إن قدرة الطفل على الالتقاط- الواعي وغير الواعي- كبيرة جدا.. أكبر مما نظن عادة، فهناك جهازان شديدا الحساسية في نفسه، هما جهازا الالتقاط والمحاكاة. وهو يلتقط بوعي، أو بغير وعي كامل، كل ما يراه حوله أو يسمعه.
كما أن هذه المحاكاة تتأثر بكل سلوكيات المربي الذي يشغل موقع القدوة بالنسبة للطفل، بأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، وإلى ذلك أشارت إحدى الدراسات أنه خلال أي اتصال بين الناس فإن 55% من الاتصال يكون بلغة الجسم و38% من لحن الخطاب و7% من الكلمات المستخدمة.
وفي هذه الدراسة، ترى الباحثة سحر شعير، أن التربية بالقدوة تعد من أهم طرق التربية؛ لأنها تحقق للمتربين إشباع خلة التقليد والمحاكاة الفطرية في نفوسهم ،حيث يشعرون بكمال آبائهم، ومن يقومون عليهم بالتربية فيقلدونهم ويتشبهون بهم، فما إن يجد الأبناء المثل الأعلى في المربي إلا أحبوه حبا عظيما، فينتقل من خلال التقليد، بدافع هذا الحب كل سلوك عظيم من القدوة إليهم.
انتبهوا لكاميرات المراقبة
عندما يبلغ الطفل السنة السادسة من عمره تقريبا يمكنه أن يحدد مدى التزام أهله بالتوجيهات التي يأمرونه بها، فإذا كان هناك تناقض فالتلقين لن يثمر مع الولد وإن استعملت معه جميع أنواع ووسائل التربية إن لم توجد القدوة الصالحة التي تكون بمثابة ترجمة عملية للمعاني المجردة؛ لأنهم مهما سمعوا من المربين فإنهم لن يحملوا في داخل أنفسهم سوى الصورة التي يرونها أمامهم من أنواع وأنماط السلوك.
فمهما كانت المعارف شريفة، والمعلومات صحيحة فإنها تفقد قيمتها الحقيقية بدون العمل والتطبيق، يقول الغزالي: «لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها، لا تفيده إلا بالعمل».
فالأطفال لا يدركون المعاني المجردة بسهولة، ولا يقتنعون بها بمجرد سماعها من المربي بل لابد من المثال الواقعي المشاهد؛ لأن الموعظة إن لم تؤد في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه، وأنه لا يغير النفس إلا النفس التي فيها قوة التحويل والتغيير، كنفوس الأنبياء ومن سار في طريقهم. يروى عن عبدالواحد بن زياد أنه قال: «ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه».
ولكن عن أي قدوة نتكلم؟
لا شك في أن القدوة الحسنة في التربية هي القدوة التي لا تعاني ازدواجية في المعايير، أو انفصاما وتناقضا بين القول والعمل، فالتناقض هنا يكون خطره عظيما على المتربي؛ يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: «والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم لكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم؛ لأنهم يسمعون قولا جميلا ويشهدون فعلا قبيحا؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم في علماء الدين ...».
لماذا نؤكد على أهمية القدوة في تربية الطفل؟
- لأن الطفل أمانة عند والديه وهما مسؤولان عنه أمام الله تعالى يوم القيامة.
- حاجة المتربي إلى النموذج العملي التطبيقي، وهذا الأمر لا يقتصر على الأطفال الصغار بل يمتد إلى العنصر البشري عموما، لذلك جعل الله تعالى رسله إلى خلقه بشرا أمثالهم حتى يتمكنوا من الأخذ عنهم ومحاكاتهم.
- لأن التناقض والانفصام بين القول والفعل قبيح ترفضه النفوس السليمة، فقد ذم الله تعالى ومقت الذين تخالف أعمالهم أقوالهم بأقوى وأوضح العبارات، فقال عز وجل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 2-3).
يقول الرافعي - رحمه الله - التي صاغ بها هذا القانون التربوي: «إن رؤية الكبار شجعان هي وحدها التي تخرج الصغار شجعان، ولا طريقة غيرها في تربية شجاعة الأمة».
فقد يكون من السهل أن تؤلف كتابا في التربية، أو أن تضع منهجا نظريا للتربية.. ولكن كل النظريات والكتب ستظل حبرا على ورق ما لم تتحول إلى واقع عملي يمشي على الأرض.. ما لم تتحول إلى بشر/ قدوات صالحين منضبطين يترجمون بسلوكهم وتصرفاتهم ومشاعرهم ذلك المنهج إلى حقيقة لا شك فيها.
.