Business

دور المرأة في تعزيز قيمة الرحمة في الإسلام

لم تكن المرأة في القرون الثلاثة الأولى من رسالة الإسلام وما تلاها من عصوره الذهبية، تمثل مشكلة تتطاحن حولها الآراء، بل كانت جوهرة مكنونة لها احترامها، كأم وأخت وزوجة وابنة، وكان لها كذلك حقوق، وعليها واجبات معروفة، بل عاش الرجال والنساء وقد تحقق بينهم مفهوم الرحمة الحقيقية، وانتشرت قيمها لديهم من المودة والتفاهم وغيرها، ليكون بعضهم مكملًا للبعض، دون أن يقف أحدهم في طريق الآخر.

فلما جاء العصر الحاضر، إذ بالمرأة تغدو ممثلة لمشكلة مفتعلة، جعلتها تواجه الرجل وتقف في طريقه، بل وتشتبك معه في جوانب كانت في غنًى عنها، فكَثُر الحديث عنها، وتضاربت فيها الآراء حتى كادت حقوقها أن تضيع، فهذا ينادي بالرحمة بها، وذاك يطالب بمنحها حقوقها المسلوبة- على حد تعبيره-، وثالث ينعق بأنها مظلومة، وأن الحضارة الغربية لم تأت إلا للرحمة بها، ورفع الظلم- المزعوم- عنها.

وانطلاقا مما سبق، جاء هذا البحث بعنوان: «قيم الرحمة في الإسلام ودور المرأة المسلمة في تعزيزها» للدكتورة أسماء بنت راشد الرويشد، المشرفة العامة عل مركز آسية للاستشارات التربوية والتعليمية ليبرز الدور الحقيقي الذي قامت به المرأة المسلمة في تعزيز قيم الرحمة في المجتمع الإسلامي، وبيان هذه القيم وما أحدثته من أثر كبير في الأفراد والمجتمعات على مدى عهود الإسلام المختلفة.

 

الرحمة بالمرأة ما بين التشريع الإلهي والتشريع الوضعي

من أبرز الأمثلة على الرحمة في التشريع الإلهي، تلك العناية الكبرى بالمرأة، والتي أجمع العلماء والمفكرون، والمؤرخون على أنها قد حظيت في الإسلام بحقوق لم تحظ بها من قبل في أي حضارة سابقة. ومن يتأمل تشريعات الدين الإسلامي التي تحكم شؤونها، سيدرك- تمامًا- أنها إنما جاءت كلها لتكون رحمة بها.

وفي عصرنا الحالي؛ باتت «الرحمة بالمرأة» أكثر الموضوعات إلحاحًا، ذلك أن أعداء الإنسانية استطاعوا- بمساعدة من بعض المنتسبين إلى الإسلام- أن يروجوا لفكرة أن «المرأة المسلمة مظلومة»، وأنهم إنما يسعون لتحقيق «الرحمة الحقيقية» بها، والتي لم يحققها لها- في زعمهم- التشريع الإلهي! فلزم تسليط الضوء على الرحمة بالمرأة في التشريعات الوضعية، والحضارات التي تعتبر نفسها رائدة. ومقارنتها بوضع المرأة في التشريع الإلهي، من خلال تركيز الحديث في ذلك على بعض المعالم التي تؤكد هشاشة الرحمة بالمرأة في تلك القوانين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة!

أولًا: المجتمع العربي الجاهلي:

كان العرب الجاهليون لا يورثون المرأة، ولا يرون لها حقًا في الميراث، بل جعلوا المرأة نفسها من المتاع والمال، وجعلوها تورث مع ما يورث؛ ولذلك فإن الولد يمكن أن يرث عن أبيه نساءه، بل ويمكنه أن يتزوجهن كما حدث مع بعض الجاهليين. ولم يكن للمرأة حق على زوجها، ولا ينظر إليها إلا على أنها خادمة في بيت زوجها، وظيفتها إنجاب الأولاد، وليس لها حرية اختيار الزوج، ولم يكن هناك ما يمنع الزوج من إيذاء زوجته، وإهانتها، واحتقارها، بل كان زوجها يمسكها ضرارًا للاعتداء، وكانت تلاقي من بعلها نشوزًا أو إعراضًا، فيتركها معلقة، لا هي ذات زوج، ولا هي مطلقة.
ثانيًا: المجتمع الفارسي:

عاشت المرأة الفارسية في ذل ومهانة واحتقار، إذ لم تكن بأحسن حالًا من أختها العربية، فكانت التقاليد الفارسية تستوجب إهانة المرأة، وعدم الرحمة بها، إذ يعتقد الفرس أنها أداة الشيطان التي يسيطر بها على الناس، ويعتقدون أنها منبع الشرور.

ثالثًا: المجتمع الروماني:

لم تكن المرأة في المجتمع الروماني بحالة أفضل من حالة أختيها في المجتمعين العربي والفارسي، فلم يكن للمرأة أي عمل كريم، أو دور إصلاحي رشيد، سوى وظيفة الإنجاب، بل كانت المرأة في نظر الرومان متاعًا، يعرضونها في السوق للبيع، ويبيعونها، وكانت في أذل حال.

رابعًا: في العصر الحديث:

أقرت هيئة الأمم المتحدة ما يعرف بـ«وثيقة المرأة»، رغم أن البنود الواردة فيها مصادمة للفطرة، قبل أن تكون مصادمة لنصوص الشرع، ولا يشك منصف في أنها أبعد ما تكون عن مفهوم الرحمة بالمرأة، وأكثر بنودها تشكل تهديدًا للأسرة، ومن أهم المحطات التي تعرضت لها هذه الوثيقة، ولم تنل منها المرأة إلا ظلم التشريعات الوضعية، بدعوى تحريرها، وتحت زعم الرحمة بها، وأذكرها هنا كأمثلة:

  • تعدد الزوجات.
  • المساواة مع الرجل.
  • الحقوق العامة.

 

أولًا: تعدد الزوجات:

يزعم واضعوا القوانين الوضعية أن ضم امرأة أخرى إلى عصمة رجل متزوج يعد هدرًا لكرامة المرأة وهضمًا لحقها، وجرحًا لمشاعرها. ولا أدري كيف خفي على هؤلاء أنه ليس من الرحمة أن يستأثر عدد قليل من النساء بالرجال، وتظل الغالبية العظمى منهن يعانين من ويلات العنوسة، رغم أن هؤلاء يعرفون أن عدد الإناث في العالم يفوق عدد الذكور أضعافًا مضاعفة. يقول الشنقيطي رحمه الله: «فالقرآن أباح تعدد الزوجات؛ لمصلحة المرأة في عدم حرمانها من الزواج، ولمصلحة الرجل بعدم تعطل منافعه في حال قيام العذر بالمرأة الواحدة، ولمصلحة الأمة؛ ليكثر عددها، فيمكنها مقاومة عدوها لتكون كلمة الله هي العليا، فهو تشريع حكيم خبير لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بظلمات الكفر. وتحديد الزوجات بأربع تحديد من حكيم خبير، وهو أمر وسط بين القلة المفضية إلى تعطل بعض منافع الرجل، وبين الكثرة التي هي مظنة عدم القدرة على القيام بلوازم الزوجية للجميع، والعلم عند الله تعالى».

ويقول سيد قطب رحمه الله: «إذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات.. فماذا نرى؟

نرى.. أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة- تاريخية وحاضرة- تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج. فكيف نعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة؟ عندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:

  1.  أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج.. ثم تبقى واحدة أو أكثر- حسب درجة الاختلال الواقعة- بدون زواج، تقضي حياتها- أو حياتهن- لا تعرف الرجال.
  2.  أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجًا شرعيًا نظيفًا. ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال. فيعرفن الرجل خدينًا أو خليلًا في الحرام والظلام.
  3.  أن يتزوج الرجال الصالحون- كلهم أو بعضهم- أكثر من واحدة. فتعرف المرأة الرجل، زوجة شريفة في وضح النور، لا خدينة ولا خليلة في الحرام.

الاحتمال الأول ضد الفطرة، ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب.

والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف، وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف، وضد كرامة المرأة الإنسانية.

والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام. يختاره رخصة مقيدة. لمواجهة الواقع. يختاره متمشيًا مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو- بفطرته وظروف حياته- ومع رعايته للخُلُق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة».

 

ثانيًا: المساواة مع الرجل

أخطر الدعوات التي أطلقها من يزعمون أنهم يناضلون عن حقوق المرأة- رحمة بها-! هي دعوى «مساواتها مع الرجل»، وهي دعوى ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب؛ لأنهم ينادون بها دون أن يدركوا معنى المساواة التي يطالبون بها، وما ستجره آراؤهم في هذه المساواة على المرأة من ويلات هي في غنًى عنها، تمامًا كما لم يدركوا ما أعطاه الإسلام للمرأة من حقوق وامتيازات، فأطلقوا هذه الدعوى ليقوموا من خلالها بـ:

  1.  تحرير المرأة من كل القيود الدينية والاجتماعية، وإطلاق حريتها لتفعل ما تشاء، متى تشاء، وكيفما تشاء! وما لهذا خُلقت المرأة، وما هذا دورها في المجتمع.
  2.  جعل تعليم المرأة على قدم المساواة مع الرجل، في أي مجال ترغب فيه أو تهفو إليه نفسها، دون نظر إلى ما ينفعها بوصفها امرأة، لها رسالة خاصة في الحياة، ولها مهمة عظيمة يجب أن تعد لها.
  3.  المطالبة بأن تعمل المرأة مثل ما يعمل الرجل، تحت أي ظرف وفي أي مجال، دون النظر- أيضًا- لما يتناسب مع طبيعتها الأنثوية وتكوينها الجسمي والنفسي.

 

ثالثًا: الحقوق العامة:

كل القوانين والتشريعات والأعراف التي حددت حقوق المرأة كان واضعوها يعتقدون أنهم سَنَّوها رحمة بالمرأة، ولا أحد من هؤلاء وضع شيئًا من تلك القوانين مجاهرًا بعدائه للمرأة، أو معتبرًا نفسه خِصمًا لها.

هذا في زعمهم أما في الواقع فقد انعكست تلك الرحمة على المرأة جحيمًا لا يطاق، وقد شهد بذلك حتى النساء الغربيات أنفسهن، تقول السيدة (حرفية بال حليم) بعد إسلامها: «ما حدث في الغرب هو أن تيار الأنوثة (تقصد: حركة تحرير المرأة) قد سلب المرأة حقوقها كامرأة، فقد أجبرها على الذهاب إلى العمل، وقل عدد الزيجات تدريجيًا».

وتؤكد السيدة البريطانية ميشيل- التي أسلمت وتسمت بـ(جميلة)- هذا المعنى، قائلة: «يجب أن تعرف المرأة المسلمة أن حرية المرأة في أوروبا ليست حرية حقيقية، فليس لها حقوق متساوية في الأجر والعمل مثل الرجل، كما أن الرجل هنا لا ينظر إلى المرأة نظرة تقدير واحترام».

والمنصف يرى رأي العين أن الغرب جنى من هذه التشريعات والقوانين المصادمة للفطرة أسوأ الثمار، حيث ارتفعت نسب التفكك الأسري، وأصبحت المرأة سلعة رخيصة يعبث بها العابثون، ولم يعد للارتباط الأسري المشروع في تلك المجتمعات أي قيمة.

 

الرحمة بالمرأة في التشريع الإلهي:

لم تستعد المرأة كرامتها وحقوقها المسلوبة إلا في ظل دولة الإسلام، ويتجلى حسن اعتناء الإسلام بها، وتأمينه.

حقوقها في المبادئ التالية:

أولًا: أن المرأة كالرجل في الإنسانية سواء بسواء، يقول الله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] ويقول الرسول ﷺ: «إنما النساء شقائق الرجال».

ثانيًا: جعلها أهلًا للتدين والعبادة ودخول الجنة إن أحسنت، ومعاقبتها إن أساءت، كالرجل سواء بسواء، يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

ثالثًا: حارب التشاؤم بها والحزن لولادتها كما كان شأن العرب، فقال تعالى منكرًا هذه العادة السيئة: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58-59].

رابعًا: أمر بإكرامها: بنتًا، وزوجة، وأُمًّا؛ ومن ذلك قوله ﷺ: «استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإن المرأة خُلِقَت من ضلع وإنّ أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج». يقول د. محمد عزت في التعليق على هذا الحديث: «فإنه قد جاء على سبيل توصية الرجال بالنساء خيرًا، ورعايتهن والإغضاء عمّا قد يقع منهن من هَنّات».

نعم، المرأة كالرجل تمامًا، هي مساوية له، لكن بنيتها الجسمية والعقلية، والانفعالية تختلف عن بنية الرجل، لا اختلاف نقص، ولكن اختلاف تكامل، هي تكمله وهو يكملها. هذا الاختلاف الذي بين الزوجين يجعل كل منهما سكنًا للآخر، ويجعل كلًّا منهما يكمل نقصه في الآخر، وهو سر المودة والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين، ويهيئ المرأة لتكون منبعًا لا ينضب للرحمة، ولتسهم ذلك الإسهام الكبير في تعزيز هذا الخلق أسريًا ومجتمعيًا- كما سيظهر لنا في المبحث الثاني من هذا البحث بإذن الله.

 

دور المرأة المسلمة في تعزيز مفهوم الرحمة أسريًّا

من تجليات رحمة الله بخلقه في خلقه: أن زَوّدَ المرأة بمشاعر الرقة، والحنان، والعطف. وجعلها مهيأة بالفطرة لاحتضان الجنس البشري في أضعف مراحل حياته. وقد أثبتت التجارب أن ما تفيضه المرأة على أولادها من الحنان ليس قرضًا تقدمه لتلقى عليه جزاءً بعدما يكبر أبناؤها، بل هو حالة وجدانية وقفت أقلام البلغاء عاجزة عن وصفها. ولأجل تهيئة المناخ الملائم لتحقيق إسهام المرأة الفاعل في تعزيز الرحمة على مستوى أسرتها، وتمكينها من توظيف هذه المشاعر، فقد جعل الإسلام المرأة مسؤولة عن رعاية الأسرة والمنزل، مع القيام على تربية الأطفال وتنشئتهم، بعد أن خَصَّها بالمؤهلات الخلقية والفطرية التي تؤهلها للتربية، وبث روح الرحمة في البيت. ومن تلك المؤهلات والخصائص:

أولًا: أن المرأة مجبولة على العاطفة الفياضة، والحنان المتدفق.. وقد صور النبي ﷺ تلك العاطفة عندما اطلع على ذلك المشهد المؤثر، الذي تتشقق له القلوب رحمة وحنانًا. إنه مشهد أم فقدت ولدها بين الأسرى، فانتابها من مشاعر الرحمة به ما أنساها ألم الأسر، ومعاناة الموقف.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول الله ﷺ بسببي فإذا امرأة من السبي، تبتغي، إذ وجدت صبيًا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله ﷺ: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟» قلنا: لا، والله وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله ﷺ: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها». فبين ﷺ أن الرحمة الإنسانية في أعلى صورها، إنما هي عند المرأة الأم.

وذكر لنا النبي ﷺ موقفا آخر يبرهن على المشاعر الفياضة للأم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذنب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله! هو ابنها، فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المدية.

ثانيًا: طبيعة الاستقرار في المرأة، ولذلك تجد أن المرأة الموظفة تبقى في البيت وقتًا أطول من زوجها؛ لأن في طبيعتها الاستقرار؛ ومن هنا جاء التوجيه الرباني، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، فليس ذلك تحريمًا للخروج أو للعمل في صورته وصيغته الشرعيةّ ولكنه ذكر للطبيعة المناسبة للمرأة تغليبًا.

إن مهمة المرأة الرئيسة تتمثل في رعاية أركان الأسرة، وتدعيم جوانبها، والعمل على تدريب جيل جديد تقدمه إلى المجتمع قادرا على مواجهة متغيرات العصر مع الحفاظ على ثوابت وأصول دينه ومبادئه. وهي بذلك تؤدي عملًا مركبًا أشبه ما يكون بعمليات البناء؛ فهي من خلال حفظ التوازن النفسي لأفراد الأسرة، والرحمة بهم، تقوم بتدعيم أساس البناء ليصير قادرًا على حمل أعباء أكثر، لتغدو بذلك مفتاح سعادة البيت وبهجته؛ والقادرة- بإذن الله- على إشاعة الرحمة فيه، بطلاقة وجهها، وجميل حديثها، وحسن عشرتها، وجودة رأيها، وحكيم تصرفها.

 

دور المرأة المسلمة في تعزيز مفهوم الرحمة مجتمعيًا

منذ أن نزل الوحي على نبينا محمد ﷺ أول مرة في غار حراء؛ لم تكن المرأة في معزل عنه، ولم تكن مستبعدة على مدى التاريخ الإسلامي المشرق من المبادرة أو المشاركة في مسيرة الأمة بكل أحداثها.

وإذا تتبعنا دور المرأة منذ بداية الوحي فإننا نلمحه واضحًا بلا غموض، بارزًا بلا توهم، لقد عاد ﷺ من غار حراء خائفًا مما رأى، فإذا بزوجه تطمئن قلبه، وتربت على كتفه، بل وتستشرف الخير مما رأى، فتحيل خوفه أمنًا وسكينة، ساعية لدى ابن عمها (ورقة بن نوفل) لتستوثق لزوجها مما رأى فتزيده ثقة وتأكيدًا وتكون بذلك أول إنسان يوحد الله بعد محمد ﷺ، متحملة بعد ذلك عبء الرسالة على نحو لم يعرفه تاريخ امرأة من قبل.

وإذا كانت المرأة قد اضطلعت بمثل هذه الأدوار التي عكست جديتها وحزمها منذ مطلع الرسالة، فإن دورها في النهوض بالمجتمع، وتعزيز خلق الرحمة فيه يصبح لمن يبحث أكثر وضوحًا وبيانًا، وفيما يلي استعراض لبعض المجالات التي ساهمت من خلالها المرأة في تعزيز الرحمة مجتمعيًا، وذلك على وجه التمثيل لا الحصر:

أولًا: الطب

لما كانت العناية بالمرضى، وتقديم الرعاية لهم، هي المجال الأبرز لتفعيل خلق (الرحمة) على مستوى المجتمع، مع كونهم بحاجة إلى من يقترب منهم، ويسمع شكواهم، ويرحم ضعفهم، فقد انتدبت لهذه المهمة نساء المسلمين منذ فجر الإسلام، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك، قال: «كان رسول الله ﷺ يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى».

فإذا تعاملن مع المرضى بمفهوم الرحمة انعكس ذلك إيجابًا عليهن وعلى المرضى، ومن ثم على المجتمع أجمع.

ثانيًا: التعليم

المرأة مربية أجيال، سواء في البيت، أو في المدرسة، لأنها تغدو قدوة مؤثرة لمن تربيهم، ولذلك كان مجال (التعليم) ميدانًا خصبا لتفعيلها خلق (الرحمة) مجتمعيًا.

فالمعلمة تعلم طالباتها الرحمة، وتغرس في نفوسهن قيمها المختلفة، والطالبات يتأثرن بها، ويتخذن منها قدوة، فإن تعاملت معهن بالرفق والحنان، أصبح ذلك عادة لهن، يمارسنها مع الغير، وينقلنها إلى الأجيال اللاحقة بكل أمانة.

ثالثًا: الجمعيات الخيرية والمراكز الاستشارية

إن الدافع الأساسي نحو العمل الاجتماعي (تطوعيًا كان أو لا) هو الشعور بالرحمة نحو الآخر، فإذا عرفنا أن مشاعر الرحمة عند المرأة فياضة- كما سبق الحديث عنه- فإن دورها في نشر ثقافة العمل الاجتماعي، وممارسته، وتسويقه، يكون محوريًا.

ولقد كانت المرأة المسلمة في عهد النبي ﷺ قدوة حسنة في المسابقة إلى الخيرات، والعطف على الضعفاء والمساكين، والإحسان إليهم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي ﷺ: «قام يوم الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل، فأتى النساء، فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة، قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر، قال: لا، ولكن صدقة يتصدقن حينئذ، تلقي فتخها، ويلقين، قلت: أترى حقًا على الإمام ذلك، ويذكرهن؟ قال: إنه لحق عليهم، وما لهم لا يفعلونه؟».

أما في وقتنا الحالي، فقد أصبحت المرأة تضطلع بالقيادة الناجحة في هذا المجال، وأصبح الكثير من الجمعيات الخيرية، والمراكز الاستشارية بوابة ضخمة، تفتح أمام خلق الرحمة الذي تشيعه المرأة فيها، فإذا هو ينعكس بإيجابيته على المجتمع كله، متمثلًا في الخدمات المتنوعة التي تقدمها تلك المراكز، وتنهض بها، فيما بات المجتمع لا يستغني عنها، بل ويظهر حاجته المسيسة لها.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم