Business

حنان عطية تكتب: النداء والتوطئة التربوية في ضوء سورة الحجرات

سورة الحجرات من السور المدنية التي حوت مجموعة من الآداب والأخلاق التي نزلت لإحداث تغيير أخلاقي في المجتمع الإسلامي الجديد، وهي تتسم بما اتسمت به السور المدنية من تشريعات تتعهد بناء الحياة وصياغة منظومة السلوك والقيم والأخلاق، وهي سورة تربوية بامتياز اعتمدت على توجيه الصف المسلم إلى التخلص من الأخلاق المذمومة المتوارثة من الجاهلية والتحلي بمجموعة من الآداب والأخلاق السامية التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون كي يبلغون الصورة التي يرتجيها منهم المول تبارك وتعالي.

وهذا النمط من الصور كما يحلو للبعض أن يسميها «سور التشريع»، بينما يسميها التربويون سور التربية على قيم الدين الحنيف باعتبار أن الدعوة إلى القرآن والإسلام لا يمكن أن يتم لهما الانتشار والذيوع في العالم من خلال مفردات القرآن فقط، وإنما بتكامل الوسائل حين يتم تربية النماذج البشرية على أخلاق القرآن بحيث يكون الواحد منهم ترجمانًا سلوكيًا وأخلاقيًا لمن لا يملكون اللسان العربي ما يحول دون فهم هذا الدين الجديد بشكل جيد وسريع.

والمتتبع لطريقة انتشار الإسلام في خارج الجزيرة العربية ونطاق اللسان العربي يتأكد أن الإسلام انتشر بالسلوك والأخلاق التي عنى الخطاب القرآني في تلك السور بترسيخها في نفس المسلم الحامل لدين الله ودعوته الجديدة، بحيث أصبح كل فرد مسلم ترجمان سلوكي وعملي لما نزل به القرآن، وهكذا كان الصف المسلم الموعود بحمل الرسالة إلى البشرية أجمع يتم تربيتهم تربية ربانية قرآنية بعناية شديدة وطرق تربوية تعتبر متقدمة على التفكير التربوي والوسائل التربوية البشرية في هذا المجال حينئذ.

وقد جاءت تلك السور التربوية بعد أن تم عمل توطئة إيمانية ونفسية وتربوية في نفوس الأفراد المعنيين برسالة السماء، فقد مكث المسلمون في مكة طيلة ثلاثة عشرة عامًا خاضعين لعملية التوطئة تلك حتى تتهيأ أنفسهم لتقبل الرسائل التربوية الجديدة والمضادة في الوقت ذاته لكثير مما تعارفوا عليه وعاشوا به من أخلاق وسلوكيات وتشريعات المجتمع الجاهلي وهو أمر لا يقل صعوبة عن التغيير العقدي والإيماني، وهو مثلما كان يحتاج إلى توطئة طويلة وعميقة فإنه بحاجة أيضًا إلى وسائل تربوية وطرق تصويرية لتقريب المفاهيم وتوضيحها.

وسورة الحجرات مدرسة متكامِلة جاءت تربّى الفرد والمجتمع بل الأمة جميعًا على سموّ الأخلاق وفضائل الأعمال وعلوّ الهمم، ولذلك جاءت هذه السورة تعالج قضايا وأمورًا مهمّة تسهم في حلّ كثير من المعضلات المعاصرة.

وقد اعتمدت السورة أسلوب النداء في مواضع كثيرة وهو أحد الأساليب التوطئة والتهيئة التربوية التي تؤدي إلى جذب انتباه المنادي وحثه على الاقتراب والتركيز وإيجاد نوع من الألفة والاستمالة والخصوصية التي تشعره بمدى أهميته وبكونه شخص ذو أهمية في الخطاب القرآني مما يجعله أكثر استعدادا للتلقي والامتثال.

وفي ثنايا هذه السورة المباركة جاءت ستة نداءات: خمسة منها جاء المنادَى فيها موصوفًا بوصف الإيمان، أما النداء السّادس فقد جاء عامًّا للناس كلّهم.

أول هذه النداءات: هو قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].  فهذا أدب نفسيّ عظيم مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقّي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله وراجع إليها.

ثاني هذه النداءات: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].

أما النداء الثالث: فهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].

ورابع هذه النداءات: قوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].

والنداء الخامس: في هذه السورة هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].

أما آخر نداء: ورد في هذه السورة فهو النداء السادس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].

و(النداء) أسلوب من أساليب الكلام في لغة العرب، وطريق من طرق الخطاب بين المخاطِب والمخاطَب للتواصل والتقارب والتفاهم، وقد اعتمده القرآن في توصيل رسالته للعالمين، وتوضيح مقاصده التي ضمنها أحكامه وتشريعاته، وكان أكثر ما ورد (النداء) في القرآن هو النداء الموجه للذين آمنوا، حيث ورد في تسعة وثمانين موضعًا، ويأتي في الدرجة الثانية (النداء) إلى عموم الناس، وذلك في عشرين موضعًا، ثم (النداء) للرسول محمد ﷺ، وذلك في خمسة عشر موضعًا، اثنين منها بنداء الرسالة، وباقيها بنداء النبوة، ثم (النداء) للإنسان، وذلك في موضعين: الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الانفطار:6). والثاني: قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} (الانشقاق:6). وجاء (النداء) للكفار في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم:7).

 

والغرض الرئيس من أسلوب (النداء) في القرآن عامة وفى سورة الحجرات خاصة هو التنبيه  إلى الاهتمام بمضمون الخطاب؛  وصنع حالة من التشويق تجعل المتلقي في قمة تركيزه الفكري والنفسي، وخلق الإحساس لديه بأنه المعني بشكل مباشر من الخطاب ومن ثم هو المعني بتحمل المسئوليات المطلوب منه تحملها وفق السياق القرآني الذى يعقب النداء، وهو أسلوب يحتذى به في حقل التربية لجذب اهتمام المتربي واضطراره لكي يقبل بكليته على مضمون القول الذى سوف يلقى عليه وهو ما يزيد من مساحة الفهم والتفهم الذي يزيد فرص الاقتناع الذى يمهد للإيمان والذى بدوره يغير السلوك في الاتجاه الذى تستهدفه الرسالة.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم