اهتم الإسلام برحمة الطفل، والطفولة من حيث كونها نعمةً وهبةً ربانيةً، تحث المنعَمَ عليه أن يحمد الله سبحانه وتعالى ويشكره؛ لكونها فضلًا كبيرًا، فالأطفال تشتاقهم النفوس، وتهفو إليهم القلوب، علت درجة ذلك الإنسان أو قلت، ويستوي في ذلك صفوة الله من خلقه، وهم الأنبياء والمرسلون، ومن عداهم من البشر أيًّا كانوا، وطلب الأطفال تحقيقًا للأبوة المستمرة دعوة يتقرب بها الإنسان إلى ربه واهب الحياة، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» (الفرقان: 74).
كما أن رحمة القرآن بالطفل، إشارة واضحة إلى أن الإسلام لم يجعل تلك الرحمة، وصايا أخلاقية ومبادئ مثالية، متروك للأفراد أمر تجسيدها في الواقع، بحيث يمكن انتهاكها وتجاوزها خفية، وإنما ربى عليها، وأقام الوازع الداخلي لمراقبتها، ورتب الثواب الأخروي على التزامها والعقاب على انتهاكها، وعَضَّدَ ذلك بالتشريعات الفقهية الملزمة.
ونظرًا لعمق هذا الموضوع، وأثره في الناحية الاجتماعية والتربوية والنفسية، فقد أعدّ الدكتور عبد الرؤوف أحمد بني عيسى، أستاذ مساعد كلية العلوم التربوية، جامعة العلوم الإسلامية العالمية-الأردن، بحثًا في رحمة القرآن بالطفل من الولادة حتى البلوغ، وتتبع عرض القرآن لهذا الجانب، والأخذ بما فقهه المفسرون والعلماء من الآيات التي ذكر فيها الطفل وما يقاربه من المدلول، وقد استنبط الباحث من خلال تلك الآيات الكريمة ما قدره الله سبحانه وتعالى له من الفوائد والتعليقات التي يرجو أن يكتب لها القبول والنفع.
تحقيق إنسانية الطفل ومشهده في الوجود
إن من يتأمل الآيات الكريمة في شأن الطفولة، يجد أنها أخذت من الاهتمام والحفاوة البالغة شيئًا كثيرًا، فهي حق إنساني جدير بالبحث والبيان؛ فالطفل كائن له الحق بأن يُعترف به في الوجود الإنساني والكوني، ولذا حذر القرآن الكريم من الوأد في موضعين، جاءا بصيغة منفرة مهولة، تجرّد صاحبها من الرأفة الإنسانية، وتبين أنه يئد إنسانيته كذلك، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (التكوير: 8-9).
ومن رحمة القرآن بالطفل أن جعل له الحق في العيش والحياة، ولم يصوّره عبئًا ثقيلًا على الأسرة والمجتمع، فنهى الآباء عن قتل أولادهم مخافة الفقر، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (الإسراء: 31)، وقال تعالى أيضًا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام: 151).
وهناك سرٌّ في التغاير في التعبير القرآني بين ما جاء في سورة الإسراء، وما جاء في سورة الأنعام، وممن ذكر ذلك من العلماء الآلوسي، حيث قال: «وقيل: الخطاب في كل آية لصنف، وليس خطابًا واحدًا، فالمخاطب بقوله سبحانه وتعالى: {مِنْ إِمْلَاقٍ} من لا فقر له، ولكن يخشى وقوعه في المستقبل، ولهذا قدم رزقهم ها هنا في قوله جل جلاله: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية، فقيل: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وهو كلام حسن».
وعلى هذا فلا ينبغي أن يشغل الوالد برزق ولده، فيدفعه ذلك إلى التخلص منه، فهذه صورة أخرى، ووجه آخر للوأد، ولكنه للذكر والأنثى معًا.
وقد رغَّب القرآن بالمولود الأنثى، وبين أنه ربما كان أفضل من المولود الذكر بكثير، وربما فاقه ومازه، وهذا يتضح لنا في قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} (آل عمران: 36).
وبتأمل الجملة المعترضة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} يتبين أنها رفعت شأن هذا المولود الأنثى، وبيّنت أن الطفل لا ينبغي أن يحكم عليه لمجرد جنسه، فليس الجنس عائقًا للرقي في الرتبة الإيمانية، وليس مانعًا من الكمالات العقلية والنفسية، وعلى هذا الأساس لم يفرق القرآن بين المولود الأنثى والمولود الذكر في الإنسانية.
قال الزمخشري: «{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} من التعظيم للموضوع والرفع منه، وليس الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها» وقال محمد عبده: «{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} أي بمكانة الأنثى التي وضعتها، وأنها خير من كثير من الذكور، ففيه دفع لما يوهمه قولها من خشية المولود وانحطاطها عن مرتبة الذكور، وقد بين ذلك بقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} الذي طلب أو تمنت {كَالْأُنْثَى} التي وضعت، بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر».
وقد بين القرآن الكريم في سورة الشورى أحوال الناس في الأولاد، قال الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى: 49-50).
وقد بين القرآن فاعلية الطفولة في الحياة، وأن من باب الإنسانية للطفولة أن تحفظ من الضياع، ويبرز هذا في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} (يوسف: 21).
والبعد الاجتماعي الذي ترمي إليه الآية هنا: هو أن لا تجعل الطفولة ضائعةً تائهةً أو بائسةً، فلربما كان فيها من المواهب والنبوغ ما يمكن أن يعود بالفائدة والنفع على المجتمع، لا أن يكون عنصر فساد، وهذا ما عليه حقوق الإنسان اليوم، حيث تثبت للطفل الحق في التمتع بطفولته ومعيشته، وعدم تكليفه بالعمل الشاق الذي لا يتوافق مع سنه، وهذه الحقوق أخذت بها الهيئات الإنسانية، وأصدرت ميثاقًا لحقوق الطفل في اليونيسيف تتلخص مبادئه في (عدم التمييز، وتضافر الجهود من أجل المصلحة الفضلى للطفل، والحق في الحياة، والحق في البقاء، والحق في النماء، وحق احترام رأي الطفل).
احترام ذاتية الطفل وطموحاته
مما ركز عليه القرآن الكريم رحمة بالطفل، تحقيق إنسانيته واحترام مشاعره وطموحاته ومواهبه، فقد قدم القرآن نموذجًا في ذلك، وهو ما جاء في سورة سيدنا يوسف عليه السلام قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (يوسف: 4-6).
هنا لدى سيدنا يوسف عليه السلام رؤيا وطموح وتطلعات، وقد قوبلت هذه التطلعات وتلك الرؤيا بتعزيز من قبل والده نبي الله يعقوب عليه السلام فلم يلحظ منه تعنيفًا على تلك الرؤيا، ولم يأمره بصرف النظر أو الإضراب صفحًا عن هذه الرؤيا، بل أراه احترامًا لذاتية الطفولة، وتكريمًا لقيمة الموهبة، وحسن تعامل مع التطلعات والإبداع، {قَالَ يَا بُنَيَّ}، استخدم هذه الكلمة للتلطف والتحبب، وهي كلمة يُحتاج إليها لتقع في نفس الطفل موقعها، قال ابن عاشور: «{يَا بُنَيَّ} وهذا التصغير كناية عن تحبيب ورحمة وشفقة. نزل الكبير منزلة الصغير؛ لأن شأن الصغير أن يحب ويشفق عليه، وفي ذلك كناية عن إمحاض النصح له». ثم بدأ يبين له أن هذه الرؤيا سيكون لها شأن، حيث سيجتبيه ربه، ويعلمه من تأويل الأحاديث.
وهذا تعزيز للطموح، وهو أثر نفسي عميق في الطفل، فإذا رأى تحفيزًا نشأ في نفسه الإبداع، وتعززت لديه القدرة على المضي قدمًا في تحقيق تطلعاته وآماله.
ويكشف هذا الموقف القرآني أن الطفولة مرحلة عمرية حرجة، تحتاج إلى الحذر والحيطة في التعامل معها، وتحتاج إلى معرفة كيف يفكر الطفل، وكيف يشعر، وكيف ينبغي أن يوجه، وما هي الطرق في تدارك مواقفه، بعيدًا عن الضغط النفسي، الذي يحد من نشاطه وفاعليته.
وهذا الموقف القرآني يرشد إلى ما يسمى التوازن النفسي أو القيمة النفسية، ويقصد بذلك: التكامل بين الوظائف النفسية المختلفة، مع القدرة على مواجهة الأزمات النفسية العادية، التي تطرأ عادةً على الإنسان مع الإحساس الإيجابي بالسعادة والكفاية، ويعني: التكامل بين الوظائف النفسية؛ أي خلو الإنسان من الصراع الداخلي، وما يترتب عليه من توتر نفسي وقلق وتردد، كما يعني: قدرة الفرد على حسم الصراع حال وقوعه.
بيان أثر الطفولة في الحياة
بين القرآن الكريم نفع الطفولة وفاعليتها في الحياة، وأبرز القيم التي انطوت عليها، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102).
فهذه صورة من الطفولة في طور النشأة، وقد عبّر القرآن عن هذه المرحلة العمرية بهذا التعبير: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}، إذ قد توكل بعض الأعمال للطفل تعويدًا له على الاحتمال والصبر والجلد، وهذا أمر مرغوب فيه، ولكن أن يكون ذلك ضمن المقدور والمستطاع، وفي إطار هذا الهدف.
والملاحظ هنا: أن الخطاب بين النبي الوالد وولده فيه مشورة من جهة، واختبار للجانب التربوي الذي ينتظره الوالد من ولده {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر}.
هذه الآية حملت من معاني الفاعلية للطفولة النوعية الواعية ما يجعلها مثالًا للسلوك النوعي والأدب العظيم.
وثمة نموذج آخر يحتوي على جانب عميق الدلالة في الناحية التربوية والنفسية في الاهتمام بنبوغ الطفل وتنمية إدراكاته، وهو قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (مريم: 12)، قال ابن كثير: «{وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي: الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير، والانكباب عليه والاجتهاد فيه وهو صغير حدث».
وهذا نبوغ على غير العادة في الأطفال، والقرآن هنا يشير إلى وجود النبوغ في حال الطفولة والصبا، وينبه إلى ضرورة استغلال هذه الطاقات التي تظهر بين أفراد الأطفال، وقد يكون النبوغ بالعلم والمعرفة والإدراكات العقلية والملكات الفكرية، حيث يصبح لهذه الإدراكات الذهنية أثر في صوغ تصوراته وتكوينها حول الوجود، وحيال المواقف المختلفة في الحياة.
وقد يكون على المستوى التقني والعملي، على معنى أن مشارب النبوغ والفاعلية في الطفولة متعددة، ومتنوعة تنوّع الإنسان واستعداداته التي وهبه الله سبحانه وتعالى إياها.
ولا شك أن هذا لفت لأنظار المربين إلى ضرورة التوجيه المبكر، والرعاية الأولية للطفولة التي تبدي نبوغًا وفهمًا حيث تعزز فيها الدافعية للتفكير، وتنمي عندهم جوانب الإبداع.
وقد نبه النبي ﷺ من خلال النماذج العملية إلى ضرورة تعزيز الملكات الذهنية للطفولة الموهوبة، فقد روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي ﷺ دخل الخلاء فوضعت له وضوءًا، قال: من وضع هذا؟ فأُخبر، فقال: «اللهم فقهه في الدين».
يقول الدكتور علي عجين: «إن مبادرة الغلام لوضع الوضوء للنبي ﷺ دون أن يطلب منه ذلك علامة على فقهه، ودقة ملاحظته، وقوة تركيز فيما يحتاجه النبي ﷺ، ولذلك سأل النبي ﷺ من وضع هذا؟ والعادة أن يضع ذلك أحد الكبار من أهل أو أصحاب، أما أن يبادر غلام صغير لمثل هذا التصرف، فهذه علامة نبوغه، فبادره النبي ﷺ بالدعاء له في الفقه في الدين، لما رأى من استعداد ذاتي للعلم والفقه في شخصية ابن عباس رضى الله عنهما».
مظاهر الرحمة بالطفل في القرآن الكريم
معنى اليتيم شرعًا: هو المنفرد عن الأب؛ لأن نفقته عليه لا على الأم، وفي البهائم: هو المنفرد عن الأم؛ لأن اللبن والأطعمة منها. وقال الزمخشري: «اليتامى: الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم، واليتم: الانفراد، ومنه: الرملة اليتيمة والدّرة اليتيمة، وقيل: اليتم في الأناسيّ من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات».
والطفل اليتيم كغيره من الأطفال له الحق أن يحصل على قدر مناسب من الحب والحنان والعطف والتوجيه والإرشاد. وقد يعاني الطفل اليتيم من مشكلات منها: العوز المادي، كنقص الغذاء والكساء والمسكن، والحرمان الانفعالي من الحب والعطف والحنان، وقد يؤدي عدم الاهتمام به والرعاية السليمة له أن يتشرد ويتخلف، وأن يصبح جانحًا، حيث أظهرت نتائج الدراسات التي أجريت في هذا المجال أن إهمال اليتيم يؤدي إلى التأخر الدراسي، وإلى تكوين العقد النفسية، مثل الشعور بالنقص والدونية.
وتؤكد الدراسات على أهمية المؤثرات الأسرية في نمو الطفل وتكوينه الشخصي، عندما يفقد الطفل أحد أبويه في طفولته المبكرة، حيث إن فقدان الطفل لأحد أبويه إن لم يتوفر له البديل المناسب يمكن أن يؤدي إلى مشاعر بعدم الأمن والقلق والاعتمادية بالإضافة إلى تأثيرات في الشخصية يمكن أن تكون خطيرة.
وقد رتب القرآن الكريم للطفل اليتيم حقوقًا ماديةً ومعنويةً؛ رحمةً به وبحالته التي توجب شفقة الآخرين عليه؛ إشعارًا بأن اليتم للطفل ليس شيئًا شائنًا، وليس دليل نقص في إنسانيته، وأخذت الرحمة بالطفل اليتيم في القرآن أكثر من بعد نفسي ومادي، وقد تمثل ذلك فيما يلي:
1- عدم قهر اليتيم:
قال الله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: 6-9).
وقد استشعر نبينا ﷺ مرارة اليتم، فكان ذلك حافزًا على إكرام اليتيم، ومراعاة آلامه النفسية ومشاعره في فقد الأب أو الأم أو كليهما. والقرآن استعمل اليتيم مفردًا ومثنى وجمعًا، ثلاثًا وعشرين مرة، كلها بمعنى اليتم الذي هو فقدان الأب، ويلحظ فيه اقتران اليتيم بالمسكنة في أحد عشر موضعًا، كما ذكر فيه من آثار اليتم الجور، وأكل المال، وعدم الإكرام، والدَّعَّ الذي هو: الدفع العنيف مع جفوة.
وفي موضع آخر يعيب القرآن إزعاج اليتيم طفلًا بصورة منفّرة، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم} (الماعون: 1-2)، ومعنى يدع اليتيم: «يدفعه دفعًا عنيفًا بجفوة وأذى، ويرده ردَّا قبيحًا بزجر وخشونة»، وهذا غاية في النهر والقهر، حيث جُمع على اليتيم هنا قهران: قهر مادي، وذلك بدفعه بيديه، وقهر معنوي، بإسقاطه من دائرة الاعتبار، وفي هذا منتهى الإساءة والانتحاء عن الإنسانية.
2- الحض على إطعام اليتيم:
وجعل عنوان ذلك تقديم الطعام له، رغبةً في إدخال المسرّة إلى قلبه، وإشعارًا بالترحيب به، وأن يُتمه لا يشكل ثقلًا على المجتمع، وأن مجتمعًا يسوده التكافل لا يشعر اليتيم فيه بقهر يُتمه، إذ إن مرارة اليتم تذهبها حلاوة الإحسان، قال الله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد: 11-16).
فالإطعام لليتيم طريق يتجاوز بها المسلم العقبة الكؤود، ويفك بها نفسه من النار، فهي قربة منجية، وإذا كان القرآن جعل من اليتيم طريقًا للنجاة من النار، كان ذلك أدعى إلى محبة اليتيم والعطف عليه، وفي تقديم إطعام اليتيم على إطعام المسكين تنويه بأهمية رعايته وشدة احتياجه إليهما، وفي إطعام هذا جمع بين الصدقة والصلة، وفيهما من الأجر ما فيهما، وقيل إنه لا يخص القريب، بل يشمل من له قرب بالجوار.
3- جعل مال اليتيم وقفًا عليه:
لا يجوز أن تطمح الأنظار إليه: فقد أحاط القرآن اليتيم بالحماية والرعاية، ونبه إلى ضرورة الحيطة فيه، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (الإسراء: 34).
والنهي عن الاقتراب من مال اليتيم هنا فيه مفهوم الموافقة أو فحوى اللفظ، إذ التصرف فيه، وأخذه منهي عنه من باب أولى. وعلى هذا، فإن مال اليتيم حمىً لا ينبغي أن يستباح؛ مبالغةً في التشديد على أهميته، وقد رتب الله سبحانه وتعالى على ذلك الوعيد البالغ، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء: 10).
وقد رتب القرآن في قسمة المواريث حقًّا لمن حضر القسمة من اليتامى بأن يرزقوا منه، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (النساء: 8).
والآية هنا فيها تطييب لخاطر اليتيم من حرمانه النفسي والمادي، قال أبو السعود: «وهو أمر ندبٍ كُلف به البالغون من الورثة تطييبًا لقلوب الطوائف المذكورة، وتصدقًا عليهم».
الرحمة بالطفل مستضعفًا
لقد رفع القرآن التبعة والمسؤولية عن الطفل قبل بلوغه، وجعله من زمرة المستضعفين، الذين هم أحوج ما يكونون للرحمة والعناية، وقد اشتملت سورة النساء- التي هي عنوان على المستضعفين- على استثنائهم من القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (النساء: 75).
فقد استثنى الوِلدَانِ المستضعفين من المشاركة في القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى، وقد بيّن القرآن عذر الولدان المستضعفين في شأن الهجرة في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (النساء: 98).
ولنا أن ننظر في لطف التشريعات القرآنية بهذه الفئة من الناس، التي لا تستطيع حيلةً ولا تهتدي سبيلا، ومعنى {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}: لا يقدرون على حيلة، ولا على قوة الخروج منها، {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} أي: لا يعرفون طريقًا إلى الخروج.
مراعاة الطفل رضيعًا
عني القرآن الكريم بالطفل في حال الرضاع، وفرض له حقًّا في الرضاع؛ لنماء جسده، وإكسابه صحةً جسديةً ونفسيةً، قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 233).
وهذه الآية وردت في سياق أحكام الطلاق وحقوق الزوجات، والنهي عن الإضرار بهن، ثم عرض القرآن للحديث عن حقوق الرضيع، وعن حقوق المرأة المرضع أيضًا، قال ابن عاشور: «{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}: والوالدات معناه: والوالدات منهن؛ أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآية الماضية، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم إلا بعد الفراق، ولا يقع في حالة العصمة؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة، وأنها لا تمتنع منه من تمتنع إلا لسبب طلب التزويج بزوج جديد بعد فراق والد الرضيع، فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج فيها؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة.
وجملة {يُرْضِعْنَ} خبر مراد به التشريع، وإثبات حق الاستحقاق، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن؛ لأنه قد ذكر بعد أحكام المطلقات، ولأنه عقب بقوله {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا} فإن الضمير شامل للآباء والأمهات على وجه التغليب، فلا دلالة في الآية على إيجاب إرضاع الولد على أمه، ولكن تدل على أن ذلك حق لها، وقد صرح بذلك في سورة الطلاق بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (الطلاق: 6)، ولأنه عقب بقوله {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 233) وذلك أجر الرضاعة، والزوجة بالعصمة ليس لها نفقة وكسوة لأجل الرضاعة، بل لأجل العصمة، وقوله {أَوْلَادَهُنَّ} صرح بالمفعول مع كونه معلومًا إيماءً إلى أحقية الوالدات بذلك وإلى ترغيبهن فيه؛ لأن في قوله {أَوْلَادَهُنَّ} تذكيرًا لهن بداعي الحنان والشفقة.
كما يتبين من قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (الطلاق: 6)، ظهورًا واضحًا لإيلاء الإسلام الرضاعة حديثًا جاء عقب الحديث عن التشريعات المتعلقة بالطلاق والعدة، وعقب إيصاء القرآن بالتقوى {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (الطلاق: 5).
كما تؤكد الدراسات أن الأطفال الذين يتم فطامهم في مرحلة مبكرة يصيرون في الكبر أقرب إلى التشاؤم في حين أن الأطفال الذين يتم فطامهم في مرحلة متأخرة، يصبحون في الكبر أكثر ميلًا إلى التفاؤل. وتؤدي القسوة في الفطام إلى ترك آثار نفسية سيئة عميقة في الطفل، قد يكون لها أثرها في المستقبل، وليس غريبًا أن يشعر الطفل بقلق دائم لا يعرف مصدره، أو يعوضه عن الثدي بمص أصابعه، وقضم أظافره.
ويتفق الباحثون على التوصية بضرورة إتمام عملية الفطام بالتدريج بتعويد الطفل تدريجيًا على تناول السوائل وغيرها من الأطعمة اللينة مبكرًا وزيادتها بالتدريج.
ولذا يجب الاهتمام بنفسية الطفل الرضيع؛ لأنه يتأثر بنفسية والدته {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (البقرة: 233)، قال محمد عبده: «العلة في الأحكام السابقة: منع الضرر من الجانبين، بإعطاء كل ذي حق حقه بالمعروف، وهو يتناول تحريم كل ما يأتي من أحد الوالدين للإضرار بالآخر، كأن تقصر هي في تربية الولد البدنية أو النفسية؛ لتغيظ الرجل، وكأن يمنعه هو من أمه ولو بعد مدة الرضاع أو الحضانة، فالعبارة نهي عام عن المضارة بسبب الولد، لا يقيد ولا يخصص بوقت دون وقت، أو حال دون حال، أو شخص دون شخص».
إذا نشأ الطفل في جو مشبع بالحب والثقة، فإنه يتحول عند نموه إلى شخص يستطيع أن يحب، لأنه أحب، وتعلم كيف يحب، وسيكون شخصًا يستطيع أن يثق، لأنه عاش في جو من الثقة مع الوالدين. في مثل هذا الوضع يحصل الطفل على إشباع لحاجاته النفسية كالشعور بالأمن والطمأنينة والإحساس بقيمته الشخصية.
ويؤكد الباحثون أنه كلما كانت العلاقة بين الوالدين منسجمة، كلما أدى ذلك إلى جو يساعد على نمو الطفل إلى شخصية كاملة ومتزنة، أما الخلافات والتشاحن بين الزوجين وخاصة عندما يشعر بها الطفل تعتبر من العوامل المؤدية إلى نمو الطفل نموًا نفسيًا غير سليم، كما أن الخبرات المؤلمة ذات الأثر النفسي غير السليم على نمو الطفل وشعوره بما يوجد بين والديه من انعدام الحب والعطف وما تحويه علاقاتهما من خلاف وتشاحن ينشئ صراعًا نفسيًا بالنسبة للطفل.
إن تنشئة الأطفال في مراحل نموهم الأولى تتطلب الأم المتخصصة المعدة إعدادًا سليمًا للأمومة، وهي التي تستطيع أن تشبع حاجة الطفل إلى الحب والحنان والرعاية، فينشأ نشأته السليمة التي تتوازن فيها نفسه أو يكون لديه الاستعداد للتوازن المناسب، وتلك نقطة البدء الخطيرة في حياة البشرية؛ لأنها هي التي ترسم مستقبل البشرية.
ولا يسقط حق الطفل في الرضاعة على أي حال، فإن من لم ترضعه أمه يستأجر والده مرضعًا، قال تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (الطلاق: 6).
إن أهمية الرضاعة لا تقتصر على مجرد تقديم الطعام للطفل، بل تتضمن أيضا ضرورة شعوره بالطمأنينة والعطف والحنان، وقد أكدت الدراسات على أهمية احتضان الطفل والالتصاق البدني بينه وبين الأم باعتباره عاملًا رئيسيًّا يحدد النمو الاجتماعي له؛ حيث إنه من المحتمل أن الالتصاق بين الطفل البشري مع أمه يحدث بشكل مؤكد حينما لا يكون الطفل الرضيع خائفًا.
وقد بين القرآن أن الرضاعة للطفل تؤكد لصوق الطفولة بالأمومة وقربها منها، وقد كشف القرآن مشهدًا يؤكد هذا الانسجام، فأشد ما يكون القرب حين تضم المرضعة رضيعها، وهي صورة من التواصل العاطفي والنفسي، وفي يوم عظيم مهول تتخلى تلك المرضعة عن طفلها، إذ سيفر الإنسان من أقرب الناس إليه، ولا يسأل الحميم عن حميمه، وقد اختار القرآن لبيان انقطاع الصلات في ذلك اليوم هذا الانقطاع في اتصال المرضعة برضيعها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (الحج: 1-2).
وهنا سرّ في التعبير بــــ {كل مرضعة}، إذ هناك فرق بين المرضعة والمرضع، قال الفيروز آبادي: {أرضعت المرأة، فهي مرضع: لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع الولد، قلت: مرضعة}.
وقال الجمل: {كل مرضعة} أي مباشرة للإرضاع، بأن ألقمت الرضيع ثديها، فهو بالتاء لمن باشرت الإرضاع، وبلا تاء لمن شأنها الإرضاع وإن لم تباشره.
التوجيهات التربوية والأدبية المستفادة من رحمة القرآن بالطفل
لقد راعى القرآن الكريم توجيه الطفل تربويًّا وأدبيًّا من خلال الإرشادات السلوكية والجوانب الخلقية، وقد سبق الإسلامُ كثيرًا من النظريات التربوية القديمة والحديثة في وصف خصائص الأطفال، وطرق تنشئتهم والعناية بهم: حيث ينظر الإسلام إلى الطفل الصغير على أنه مخلوق ضعيف لا يملك لنفسه نفعًّا ولا ضرًّا، ولكنه مُزَوَّدٌ بحواس وخصائص عقله، قادرٌ على التفاعل مع بيئته، وقابلٌ للتعلم، وتنظيم هذه المعاني من خلال الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28)، وقال أيضًا: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78)، وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 8-10).
فهم مزودون باستعدادات وقابليات للخير والشر في آن واحد، ومزودون بقدرات عقلية تمكنهم من التمييز والاختيار والتعلم.
وقد جاءت رحمة القرآن الكريم بتوجيه الطفل وتربيته، إرشادًا وتقويمًا ضمن أحكام تتعلق بزينة المرأة وآداب الدخول على الوالدين، وقد تناولت هذه الإرشادات والتوجيهات الخلقية والتربوية نوعين من الأطفال: النوع الأول: الطفل غير المميز، والنوع الثاني: الطفل المميز.
فأما ما يتعلق بالطفل غير المميز، فقد جاء التوجيه بشأنه ضمن الآيات التي تتعلق بزينة المرأة، قال الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (النور: 31).
وقد اختلف المفسرون في معنى {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}، والذي يظهر أنهم الذين لا يفرقون العورة من غيرها؛ لأن الطفل قد يبلغ عمرًا يميز به العورة من غيرها، ولا يملك قدرة على الوطء لعلةٍ أو ما شابه ذلك، ولأن الطفل غير المميز تأمن المرأة جانبه، بخلاف الذي قارب أوان البلوغ، زيادةً على أن صغره لا يؤثر في نفسيته، بحيث لا يبقى ذاكرًا لصورة النساء، مما لا يؤثر في سلوكه بعد البلوغ.
وإذا تأمل المتأمل كلمة (الطفل) يرى عدم الحاجة للنساء في هذا الوصف، وهذا يدل على براءة الطفل وسلامته من أثر الزينة التي تكشفها المرأة وتبديها له، وهذا ما رمز إليه ابن عاشور حين قال: «{لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} لم يطلعوا عليها، وهذا كناية عن خلو بالهم من شهوة النساء، وذلك ما قبل سن المراهقة».
وأما ما يتعلق بالطفل المميز، فقد جاء التوجيه القرآني بحقه ضمن الآيات التي تتعلق بآداب الدخول على الوالدين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور: 58-59).
فهذه آدابٌ في الاستئذان موجهة للعبيد، والإماء، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم من الأحرار، إذ هناك ثلاثة أوقات ينبغي فيها مراعاة الأدب في الاستئذان، وهي: من قبل صلاة الفجر، ووقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ إذ هي أحوال ربما انكشفت فيها عورة الرجل والمرأة، ولا يليق الدخول عليهما في تلك اللحظات، وقد سمى القرآن تلك الأوقات بالعورات؛ (لأن الإنسان يختل ستره فيها، والعورة: الخلل، والأعور هو المختل العين).
ويؤخذ من هذا: أن الطفل لا ينبغي أن يقف مواقف الخلل، أو أن تظهر له المعايب منذ نعومة أظفاره؛ أخذًا به في التربية وتقويم السلوك، وتشير الآية {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (النور: 59) إن ما سبق كان تدريبًا وتعليمًا للطفل، وترقيًا به في معارج الأدب، فإذا بلغ الحلم لا بد له من الاستئذان في كل وقت وحين، ولا يكون هذا أدبًا جديدًا بالنسبة له، فقد سبق له أن تأهل لمثل ذلك، قال النسفي: «والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن، إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك، ثم بلغوا بالاحتلام أو بالسن، وجب أن يفطموا عن تلك العادة، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن، والناس عن هذا غافلون».
وعلى هذا، فإن التوجيهات القرآنية قد أعطت للطفل المميز وغير المميز الإرشاد، الذي يكسبه التوازن في المجال النفسي والخلقي، ويحول بينه وبين الانحراف في الشخصية والسلوك.
الملخص
أولًا: رفع القرآن الكريم من شأن الطفل، وبين أنه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى تستحق أن يشكر عليها سبحانه وتعالى.
ثانيًا: من رحمة القرآن الكريم بالطفل أن راعى إنسانيته وفاعليته في الوجود، فحذر من قتل الأطفال ووأد البنات، وفرض له حقًّا في العيش والحياة، ورغّب في المولود الأنثى، وأرشد إلى حفظ الطفولة من الضياع، ووجه إلى الحفاظ على مواهب الطفل وتعزيزها والعناية بها.
ثالثًا: إن ما أرشد إليه القرآن من حقوق للطفل أخذت به الهيئات الإنسانية، فأصدرت ميثاقًا لحقوق الطفل، تكفل حقه في الحياة والبقاء، واحترام رأيه، وتضافر الجهود من أجل المصلحة الفضلى له.
رابعًا: أرشد القرآن إلى ضرورة تعزيز الطموح للطفل، والابتعاد عن الضغط النفسي الذي يحد من نشاطه وفاعليته، وأن التوازن النفسي أو الصّحة النفسية للطفل تكون من خلال المشاعر الإيجابية، التي تجعل الطفل في حالة استقرار نفسي.
خامسًا: راعى القرآن الكريم الحالة النفسية والجسدية للطفل رأفةً ورحمةً به، ورتب له الحقوق المادية والمعنوية، فراعاه يتيمًا، وراعاه مستضعفًا، وراعاه رضيعًا.
سادسًا: عني القرآن بتوجيه الطفل وتربيته، وشملت هذه التوجيهات: الطفل المميز وغير المميز؛ حمايةً له من الانحراف في الشخصية والسلوك.
.