارَاتِهِ التي تمت وفقًا لمعتقداته، ويصبح المعلم منشغلًا بجمع الأدلة التي تؤيد وجهة نظره.
من مصادر تشكيل السلوك
تعد المؤسسة التربوية من القوى الثقافية المهمة في تشكيل سلوك الفرد، وعادة تعتمد هذه المؤسسة في التشكيل السلوكي على مصادر متعددة، لعل من أبرزها: المقررات الدراسية، والكادر التدريسي من المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات بوصفهم نماذج يطلب منها أن تنمذج سلوك المتعلمين وفقًا لتوجهات المؤسسة التربوية.
فإذا أخذنا المقررات الدراسية نجد أنها لا تعدو أن تكون وسيلة اتصال بين النظام التربوي والمتعلمين، إذ يتم من خلالها إيصال الرسائل التي يحث عليها الخطاب التربوي، وهي في الوقت نفسه تمثل انعكاسًا لتوجهات المجتمع في الحياة، أو بمعنى آخر إن المجتمع يسعى باستمرار إلى إيصال فلسفته في الحياة إلى أبنائه عبر عديد من الوسائل، والكتب المدرسية هي إحدى هذه الوسائل التي يتم من خلالها توضيح فلسفته بطريقة منظمة ومنسقة مع طروحات القنوات الأخرى من التنشئة الاجتماعية.
وخلاصة القول، إن الكتب الدراسية ينبغي أن تكون فاعلة ومؤثرة في المتعلمين، لكي تتمكن من إتمام عملية التشكيل السلوكي، ولأجل أن تكون فاعلة ومؤثرة فإن ثمة شروطًا معينة ينبغي توافرها، ومن بين هذه الشروط:
- لا بد للمقررات الدراسية أن تحدث علاقة ارتباطية بين ما يعرض من تنبيهات على السطور والاستجابة الصادرة عنهم، ولكي تحدث هذه العلاقة فإن ذلك يقتضي أن تستجر المنبهات المزيد من الاستجابات، عند ذاك نقول إن العلاقة الشرطية قد حدثت، وهذا يعني أن الأفراد قد اكتسبوا الأنماط السلوكية التي يدعو إليها الخطاب التربوي.
- يجب توخي الواقعية في تناول الموضوعات، وعدم اللجوء إلى النموذج اليوتوبي (المثالي أو الخيالي).
- من أجل أن تحصل العلاقة الشرطية لا بد للمقررات الدراسية من الابتعاد عن التعبئة للخطاب السلطوي وهذا سيساعد على تقوية العلاقة حال تشكلها.
- في الحقيقة إن المقررات الدراسية لا بد لها من مراعاة البساطة الوضوح والدقة في عرض الموضوعات ومن ثم تسلسلها من الناحية المنطقية، والابتعاد عن الحشو والإطالة، كما ينبغي لها أن تبتعد عن الأسلوب الخطابي فقد ينقلب وبالًا عليها.
- ينبغي أن يكون ثمة توازن في بث نماذج البشر في المقررات الدراسية، وهذا معناه ألا يكون ثمة نموذج معين من البشر يشيع في مرحلة دراسية معينة وتخلو المراحل الدراسية الأخرى منه.
وما نريد قوله هنا، إن التوازن في بث نماذج البشر المختلفة عبر المراحل الدراسية المختلفة أمر لا مندوحة منه، فلذلك يساعد على إشاعة اتجاهات التي تدعو إليها الخطاب التربوي مما لا ريب فيه.
إن الكادر التدريسي يعد من المصادر التي تسهم في تشكيل سلوك المتعلمين، وبذلك تكون هناك وظيفتان للكادر التدريسي، الوظيفة الأولى: تتمثل بنمذجة السلوك، والوظيفة الثانية: أن الكادر التدريسي يعد بمثابة قناة اتصال بين المؤسسة التربوية المتعلمين، فيما يخص الوظيفة الأولى، أن الكادر التدريسي يسعى إلى نمذجة سلوك المتعلمين بأساليب شتى، منها على سبيل المثال، استخدام أسلوب الثواب للأنماط السلوكية المقبولة وحسن استكشاف البيئة على ضوء القواعد التي درسوها وإيجاد الحلول المناسبة لبعض المشكلات وإبداء كفاءة في المناقشة والإقناع على ضوء استخدام الأدلة والبيانات ثم إظهار كفاءة عن طريق التعلم بالتجريب، فهذه الأساليب وغيرها تمكن الكادر التدريسي من نمذجة سلوك المتعلمين.
أما الوظيفة الثانية للكادر التدريسي، فهو أن يكون بمثابة قناة اتصال بين الخطاب التربوي والمتعلمين، وقناة الاتصال التي نعني بها هنا، هو أن الكادر التدريسي تقع على عاتقه مهمة نقل فلسفة المؤسسة التربوية بطريقة متسقة ومنظمة إلى المتعلمين سواء عن طريق المقررات الدراسية أو عن طريق النوعية العامة بالأهداف التي تنشدها فلسفة هذه المؤسسة. من السياق السابق نستطيع القول:
أنه لقد بات واضحًا أن الخطاب التربوي يستند في تشكيل سلوك المتعلمين إلى توجهات الفلسفة التربوية، وما يهمنا هنا هو اختبار فاعلية خطابنا التربوي في عملية التشكيل السلوكي، وهذا الاختيار يقوم مع المؤشرات الآتية:
- معرفة أثر الخطاب التربوي في تشكيل اتجاهات المعلمين.
- وأثره في تشكيل قيم تتناسب مع طبيعة الثقافة السائدة.
- ودوره في تنمية المهارات العلمية المطلوبة.
- وأهميته في تنمية أساليب معينة من التفكير.
وطبقًا لهذه المؤشرات نجد أن خطابنا التربوي لما يزل غير فاعل في تشكيل السلوك، وذلك للأسباب الآتية:
- إن خطابنا التربوي لم ينجح بعد في تشكيل سلوك واتجاهات تنطوي على العقلانية والمنطق، بدليل أن المتعلم ما يزال يحمل الكثير من الأفكار اللاعقلانية والغيبية فيما يتصل بتفسير الظاهرة الاجتماعية والطبيعية والحياتية التي يتعرض لها.
- ولأن خطابنا التربوي يستند إلى التلقين، فهو لم يساهم في تنمية نسق قيمي يتناسب مع الأهداف التربوية المعلنة التي تتلخص بإعداد الأفراد المتعلمين بأن يكونوا في المستقبل المنظور مواطنين قادرين على المشاركة في بناء المجتمع، فضلًا عن التمتع بالمسؤولية الاجتماعية.
- طالما كان خطابنا التربوي تلقينيًا، فمن الطبيعي ألا يؤدي إلى تنمية مهارات المتعلمين على المستوى المعرفي والعلمي؛ ذلك أن خطابا التربوي يعاني من غياب التطابق والانسجام بين التنظير والتطبيق.
- إن استلام المتعلم لمعلوماته ومعارفه بطريقة التلقين والحفظ سيؤدي إلى تعليمه إنتاج أفكار قليلة عن موضوع ما في فترة زمنية ثابتة، وعلى خلاف ذلك، عند استخدام طريقة الحوار والمناقشة والنقد سيؤدي ذلك إلى إنتاج أفكار كثيرة عن موضوع ما في فترة زمنية ثابتة.
- المتعلمون في بلادنا العربية على العموم معتمدين على التلقين في تزويدهم بالمعلومات عن العالم من حولهم، وبطبيعة الحال، فإن الثورة المعلوماتية التي نشهدها الآن ونتلمس آثارها لا يمكن بأي حال من الأحوال الإلمام بمعارفها بالأسلوب المدرسي إن صح التعبير، الذي تتبعه المؤسسة التربوية، وهو عادة ما يرتكز على الكتاب المقرر بعد إقرار مفرداته ثم طباعته، وبذلك فإن المعلومة الجديدة التي يراد توصيلها إلى المتعلمين يكون قد مضى عليها زمن.
- يعد الإنتاج العلمي أحد المؤشرات الدالة على كفاءة المؤسسة التربوية.
إذًا واضح أن خطابنا التربوي غير فاعل في تشكيل السلوك، طبقًا للمؤشرات التي سبق وأن أشرنا إليها، وإذا نحن بحثنا عن أسباب ذلك لوجدان أن ثمة معوقات ترافق الخطاب التربوي وتجعل من رسائله الاتصالية رسائل غير مؤثرة في التشكيل السلوكي، ولعل من أبرزها: معوقات تتعلق بالمعلم.
لا نأتي بجديد، إذا قلنا إن المعلم بصفة (معلم، مدرس، أستاذ جامعة) هو محور الخطاب التربوي أو هو بمثابة العكاز الذي يتعكز عليه الخطاب التربوي، ولما كمان المعلم كذلك ينبغي أن يراعي الدور الكبير الذي يضطلع به في المؤسسة التربوية، ولو ألقينا نظرة على أحوال المعلم في البلاد العربية لوجدنا أنه غير فاعل في الخطاب التربوي، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى عديد من الأسباب، من أهمها:
- إن عملية إعداد المعلم لم تكن بالمستوى المطلوب؛ ذلك أن المعلم العربي لم يعد إعدادًا علميًا لمهنة التدريس، بسبب الافتقار إلى خطط وبرامج واضحة في عملية الإعداد وعدم الاستفادة من التجارب العملية التي سبقتنا في هذا الميدان، مما أدى إلى ضياع الكثير من فرص التطور أمام الأجيال.
- بسبب ضآلة دخل المعلم وعدم كفايته لسد مقتضيات المعيشة اليومية فقد أصبح يعيش حالة من الفقر والعوز والبؤس، ولمواجهة النقص الحاصل في دخله لجأ مضطرًا في بعض البلدان العربية إلى البحث عن عمل خارج أوقات الدوام الرسمي وأحيانًا التغيب عن الدوام لبضع ساعات أو لأيام معينة من الأسبوع للإيفاء بالتزاماته في عمله الإضافي. فأي إنجاز نتوقعه من فئة تعاني الاغتراب في كل لحظة، وهل بإمكانها الإسهام بتشكيل سلوك المتعلمين؟ لقد بات بحكم المؤكد أن الرسالة الإقناعية لكي تحدث أثرًا في سلوك المتعلم ينبغي أن يكون المعلم مهيئًا لإيصالها.
- ومن أجل أن يكون المعلم عنصرًا فاعلًا في الخطاب التربوي ينبغي أن تكون ساعاته الدراسية قليلة، بمعنى ألا تتحول إلى عبء يثقل كاهله، لأن العبء التدريسي سيؤدي إلى التعب والإنهاك، ومن ثم فقدان القدرة على إيصال المعرفة إلى المتعلمين.
- لعل من مقومات نجاح الخطاب التربوي أن يتمتع المعلم بقدر من الحرية الأكاديمية التي يتحرر فيها من رقابة الآخر على أفكاره التي يذيعها بين تلاميذه وطلبته أو التي ينشرها في مقالاته ودراساته ومؤلفاته.
آثار عجز الخطاب التربوي من تشكيل السلوك
1- الإحساس بالاغتراب عن المجتمع:
يلاحظ على الخطاب الصادر عن المؤسسة التربوية في البلاد العربية أنه خطاب ينمي الاغتراب لدى المتعلمين، وإذا نحن عدنا إلى الأسباب التي تجعل هذا الخطاب ينمي الاغتراب لوجدنا أن الرسائل الاتصالية التي ينطوي عليها هذا الخطاب تدعو إلى اكتساب المعرفة والسعي الحثيث للتعلم، وذلك لضمان المستقبل وتحقيق الأهداف الشخصية، بهذه الصياغات اللفظية يصور لنا الخطاب التربوي مسألة السعي الحثيث لاكتساب المعرفة، دون أن يشير صراحة إلى ما ينبغي فعله في مرحلة ما بعد انتهاء (التعلم المؤسسي).
وحسبنا أن نشير هنا إلى العواقب الوخيمة على إشاعة الهجرة بين صفوف الشباب:
- إن إشاعة الهجرة بين صفوف الشباب المتخرجين من الجامعات والمعاهد سيؤدي على المدى المنظور إلى ضعف اندماج هؤلاء في مجتمعهم وعدم اكتراثهم بما يجري فيه، ما يجعل من الهجرة خلاصًا من واقع مؤلم.
- إفراغ المجتمع من قوى التغيير الاجتماعي، ذلك أن المجتمع يعول كثيرًا على هذه الكفاءات المتخرجة من الجامعات والمعاهد للإسهام في تنميته.
2- تنمية الإحساس بالقهر:
هنا ينبغي التنويه إلى أن المجتمع المأزوم عادة ما يعمد إلى تنمية نموذج من البشر يطلق عليه (نموذج الإنسان المقهور)، الحقيقة إن هذا النموذج من البشر قد عانى من الغبن والظلم وامتهان الإرادة والتمايز الاجتماعي، ولقد وجد أن هذا النموذج من البشر يشيع أثر قهر النظام السياسي واستبداده وعدم تقدير واحترام إنسانية الفرد وصعوبة تحصيل الرزق وندرة الموارد وعدم كفايتها وهيمنة القوة النفوذ في العلاقات بين الأفراد، وهنا يبرز دور الخطاب التربوي في تكريس القهر ولكن بطريقة غير مباشرة، إذ أخذ من جانبه نتيجة هيمنة الخطاب السياسي عليه بتسويغ القهر الذي يتعرض له الأفراد، وذلك بإضفاء هالة من التقديس، وقد ترتب على ذلك أن الخطاب التربوي أصبح متناقضًا في طروحاته، فتارة يدعو إلى العقلانية والمنطق، وتارة أخرى يرتكن إلى اللاعقلانية والغيبية والخرافة.
ومما يخشى منه أن استمرار الخطاب التربوي على تكريس حالة القهر في مدارسنا وجامعاتنا العربية ستكون له عواقب وخيمة، لعل من بينها:
- محاولة قهر الأفراد وإرغامهم على التزام الصمت وعدم السماح لهم بالحديث عن وضعية المجتمع إلا بالحدود المسموح بها، سينمي حالة من التذمر والاستياء والنقد يتحدث بها هؤلاء إلى الخلصاء إيثارًا للسلامة، ثم تتطور هذه الحالة بعد ذلك إلى سخرية وتهكم من الوضعية الاجتماعية، وإن لم يعبر عنها صراحة ولكنها تتقنع بأقنعة ظاهرها الشكوى من ضيق الحال وباطنها المعارضة.
- أن استمرار فرض المعرفة التي تتناسب مع أيديولوجية المسيطرين وتجنب المعرفة التي تتنافى مع تلك الأيديولوجية سيؤدي إلى خفض الإنجاز الدراسي، وفي حال استمرار هذا الانخفاض سيؤدي بطبيعة الحال إلى عدم قدرة المجتمع على مواكبة التطورات التي تجري في الحضارة الإنسانية، انطلاقًا من القول القائل: «إن الزمن الراهن هو زمن المعلومات» وهذا يقتضي المواكبة المستمرة للجديد، وإلا فإن المجتمع سيعاني من المشكلات المتعلقة بوجوده وخصوصيته الثقافية.
- لقد أصبح واضحًا أن خطابنا التربوي لا يدعو إلى التطلع إلى المستقبل، بل يدعو في حقيقة الأمر إلى النكوص إلى الماضي. يقول بهذا الصدد توفلر: «يزحف الماضي إلى الحاضر ويعيد نفسه في المستقبل، وفي مثل هذا المجتمع تكون الطريقة المثلى لإعداد الطالب هي تزويده بمهارات الماضي– لأنها نفس المهارات التي سيحتاج إليها في المستقبل».
- وعلى أساس وضعية القهر الذي يكرسها الخطاب التربوي وضع قد يجعل الفرد يتعلم العجز عندما ينظر إلى الغير فيجد مكانة لهم على مدارج الحضارة الإنسانية، بينما لا يجد لأبناء مجتمعه مكانة تذكر على مدارجها، وعند ذلك سيتعلم أن المعارف والعلوم التي يدرسها غدت ضعيفة، ما يعني الوصول إلى قناعة بعدم قدرة المجتمع على إنتاج ما أنتجه الغير ومن ثم تكوين اتجاهات تحط من قدر المجتمع وترفع من شأن الآخر.
خاتمة
ونخلص من ذلك إلى أن البعد الأخلاقي في الخطاب التربوي القائم على تشكيل السلوك يرتبط بواقعيات الوجود، لا بالمثل العليا والأهداف والواجبات المستقلة عن الواقعيات المادية. فالحقائق التي تعتمد عليها الأخلاق هي الحقائق التي تنبع من الروابط الفعالية للأفراد الإنسانيين مع بعضهم البعض، وأن نتائج مناشطهم التي نسجوها معًا في حياة الرغبة والاعتقاد والحكم والإرضاء والقنوط.
وبهذا المعنى يكون السلوك– وتبعًا لذلك الأخلاق– اجتماعيًا فهي ليست مجرد أشياء يجب أن تكون اجتماعية وتفشل في أن تكون كذلك ولكن هناك اختلافات هائلة بالنسبة للأفضل والأسوأ في نوع ما هو اجتماعي وتبدأ الأخلاق المثالية بإدراك هذه الاختلافات. فالتفاعل الإنساني، والروابط الإنسانية، موجودة، وتقوم بعملها على أي حال.
ولكن يمكن تنظيمها واستعمالها بطريقة منظمة في سبيل الخير، هذا إذا عرفنا كيف نلاحظها، ولا يمكن ملاحظتها ملاحظة صحيحة، ولا يمكن فهمها واستغلالها، وعندما يترك العقل ليعمل بنفسه دون مساعدة العلم. لأن العقل الطبيعي الذي لا يتلقى مساعدة يعني بالضبط عادات الاعتقاد، والتفكير والرغبة التي تولدت مصادفة وتأكدت عن طريق المؤسسات الاجتماعية أو التربوية أو التقاليد. ولكن مع كل هذا المزيج عن المصادفة والمعقولية، فقد نصل في النهاية إلى نقطة تخلق عندها الظروف الاجتماعية عقلًا قادرًا على النظرة العلمية والبحث العلمي، وتغذية هذه الروح وتنميتها هما الواجب الاجتماعي في الوقت الراهن لأن هذه هي حاجة الراهن الملحة لتنمية سلوك المعلم العربي.
.