يعد البحث العلمي من الضرورات الملحة للإنسان المعاصر في كافة مناحي الحياة، ولقد أدرك علماء المسلمين أهمية البحث العلمي؛ فبذلوا جهدًا كبيرًا في إرساء دعائمه وأصوله، وتقعيد قواعده ونظرياته ووضعوا له أسسًا أخلاقية، وإنسانية ينطلقون منها في كتاباتهم المتنوعة؛ لتفعيل استراتيجياته في شئون حياتهم الآتية والمستقبلية.
وفى هذه الدراسة التي أعدها كلٌ من: الدكتور زياد علي الجرجاوي، أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية- الجامعة الإسلامية – غزة، والدكتور عبد الفتاح عبد الغني الهمص، أستاذ الصحة النفسية المساعد- جامعة القدس المفتوحة، هدفت إلى إبراز الضوابط الأخلاقية عند علماء المسلمين، وقد قام الباحثان بالرجوع إلى المصادر والمراجع العلمية، لأخذ المعرفة من مكامنها الأصلية، وقد افترض الباحثان عدة أسئلة، أجابا عليها جميعًا من خلال ما يُسّر لهما من معلومات ومعارف.
المعايير الأخلاقية التي اتبعها علماء المسلمين في نشر بحوثهم
عمد علماء المسلمين والباحثين في العصور الماضية على البحث والاجتهاد في مختلف العلوم وفق مناهج علمية دقيقة، ولم يجدوا أي تناقض بين الموضوعية والالتزام بالدين؛ وطريقتهم العلمية في البحث سارت وفق منهجية علمية تتناسب مع طريقة العلم وموضوعه وأهدافه، ووظائفه.
وللإجابة عن التساؤل الأول لا بد من الحديث عمّا كان يلتزم به علماؤنا الأوائل، ومن هذه المعايير:
الضابط الأول: تقوى الله عز وجل، وابتغاء وجهه فيما يكتب.
الضابط الثاني: الثقة وتحري الدقة في موضوع البحث العلمي.
الضابط الثالث: الموضوعية، ونقصد بها النزاهة والصدق.
الضابط الرابع: الأمانة، فالباحث أمين في خطوات البحث، وأمين عند الاستعانة بجهد غيره، وأن ينسب الفضل إلى أهله.
الضابط الخامس: الصدق؛ فلا يتصدى الباحث لبحث موضوع وهو يعلم أنه ليست لديه المؤهلات المعرفية والقدرات العقلية، أو المتطلبات الأساسية اللازمة للبحث.
الضابط السادس: عفة اللسان والقلم، فلم تشهد منهجية علماءنا المسلمين التهجّم أو السب أو الشتم أو التكذيب، وإنما كانت قائمة على أسس علمية فيها عفّة للسان، والقلم، ونزاهة الكتابة، ووضع الأدلة والبراهين الدامغة على صحة ما يقولون وينقلون.
الضابط السابع: التوثيق ونسب الفضل إلى أهله.
استخداهم الوسائل الموصلة إلى الحقيقة
ومن القواعد المنطقية التي يستعين بها الباحث في صياغة المفاهيم وبلورة النتائج، ما حددها الباحث حلمي صابر:
- عدم الجمع بين الشيء ونقيضه.
- قانون السببية، حيث يقرر المنطق السليم والعقل القويم: أن لكل حاثة سببًا، وعلى هذا الأساس تنتفي في العلم فكرة المصادفة.
- قانون الاضطراد في وقوع الحوادث، حيث إن السُّنة الجارية في جزئية أو جزئيات معينة عامة لسواها من نوعها = قد تتكرر، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 85]، فما حصل في الماضي يمكن أن يحدث في الحاضر.
درجة مساهمة علماء المسلمين في البحث العلمي التربوي والنفسي
ساهم علماء المسلمين بدرجة كبيرة غطّت كافة جوانب المعرفة العلمية، وخاصةً التربوية والنفسية، فهذا ابن النفيس وابن سينا وابن الجوزية، تحدثوا عن علم منفعة الأعضاء وعلم النفس الفسيولوجي والتدابير الإكلينيكية، فابن سينا الذي تحدث في كتابيه «القانون» و«الشفاء» عن علم النفس الفارق، وعلم النفس المرضي، والإرشاد النفسي والصحة النفسية، وهذا الجاحظ الذي تحدّث في كتابه «البخلاء» والذي أبدع في الفروق الفردية والذكاء في كتاباته، وهذا ابن الجوزي تحدث في كتابه «المناظير»، فقد عالج علم النفس العام وتحدث عن مجموعة من المبادئ والقوانين النفسية التي قرأناها في كتاب أحمد عزت راجح، ومحمد متولي البسيوني، في مقدمة لعلم النفس وأصول علم النفس.
أمّا ابن النفيس في كتابه و«شرح تشريح القانون»، وكتاب «مصالح الأبدان والأنفس» للبلخي، فهو الآخر قدم لنا مجموعة من الإبداعات الخاصة بطبيعة العلاقة المتكاملة بين التشريح وعلم النفس، وكان لفضله بدايات التشخيص للأمراض والشفاء منها، كما طور أراء ابن سينا ووضع لنا بدايات ممرات الدورة الدموية الصغرى، وقد أكد بورنج (1957) ما نقله ابن النفيس.
كما سبق علماء المسلمين، علماء الغرب في الدراسات النفسية على الحيوانات قبل نقل نتائجها على الإنسان، حيث أسسوا بذلك علم النفس المقارن، قبل أن ينتبه إليه بافلوف الروسي، وثورندايك الأمريكي، ودارين الإنجليزي، فقد درس الجاحظ والأصمعي والقزويني والبغدادي والدامري والسجستاني والتميمي، سلوك الحيوان ليقدموا لنا جذورًا متينة متأصلة في الفكر المنهجي للتراث العربي والإسلامي.
كما أبدع علماء المسلمين في تربية الطفل، فهذا ابن الجوزي يؤلف لنا كتاب «لفتة الكبد في صلاح الولد»، وابن الجوزية في كتابه «تحفة المودود بأحكام المولود»، و«فردوس الحكمة» للطبري، فقد تضمنت هذه الكتب وغيرها بعض المعارف النفسية والتربوية السابقة للعصر الذي نعيش فيه، واهتم علماء المسلمين كذلك بموضوع التدبير المستخدمة، العلاج بالعقاقير والعلاج النفسي والإرشاد النفسي، وقد سبق ابن البلدي كل من روكلن (1983)، وفلوجل (1988)، وتاتون (1988) كذلك، والرازي الذي ألف رسالة في أمراض الأطفال والعناية بهم.
كما أن علماء المسلمين أبدعوا في الحديث عن بعض الأمور التي تخص العشق والأرق والحزن، وهي تدابير نفسية، وكذلك الكآبة والسوداء والهزل، وتحدثوا كذلك عن تصنيف بعض الأمراض النفسانية على يد نجيب أبو حميد، الذي قسم هذه الأمراض إلى عشرة أمراض، شملت حوالي ثلاثين مرضًا، وكذلك ابن قيم الجوزية الذي جعل للصداع سبعة عشر منشئًا نفسيًا في كتابه الطب النبوي.
الدروس المستفادة من البحث العلمي التربوي والنفسي
إن السمة العامة لبذرة علم النفس في التراث العربي الإسلامي هو قوة هذه البذرة التي تفتحت في فترة وجيزة من الزمن، وكانت قوية التفتح من حيث النوع والديناميكية والتأثير، وبينما كان العالم العربي الإسلامي بمثابة مكة بالنسبة للغرب في عصر الترجمة والالتقاء الحضاري في المراكز العلمية، أصبح الآن المنطقة الأقل مساهمة من غيرها، ومن أسباب ذبولها الاتجاهات الجامدة، والدوافع الخامدة، والأدمغة الخاملة، والعقول الكسولة للأفراد والمهتمين بعلم النفس في العصور التالية للعصر الذهبي، وعصور التراجع، وفي العصر الحالي.
إن إحدى وسائل الارتقاء العلمي هي محاولة الوصول إلى حلول علمية لمسائل تثيرها الممارسة الاجتماعية من مادية وثقافية، والعلم ازدهر بتشجيع من السلطة السياسية، فمثلًا مقياس ابن الهيثم للغلط البصري والذي يعد أول محاولة في تاريخ علم النفس التجريبي هو مقياس مبسط لا يحتاج لأكثر من لوح خشبي طوله كطول ذراع اليد، وعرضه عرض أربع أصابع مقتدرة حسب تعبير ابن الهيثم، وحسب لغة القياس المعاصرة يحتاج إلى لوح خشبي طوله (50×80سم).
وهناك كم هائل من المخطوطات ذات العلاقة بعلم النفس التي تحتاج إلى التحقيق والنشر فضلًا عن كتابات مؤرخي العلم كابن أبي أصيبعة وابن النديم، وتكمن أهمية ذلك في تجذير عميق لعلم النفس في التراث العربي الإسلامي، فأساس النهضة هي تلك القاعدة القيمة في التراث، فكيف يكون الحال والتراث هو التراث العربي، غِنًى وتنوعًا وامتدادًا ومساحةً جغرافيةً وقدرة على التأثير بما بملكه من قيم روحية ودينية.
.