Business

التوجيهات التربوية للمتعلم عند عمر بن الخطاب

 

شجع الإسلام على طلب العلم بطرائق متعددة، ودعا إلى التعليم بأساليب متنوعة، فاستفاضت نصوص الكتاب والسنة بالترغيب في التعلم، حتى ربط المولى تبارك وتعالى الخشية بالعلم فقال جل شأنه ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾، وربط المصطفى بين العلم وإرث النبوة، فقال: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافرا».

لقد تعددت المؤلفات والكتب التي تناولت المتعلم في الفكر التربوي الإسلامي في مختلف العصور، كمحاولات لجمع تلك الأفكار والتوجيهات التي تخص آداب المتعلم، وفي رسالة علمية للباحث د. صالح يحيى الزهرانى، بعنوان "التوجيهات التربوية للمتعلم عند عمر بن الخطاب"، وجد أن معظم التوجيهات تركز على العلماء الذين عاشوا بعد القرن الهجري الأول، لكنها أغفلت جانبا في غاية الأهمية وهى استنباط آداب المتعلم من فقهاء الإسلام وعلمائه الذين عاشوا في عصر النبي وتتلمذوا على يديه، مثل كبار الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة.

 

قواعد أساسية

  1. من مزايا منهج التربية الإسلامية اهتمامه بآداب طالب العلم، في الوقت الذي عجزت فيه المناهج المعاصرة أن تفرز متعلما يتسم بالآداب والأخلاق، وقد اعترفت التربية الحديثة بأنها تعاني من أزمة في أخلاقيات طالب العلم، وليس أدل على ذلك من ارتفاع نسبة الجريمة بين الطلاب داخل أسوار المدرسة الغربية.
  2. التوجيهات التربوية الرئيسية للمتعلم توجد في خير القرون وأفضلها ومن خلال أقوال أفضل الناس بعد نبينا محمد  وصاحبه أبى بكر يعتبر إرثا لطالب العلم لا يعادله إرث، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وتحاول الدراسة أن تقارب بين آداب المتعلم في أفضل القرون، والمتعلم الذي يعيش بين أظهرنا اليوم، ومحاولة الإفادة من تلك الآداب في تعديل وتغيير وإصلاح أخلاق المتعلمين اليوم.
  3. توجه الدراسة بعض الباحثين الذين غفلوا عن مصادر التربية الإسلامية، إبان طغيان التربية الحديثة، والفكر العربي، وعصر العولمة على التربية والتعليم، إلى أن التوجيهات والأفكار التربوية في القرون الأولى تحتوى أثمن الكنوز، في جميع أركان العملية التربوية، ولكنها تحتاج للغواص الماهر الذي يُضحّي ويصبر.
  4. كما تستمد الدراسة أهميتها من عبقرية عمر بن الخطاب، صاحب الفقه والدين، والذي شهد له المصطفى وصحابته الكرام بالعلم، قال: «لم أر عبقريا يفري فريه»، وقال ابن مسعود: (لو وضع علم عمر في كفة ميزان، ووضع علم الناس في كفة لرجح علم عمر).

 

التعريف بالفاروق

هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد يالعزى بن رياح بن عبد الله بن قُرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، يجتمع نسبه مع رسول الله في كعب بن لؤي بن غالب، ويكنى أبا حفص، ولقب بالفاروق؛ لأنه أظهر الإسلام بمكة، ففرق الله به بين الكفر والإيمان.

وُلد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وأسلم في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن سبع وعشرين سنة، هاجر إلى النبي علانية وقد تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وقال قولته المشهورة لكفار قريش: (من أراد أن تثكله أمه، ويتم ولده، أو يرمل زوجه، فليلتقني وراء هذا الوادي)، مات شهيدا يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودفن في الحجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.

 

التوجيهات التربوية للمتعلم عند عمر بن الخطاب

1-مراجعة العلم ومذاكرته

طبق الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أدب مراجعة العلم مع طلابه، فكان يراجع معهم العلم، ويتذاكر معهم القرآن، حتى يكون أثبت في أذهانهم وعقولهم، يقول أبو العالية الرياحي: (قرأت القرآن على عمر أربع مرات)، وفى هذا توجيه للمتعلم إلى أن يراجع العلم ويذاكره مع معلمه أو مع من هو أفضل منه علماً، فكل ما كانت المراجعة كذلك كان ذلك للعلم أضبط، كما أن في مراجعة عمر القرآن مع أبى العالية أربع مرات أدب تربوي لطالب العلم تجاه علمه وهو الاهتمام والمحافظة عليه وعدم الملل من مراجعة العلم، إذ لم يكتف أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- بمراجعة حفظ القرآن مرة أو مرتين، بل أربع مرات على طول القران الكريم وكثرة عدد آياته.

لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يقصدون عمر بن الخطاب للمراجعة والمذاكرة لعلمهم باهتمام عمر بهذا الأمر، فهذا أبو موسى الأشعري (أتى عمر بن الخطاب بعد العشاء قال: فقال له عمر بن الخطاب ما جاء بك، قال أبو موسى: جئت أتحدث إليك، قال عمر: هذه الساعة، فقال أبو موسى: إنه فقه، فجلس عمر، فتحدثا ليلاً طويلاً، ثم إن أبا موسى قال: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال عمر: إنا في صلاة).

ولعل ما يؤكد اهتمام عمر بأدب مراجعة العلم ومذاكراته في هذا الحديث، أمران: الأول: سماح عمر لأبي موسى الأشعري بالسمر والحديث بعد صلاة العشاء مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يكره السمر بعد العشاء، كما قالت عائشة: «إن رسول الله صلى الله عيه وسلم لم يكن ينام قبلها - أي العشاء - ولا يتحدث بعدها»، ولذا بوب الإمام البخاري في صحيحة بابا قال فيه: (باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء)، فيدل هذا على اهتمام عمر بمراجعة العلم، والسمر من أجلة، إذ لا يدخل في كراهية الحديث بعد العشاء لما في ذلك من فضل وخير على المراجعين للعلم.

الثاني: مساواة عمر مراجعة العلم ومذاكرته بالعبادة، بل أعظم أركان العبادة بعد توحيد الله وهي الصلاة، وذلك حينما قال له أبو موسى الأشعري: (الصلاة يا أمير المؤمنين قال: إنا في صلاة).

2- السؤال عن العلم:

لقد كان فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم يرون أن أول أسباب غزارة العلم، وقوة الفهم، يرجع إلى التزام المتعلم أدب السؤال طوال فترة الطلب، ولذلك لما أنكر المهاجرون اهتمام عمر بابن عباس أجابهم بأن ابن عباس قد تميز عن أبنائهم بمزايا، أهمها التزامه أدب السؤال عما لا يعلمه، فلما جاء المهاجرون إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: (أدع أبناءنا كما تدعو ابن عباس، قال: ذاكم فتى الكهول، إن له لساناً سؤالا، وقلباً عقولاً)، وفى رواية عن أبي بكر الهذلي قال: دخلت على الحسن وهو يصلى، فذاكرت ابنه شيئاً من القرآن، فانفتل إلينا ماذا تذاكران؟ قال: قلت: طسم وحم، قال: فواتح يفتح بها القرآن، قال: قلت: إن مولى ابن عباس قال: كذا وكذا، قال: فما إلا أن أذكر مولى ابن عباس فقال: إن ابن عباس كان من الإسلام بمترل، كان عمر يقول: (ذاكم فتى الكهول، إن له لسانا سؤلا، وقلبا عقولا كان يقوم على منبرنا هذا- أحسبه قال- عشية عرفة فيقرأ سورة البقرة، وسورة آل عمران، يفسرها آية آية...)

وهكذا تتكرر تزكية عمر لابن عباس بأدب المحافظة على السؤال عما يجهله، وكيف لا يزكيه بهذا الأدب، وابن عباس كان يستغل سيره مع عمر حتى وقت قضاء الحاجة للسؤال عما لا يعلمه.

لقد ضرب عمر أروع الأمثلة لطلاب العلم في السؤال عن العلم والعمل بمنهج معلمه الأول حينما قال: «ألا سألوا إذا لم يعلموا»، فعن أبي هريرة قال: «أتُي عمر بإمرأة تَشِم، فقام فقال: أنشدكم بالله من سمع من النبي في الوشم؟ فقال أبو هريرة: فقمت فقلت: يا أمير المؤمنين أنا سمعت، قال: ما سمعت؟ قال: سمعت النبي  يقول: لا تشمن ولا تستوشمن».

3- تطبيق العلم:       

إن نظرة متأنية إلى التعليم في صدر الإسلام، تبين لنا مدى تمسك المدرسة الإسلامية آنذاك بتربية طلابها على التحلي بأدب العمل والتطبيق لما تعلموه، بل عدم الانتقال إلى علم جديد، إلا بعد ممارسة ما تعلموه في الماضي، فعن أبي عبد الرحمن قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي: «أنهم كانوا يقترؤن من رسول الله  عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل».

إن تمسك المتعلم بأدب العمل بالعلم سبب لتوفيق الله تعالى له إلى العلم والزيادة منه، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يرون أن أهل العلم وخاصته هم العاملون بعلمهم، سأل عمر بن الخطاب عبدالله بن سلام رضي الله عنهما: (من أرباب العلم؟ قال عبدالله: الذين يعملون بما يعلمون).

فأقر عمر هذه الإجابة من عبد الله بن سلام، ولا غرابة في ذلك فقد قال المولى: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾.

إن أهل العلم عند الخليفة الراشد عمر بن الخطاب هم الذين يطبقونه ويعملون به، قال وأرضاه: (اقرأوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله).

وبناء على هذا القول للخليفة الراشد عمر، فإن قارئ القرآن قد يعرف ويشتهر به، لكنه لا يكون من أهله بمجرد التلاوة والترتيل مهما بلغت تلك الشهرة، فمتى طبق أحكامه، وحل حلاله وحرم حرامه، فقد أصبح من أهله، فكم ممن عرفهم الناس بقراءة القرآن وهم ليسوا من أهله، وكم أضمر التاريخ من أهل القرآن العاملين به الذين لم يعرفوا بين الناس بأنهم من القراء، جعلنا الله جميعاً من أهل القرآن العاملين به.

لقد تنبه الفاروق إلى فتنة (العلم من أجل العلم)، فكان ينادي في عامة المسلمين بمبدأ العلم من أجل العمل فيقول:(ولست معلمكم إلا بالعمل)، ولسان حال الفاروق: إنما أعلمكم لتعلموا وتطبقوا هذا العلم في الحياة، وليس مجرد العلم بالشئ دون ممارسته وتطبيقه.

4- نشر العلم وتبادل المعلومات بين المتعلمين:

وعى عمر هذا الأدب من معلمه صلى الله عليه وسلم، فكان شعاره (تعلموا العلم وعلموه الناس)، وفي هذا توجيه منه إلى طلاب العلم عامة بنشر العلم بين الناس، بل قرن في هذه المقولة بين توجيهين، الأول توجيهه إلى طلب العلم الذي لا يعدله شئ، والثاني توجيهه إلى تعليم الناس العلم ونشره بينهم ليرفع الجهل عنهم.

وهنا نقف مع قصتين فريدتين في توجيه المتعلمين إلى نشر العلم بين بعضهم، لعلها أن تكون نماذج دافعة إلى التحلي بأدب نشر العلم بين طلابنا فيما بينهم.

الأولى: بين عمر وجاره، يقول عمر: «إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناول النّزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينْزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله».

القصة الثانية: بين عمر وعقبة بن عامر، يقول عقبة: «كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي، فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله قائما يحدث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنه، قال فقلت: (بخ بخ)، ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر، قال: إني قد رأيتك جئت آنفا، (وإنه قال قبل أن تجيء): ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله الله، وأن محمدا عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء».

5- الدقة في تلقى العلم:

عمر بن الخطاب كان من أشهر من اهتم من الصحابة بالدقة في تلقي العلم، فكان يدقق كلام الله مع حفاظه الذين ينقلونه إلى الآخرين، فإن شك في زيادة أو نقص، تثبت بالمقابلة بين ألفاظ كأسلوب لضبط كتاب الله الذي تعهد بحفظه، جاء عن أبي بن كعب: (أنه كان يقرأ "إذ جعل الذين كفروا في فلقلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله" فبلغ ذلك عمر، فأشتد عليه، فبعث إليه وهو يهنأ ناقة له، فدخل عليه فدعا ناسا من أصحابه فيهم زيد بن ثابت فقال: من يقرأ منكم سورة الفتح، فقرأ زيد على قراءتنا اليوم، فغلظ له عمر، فقال له أبي: أأتكلم؟ فقال: تكلم. فقال: لقد علمت أني كنت أدخل على النبي ويقرئني وأنتم بالباب، فإن أحببت أن أقرئ الناس على ما أقرأني، وإلا لم أقرئ حرفاً ما حييت، قال: بل أقرئ الناس).

ولعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب وأرضاه قد اشتهر بتدقيقه على المتعلمين، واختبار مدى صحة ما أخذوه من العلم، ونقلوه إلى الناس، ليس تكذيباً لهم وإنما تربية لصحابته ومن بعدهم على التثبيت وتحري الدقة عن أخذ العلم وعند نقله، حتى أنه متى اشتبه عليه قول، أو أشكل عليه ثبوت حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم، يطلب من ناقله البينة، أو يقيم الحد عليه، وتابعه في هذا المنهج كثير من الصحابة، منهم ابنه عبد الله بن عمر، وفيما يلي بعض النماذج التي تؤكد اهتمام عمر بتربية المتعلم على تحري الدقة والضبط في طلب العلم، وكذلك عند نقله للآخرين:

1- جاء عن أبي موسى الأشعري أنه: (استأذن عمر بن الخطاب فلم يؤذن له، وكأنه كان مشغولا، فرجع أبو موسى، ففرغ عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس، ائذنوا له، قيل: قد رجع، فدعاه، فقال: كنا نؤمر بذلك - أي الرجوع إن لم يؤذن لنا، فقال عمر: تأتيني على ذلك بالبينة، فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا، أبو سعيد الخدري، فذهب بأبي سعيد الخدري، فقال عمر: أخفي هذا علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى تجارة).

وإذا كنا اليوم لا نطالب بالبينة إلا في مجالس القضاء، فإن عمر قد سن البينة في مجالس العلم حرصا على الدقة والتثبت في تلقي العلم، فمطالبته لأبي موسي الأشعري بالبينة على ما نقله دليل على اهتمام الفاروق بتحري الدقة في تلقي العلم.

2- ومن القصص التي سجلتها كتب السنن في تدقيق عمر على طلاب العلم قصته مع الغلام الذي وجده في المسجد وفي حجره مصحفا فيه (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فقال عمر: أحككها يا غلام! فقال: والله لا أحكها وهي في مصحف أُبي بن كعب، فانطلق عمر  إلى أُبي بن كعب، فقال له أبي - مؤكدا صحة قراءة تلميذه-:(إني شغلني القرآن وشغلك الصفق بالأسواق).

وكم تحمل هذه القصة في طياتها من توجيهات تربوية أهمها العناية بأدب الدقة في تلقي العلم من أهله، ومسئولية كل من يعمل في مجال التربية والتعليم معلماً كان أو مديراً أو مشرفاً أو حتى وزيراً على فحص ما يتلقاه الطالب من علم ومعرفة على يد أستاذه، وكم تسبب بعض المعلمين في تشويه الحقائق لطلابهم لماَّ أمنوا التدقيق والمتابعة والمسآءلة حول أطروحاتهم التي يلفونها لطلابهم.

ومن صور الدقة التي كان يوجه بها عمر طلابه عند تلقي العلم تقييده بالكتابة، ففي التزام المتعلم بهذا الأدب قصر لمسافة البحث عند الحاجة، وأمان من ضياع العلم، فالحفظ يضعف، والنسيان يعرض، ولذا وجه المصطفى صحابته إلى حفظ العلم بالكتابة، لا سيما من كان يوصي به عند الحاجة، فقد قال ذات يوم لرجل من الأنصار كان يجلس إلى النبي فيسمع الحديث فبعجبه ولا يحفظه، واشتكي ذلك إليه فقال له: استعن بيمينك، وأومأ بيده الخط).

وهكذا كان عمر يأمر المتعلمين بالتحلي بهذا الأدب، حفاظاً على العلم، وضمانا لعدم نسيانه وذهابه من الصدور فعن عمر بن الخطاب أنه قال: (قيدوا العلم بالكتابة)، وهكذا كان عمر يؤدب طلاب العلم بأدب تقييده وتدوينه، حفظاً للدر المنثور الذي يسمعه المتعلم من النسيان أو الضياع.

6- احترام المعلم:

من أهم التوجيهات التي ينبغي على المتعلم أن يلتزم بها تجاه معلمه احترامه وتوقيره في حضوره وغيابه، وكيف لا يتحلى المتعلم بهذا الأدب مع من له فضل عليه بعد الله في تعليمه، ورع الجهل عنه، فكيف بمن له فضل علمي على طلاب العلم لا ينفذ بمرور الأيام.

ومن صـور احترام المعلم إلا ترد عليه إلا وأنت متحليا بآداب الـرد، لا سيما إذا وجهك وأرشدك إلى مـا يراه منفعة لك، فإن الرد عليه بأسلوب الند والمثيل - لا سيما عندما يوجهك شفقة بك- يعد من سوء الأدب الذي كان يعاقب عليه أسلافنا في صدر الإسلام، جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (أنه رأى رجلا مسبلاً فقال له: ارفع إزارك، فقال الرجل: وأنت يا بن مسعود، ارفع أزارك، قال يابن مسعود: إن بساقي حموشة (أي دقة) فبلغ ذلك عمر: فجعل يضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود).

 ومن احترام المعلم التواضع له في كل شيء مهما بلغت منزلة المتعلم ورتبته في الحياة فهو طلاب العلم بوصيته في التواضع للمعلم فقال: (تواضعوا لمن تعلمتم منه العمل) ومن هنا نكرة في سياق العموم فتدل على عموم المعلمين، فحري بطالب العلم أن يقدم تواضعه كلن من ألوان الاحترام لكل علم أخذ منه.

7- إبداء الرأي للمتعلم:

لقد ضرب لنا عمر الفاروق الذي شهد له النبي أنه أوتي تسعة أعشار العلم أروع الأمثلة في حرية المتعلم في بث أرائه وأفكاره دون مصادرة، وشجع هذا الأدب حتى في أدق المواقف التي يتعرض لها المعلم، والتي ربما تسبب له حرجا متى صحح رأي المتعلم وثبت خطأ رأيه.

مثال ذلك ما ذكر سابقا (المصحف الذي وجده في حجر غلام في المسجد..) ففقه عمر وعلمه الذي شهد به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وكبار الصحابة لم يكن مانعا له من الاعتراف بصواب رأي المتعلم وخطأ رأيه.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن عمر كان من أوائل من وجه المتعلم لإبداء رأيه ولو كان حدثا صغيرا فقد كان إذا نزل به أمر من الأمور جمع له الصبيان، ودعاهم لإبداء آرائهم وطلب مشورتهم وإعمال عقولهم في تلك النازلة، مع أن مجلسه كان لا يخلو من كبار الصحابة، والقراء، وأهل الفقة، والتأويل، ومما أثر عنه في هذا قوله: (لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه، ولكن الله تعالى يضعه حيث يشاء).

8 - لباس المتعلم:

لقد راعت توجيهات عمر توجيه المتعلم إلى الاعتناء بملابسه، والتي تعد عنوانا لشخصيته التي يظهر بها أمام الناس، ومن هذه التوجيهات أن يتخير المتعلم البياض من ألوان الثياب، فقد وجه النبي الأمة عموما إلى ذلك، ووجه إليها عمر بن الخطاب المتعلمين خصوصا، قال: «البسوا من ثيابكم البياض، فأنها من خير ثيابكم...».

ولم يكتف عمر ببياض الملابس ونظافتها، بل تعدى إلى أدب آخر يتعلق بمظهر طالب العلم وملبسه، ألا وهو الرائحة الطيبة، فروي عنه أن مما يعجبه أيضا في طالب العلم أن يكون (طيب الريح) وفي هذا توجيه للمتعلم لأن يطيب جسده وملبسه، فيبعث البهجة والسرور في نفوس الآخرين إذا ما التقوا بطالب العلم.

9 - الإجمام والترويح:

ومن الترويح عن النفس الذي يعود على المتعلم بفوائد كثيرة كإراحة الذهن من الإجهاد، وشدة التفكير، وإعطاء الجسم نشاط وحيوية يستطيع معها مواصلة طلب العلم بإقبال ورغبة، وممارسة الرياضة والاهتمام بترويح الجسد ببعض الألعاب التي تدعو إلى القوة البدنية وفي ذلك كتب كتبا إلى الآفاق يقول فيها (علموا أولادكم العوم، والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا).

إن عمر الفاروق بهذا التوجيه ومثله يؤكد أن أهداف التربية الإسلامية عامة لكل مناشط طلاب العلم، فهي ليست حكرا على قلبه أو عقله دون بقية جوانب شخصيته، بل هي عامة شاملة للجسم والعقل والروح، وهذا ما يميز تربيتنا الإسلامية الأصلية عن بقية الفلسفات المعاصرة.

 

خلاصات هامة

أوضحت الدراسة:

1 - أن آداب المتعلم نحو علمه من أهم الآداب التي ركز عليها عمر، مثل أدب مراجعته العلم ومذكراته ونشره وتطبيقه والدقة في تلقيه ونقله.

2 - أن عمر من أوائل من وجه إلى إبداء رأي المتعلم أمام أستاذه وركز على قبول المعلم آراء طلابه وأفكارهم وأقوالهم إذا كان الحق معهم، فلا يمنعه منصبه أو مركزه أو سلطته عن التخلي عن رأيه متى كان الحق خلافه.

3 - لم يهمل عمر بن الخطاب حق المتعلم في الترفيه والترويح والاستجمام والتي لها أثر يتفق عليه التربويون من حيث زيادة الدافعية وتجديد الحماس لدى المتعلم.

4 - أن معظم المشكلات التربوية التي يعاني منها طلابنا اليوم بسبب غياب آداب المتعلم التي ربى عليها علماء الإسلام طلابهم في القرون المفضلة.

توصيات

1 - ضرورة تضمين المقررات الدراسية لنماذج من أقوال عمر وأفعاله التي توجه طالب العلم اليوم إلى التمسك بالآداب والأخلاق التي لن يصلح حالهم إلا بما صلح حال طلاب العلم آنذاك.

2 - أن يركز المعلمون على توجيه المتعلمين إلى الآداب والفضائل والأخلاق عموما، وما يتعلق بعلمهم الذي يحملونه خصوصا، مثل مراجعته ومذكراته ونشره.

3 - أن تتبنى الأسرة والمدرسة والمجتمع إتاحة الفرصة ليعبر طلابنا اليوم عما يجول في صدورهم، بعيداً عن أسلوب الكبت والتسلط والوصاية الفكرية.

4 - أن يركز الباحثون والمهتمون بالتربية على مجال الآداب والأخلاق لدى المتعلمين لا سيما في القرون، المفضلة ولدى علماء الإسلام الذين ركزوا في كتاباتهم وأقوالهم على هذا الجانب.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم