الإمام حسن البنا يكتب: عام هجري جديد .. كيف نكون؟

كتب الإمام حسن البنا في مستهل عام هجري جديد يضع النقاط التربوية من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة أمام الجميع ليسيروا على درب الصالحين حتى يصلوا إلى فيوضات الرحمن من هذا العام...فكتب يقول:

قلت للرجل الواقف على باب العام الجديد: أعطنى نورًا أستضىء به فى هذا الغيب المجهول فإنى حائر، وقال لى: ضع يدك فى يد الله فإنه سيهديك سواء السبيل.

وعلى مفترق الطرق وقف السارى الكليل فى موكب الزمن يلقى نظرة إلى الآراء؛ ليستعرض ما لقى من عناء السفر ومتاعب المسير، ويلقى بنظرة إلى الأمام يتكشف ما بقى من مراحل الطريق.

أيها الحائر فى بيداء الحياة، إلى متى التيه والضلال وبيدك المصباح المنير ]قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ [المائدة: 15-16].

أيها الحيارى والمتعبون الذين التبست عليهم المسالك، فضلوا السبيل، وتنكبوا الطريق المستقيم، أجيبوا دعاء العليم الخبير ]يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ[ [الزمر: 53-54]، وترقبوا بعد ذلك أنين النفس وحسن الجزاء وراحة الضمير ]وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[ [آل عمران: 135-136].

أيها الأخ العانى المتعب الرازح تحت أعباء الخطايا والذنوب، إياك أعنى، وإليك أوجه القول، إن باب ربك واسع فسيح غير محجوب، وبكاء العاصين أحب إليه من دعاء الطائعين، جلسة من جلسات المناجاة فى السحر، وقطرة من دموع الأسف والندم، وكلمة الاستغفار والإنابة.. يمحو الله بها زلتك، ويعلى درجتك، وتكون عنده من المقربين، وكل بنى آدم خطاءون، وخير الخطائين التوابون ]إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[ [البقرة:222].

ما أقرب ربك إليك وأنت لا تدرك قربه! وما أحبك إلى مولاك وأنت لا تقدر حبه! وما أعظم رحمته بك وأنت مع ذلك من الغافلين! إنه يقول فى حديثه القدسى: "أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا ذكرنى؛ فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتانى يمشى أتيته هرولة" وفى حديث آخر: "يا ابن آدم، امش إلىَّ أُهرول إليك، وإنه ليبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل، وإنه لأعظم رحمة بعبده المؤمن من الأم الرءوم بواحدها الحبيب ]إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ [الحج: 65] ([1]).

من عرف حق الوقت فقد أدرك قيمة الحياة؛ فالوقت هو الحياة، وحين تطوى عجلة الزمن عامًا من أعوام حياتنا لتستقبل عامًا آخر؛ فقف على مفترق الطريق، وما أحوجنا فى هذه اللحظة إلى الفارقة أن نحاسب أنفسنا على الماضى وعلى المستقبل من قبل أن تأتى ساعة الحساب، وإنها لآتية؛ على الماضى فتندم على الأخطاء، ونستقيل العثرات، ونقوم المعوج، ونستدرك ما فات، وفى الأجل بقية، وفى الوقت فسحة لهذا الاستدراك، وعلى المستقبل فنعد له عدته من القلب النقى، والسريرة الطيبة، والعمل الصالح، والعزيمة الماضية السباقة إلى الخيرات، والمؤمن أبدًا بين مخافتين؛ بين عاجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه، وبين آجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه؛ فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت، وما من يوم ينشق فجره إلا ينادى: "ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد؛ فتزود منى فإنى لا أعود إلى يوم القيامة".

لقد حاولت أن أكتب بمناسبة العام الجديد فى ذكريات الهجرة وقصص الهجرة وعيد الهجرة، وكيف نحتفل بالهجرة؛ فوجدتنى مسوقًا على غير هذا كله إلى مناجاة هؤلاء الإخوة الأعزاء الذين أهملوا حق الوقت، وغفلوا عن سر الحياة، ولم يتدبروا حكمة الابتلاء الذى وجدنا من أجله ]الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[ [الملك: 2]، ]إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ[ [الإنسان: 2]. رأيتنى مسوقًا إلى مناجاة هؤلاء الإخوة الأعزاء بهذه الكلمات؛ لعلنا نستطيع أن ننزع يدنا من قياد الشيطان، ونسير مع كتائب الرحمن فى موكب المغفرة والرضوان؛ فتكون غرة المحرم الحرام صفحة بيضاء نقية مشرقة فى سجل الحياة إن سودت الذنوب كثيرًا من الصفحات يبدلها الله بالتوبة الصادقة حسنات مباركات، ]وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ[ [الشورى: 25-26].

ما أعظم رقابة الله على عباده ]لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ [ق: 16-18]، ]أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ[ [الزخرف: 80]. وما أدق الحساب يوم الجزاء ]فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[ [الزلزلة: 7-8]، ]وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[ [الأنبياء: 47].

وما أجزل المثوبة للعاملين ]وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى[ [النازعات: 40-41]، ]وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا[ [النساء: 40]، ]مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ[ [النمل: 89]، وما أعظم العفو عن التائبين ]إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[ [الفرقان: 70] ]وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى[ [طه: 82].

أيها الأخ المتعب العانى والرازح تحت أعباء الخطايا والذنوب، لا تيأس، ولا تقنط؛ فهذه ساعة المغفرة تؤذن مع أول العام الجديد، وهذه نسمات القبول ترف على قسمات وجهه الصبوح، وهذه أضواء الهداية تشع مع هلاله المشرق الجميل.

لقد جاء الإسلام الحنيف يحمل فى ثنايا أحكامه الصلاح كله للنفس الإنسانية والجماعة الإنسانية، وتحل بكلمات هذه المشاكل العالمية التى عجز عن حلها المصلحون والفلاسفة، وحسب الناس أن يضعوا نصب أعينهم مثل قول الله تبارك وتعالى: ]وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[ [آل عمران: 159].

]وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ[ [البقرة: 228].

]وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[ [المعارج: 25-26].

]فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ[ [الحجرات: 9]، ]إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[ [فاطر: 28].

وإلى جانب قوله تعالى: ]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا[ [الشمس: 7-10].

حسب الناس أن يطيلوا النظر فى هذه القواعد بإخلاص ليضعوا أيديهم تمامًا على مفاتيح الإصلاح الكامل، وعلى الحلول الموافقة لمشاكل الدنيا المعذبة بأسرها لو كانوا يعملون.

إننا نحن المسلمين لا نريد علوًا فى الأرض ولا فسادًا؛ لأن الله عوضنا عن ذلك الآخرة، ولكنا كذلك نجد من العقوق لأنفسنا وللناس أن نرى الدنيا تحترق فى نيران الأهواء الفاسدة والآراء الفاشلة ولا نتقدم للإنقاذ وفى يدنا مضخة الإطفاء، ولو كان للأصوات الفردية أثر لاكتفينا بهذه الصيحات، ولكان فيها للناس بلاغ، ولكن هكذا كان رأى الإنسان ألا يسمع دائمًا إلا الصوت القوى الداوى المجهز بالصفات الرسمية والمظاهر القوية، لهذا كان على دول الإسلام ألا تخشى، وأن تتقدم فى شجاعة وثقة بنفسها، وبما يحمل دينها من معادن الخير والصلاح لتقول للناس جميعًا: ]هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ[ [الحاقة: 19]، وهى إن فعلت ستفتح عين الدنيا الحائرة على طريق الاستقامة والسعادة والسلام ]قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ [المائدة: 15-16].

اذكروا هذا أيها المسلمون، واذكروا معه أن الدنيا لن تصغى لكم، ولن تستمع منكم، ولن تجيبكم إلى ما تطلبون إليها إلا إن كنتم أنتم نماذج صالحة للتمسك بما تدعون الناس إليه والعمل بهذا المنهاج الكريم القويم كتاب الله الذى ]لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[ [فصلت: 42]، وكنتم مع هذا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا واتجاهًا واحدًا؛ لأن الإسلام وِحدة وتوحيد، ولا شىء بعد هذا. إن الوحدة واجتماع الكلمة وائتلاف القلوب هى لب الإسلام ولا شك، والأمة الإسلامية أمة واحدة بحكم أخوة الإسلام ]وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[ [آل عمران: 103] "ولن تؤمنوا حتى تحابوا".

فإذا وفق العرب والمسلمون فى مفتتح عامهم هذا الجديد إلى أن يؤمنوا بأنفسهم كأمة واحدة مجيدة تحمل رسالة الحق والخير والنور، ثم حملوا أنفسهم بإخلاص على اتباع هدى كتابهم وسنة نبيهم، وتآخوا فى سبيل هذه الغاية، واجتمعت كلمتهم عليها؛ فلا شك أنهم واصلون إلى أهدافهم بإذن الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

وإن الإخوان المسلمين ليعملون بهذا ولهذا، وإنهم ليأخذون أنفسهم به أخذًا شديدًا، وإنهم ليهيبون بالأمة الإسلامية كلها أن تكون كذلك، وإن هذه المجلة ستكون المصباح المتواضع الذى يضىء للسائرين ممن أعجبتهم هذه الفكرة طريقهم؛ حتى يصلوا إلى ما يبتغون من إعزاز للإسلام، وإعلاء لتعاليمه، وجمع لكلمة المؤمنين به، والعاقبة للمتقين.

 

للمزيد:

  1. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 10 – صـ10، 11 – 3محرم 1362هـ / 9يناير 1943م.
  2. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 25، 26 – صـ4، 35 – 26محرم 1363هـ / 22يناير 1944م.

 

 

([1]) أجزاء من أحاديث نبوية رواه الإمام البخارى ، صحيح الإمام مسلم، كتاب التوبة ، مسند الإمام أحمد: 3/478

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم