تجلت مظاهر الرحمة في جميع جوانب حياة النبي ﷺ، حتى وصلت إلى البهائم، يقول ﷺ: «إنَّ اللهَ كتب الإحسانَ على كلِّ شيٍء. فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتْلَةَ. وإذا ذبحتم فأحسِنُوا الذبحَ. وليُحِدَّ أحدُكم شفرتَه. فليُرِحْ ذبيحتَه» (صحيح مسلم).
ومن المظاهر الدالة على هذه القيمة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام «رحمته في التعليم»، حيث إن رسول الله ﷺ كان معلمًا اختاره الحق سبحانه وتعالى؛ لتعليم البشرية دين الله وشريعته الخالدة، فكان القدوة والأسوة الحسنة في التعليم.
وفى دراسة بعنوان: «معالم الرحمة في تعليم النبي ﷺ»، للباحثَين في قسم التربية الإسلامية بكلية الشريعة - جامعة اليرموك، د. عماد عبد الله الشريفين، و د. رابعة زكريا معابدة، حاولا رصد أمثلة رحمته عليه الصلاة والسلام وتواضعه مع المتعلمين، وتقديم المكافآت لهم، ومراعاة الفروق بينهم، وتنوع أساليب وطرائق التعليم، واستخدام مختلف الوسائل التعليمية، وكذلك بناء التعليم على مجموعة من المبادئ والأسس التي يعتمد عليها التعليم الحديث كإلزامية التعليم، واستمراريته، والثواب والعقاب، والتدرج في التعليم.
معالم رحمة الرسول ﷺ في أساليب التعلم وطرائقه
تُعرف أساليب التعليم وطرائقه بأنها: مجموعة القواعد العامة، والضوابط التي يلتزمها المعلم في المواقف الصفية؛ لتحقيق التعلم المخطط له والمقصود، وتتنوع تبعًا لنوع المادة العلمية وخصوصياتها، وتبعًا لمجال الأهداف، ومستوياتها، وتبعًا للمتعلمين وجنسهم، ومستوياتهم الدراسية إضافة إلى بيئة التعليم أو الإمكانات المتاحة والتسهيلات المرافقة.
وقد تجلت رحمة الرسول في تنوع الأساليب التي استخدمها في التعليم تبعا لظروف التعليم، ونوع المتعلمين مراعيًا استخدام الأسلوب الأفضل، فلم يستخدم أسلوبًا فوق مستوى المتعلمين، ولم يقتصر في تعليمه على أسلوب واحد في تلك المواطن التعليمية، ولتوضيح الفكرة نذكر بعض الأمثلة فيما يلي:
1- أسلوب المحاضرة:
في يوم حنين عندما أعطى النبي ﷺ من رافقه في غزوته من قريش وغيرهم عطاءً كثيرًا، ولم يعط أحدًا من الأنصار شيئًا، فوقع في نفوس بعضهم شيء، فأمر الرسول ﷺ سعد بن عبادة، فجمع أصحابه من الأنصار، وخطب خطبته المشهورة، والتي فيها: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله ﷺ وتفرقنا.
وقد ظهرت رحمته ﷺ في استخدام أسلوب المحاضرة في أمور منها:
الموضوع كان مناسبًا لاهتمامات المتعلمين ملبيًا لاحتياجاتهم، واستخدم العاطفة العميقة التي تناسب المتعلمين وتلاقي قبولًا وإرضاءً لديهم، وتلبي حاجتهم، وتُقَوِّمُ ضعفهم، وتقوي إيمانهم ومحبتهم بقائدهم، والدعاء للمتعلمين وهذا من رحمته ﷺ.
2- الحوار والمناقشة:
ورد في السنة المطهرة أمثلة عديدة على ذلك نذكر منها: عن أبي أمامة قال: إنَّ فتًى شابًّا أتى النبيَّ ﷺ فقال: يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي بالزِّنا؛ فأقبل القومُ عليه فزجَروه وقالوا: مَهْ مَهْ؛ فقال: «ادنُهْ»، فدنا منه قريبًا قال: فجلس قال: «أَتُحبُّه لِأُمِّكَ؟» قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم» قال: «أفتُحبُّه لابنتِك» قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لبناتِهم» قال: «أفتُحبُّه لأُختِك» قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لأَخَواتِهم» قال: «أَفتُحبُّه لعمَّتِك» قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَكَ قال: «ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لعمَّاتِهم» قال: «أفتُحبُّه لخالتِك» قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَكَ قال: «ولا النَّاسُ يحبونَه لخالاتِهم» قال: فوضع يدَه عليه وقال: «اللهمَّ اغفرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّنْ فرْجَهُ»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ.
وقد ظهرت الرحمة في هذه المواقف في عدة أمور منها:
- تعليم الجاهل، وإرشاده باللين وعدم القسوة عليه، وتوضيح الأمر له توضيحًا كاملًا لا لبس فيه، ولا غموض.
- التأني وعدم مؤاخذة الجاهلين ومسامحتهم في مواطن التعليم.
- الاحترام المتبادل بينه وبين من يحاوره ويناقشه، حيث يبدي كل طرف ما عنده بصراحة وموضوعية، ودون خوف فيجنب المحاورين اللقاء دون الوصول إلى نتيجة.
- الصدق في الاستدلال؛ مما يجعل الحوار والمناقشة نافعة ومحمودة، وتقود إلى نتائج صحيحة يمكن تعميقها.
- تأمين التواصل وتبادل الآراء والأفكار ونقلها بين المعلم والمتعلمين؛ مما يساعد على تطوير أفكارهم، وتحسين مستوياتهم، وتنويع مجالات اهتماماتهم.
- حسن التكيف والتوافق الاجتماعي؛ ففي المثالين السابقين عالج الرسول ﷺ مشكلات اجتماعية حساسة بحيث قطع الشك باليقين، في مثل هذه القضايا التي لا يجدر أن يكون فيها نسب ضئيلة من الشك إضافة إلى حسن التفاعل بين المعلم والمتعلم يساعدان في هذا التوافق والتكيف الاجتماعي، إضافة إلى أن المتعلم يبدي وجهة نظره بحرية ومسؤولية؛ مما يجعله عنصرا فاعلًا ومشاركًا، وليس مستقبلًا للحقائق فقط، وينمو لديه التفكير الناقد والابتكاري.
3- السؤال والجواب:
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه أنه قال: خطَبَنَا النبيُّ ﷺ يومَ النحرِ، قالَ: «أتَدْرونَ أيُّ يومٍ هذَا؟». قلنَا: اللهُ ورسولُهُ أعْلَمُ، فسَكَتَ حتى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسمِهِ، قالَ: «أَلَيسَ يومَ النَّحرِ!». قلنَا: بلَى، قالَ: «أيُّ شهرٍ هذَا؟». قلنَا: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، فسَكَتَ حتى ظنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسمِهِ، فقالَ: «أليسَ ذو الحجةِ!». قلنَا: بلى، قالَ: «أيُّ بلدٍ هذَا؟». قلنَا: اللهُ ورسولُهُ أعْلمُ، فسكتَ حتى ظنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيِه بغيرِ اسمِهِ، قالَ: «أليستْ بالبَلْدَةِ الحرامِ!». قلنَا: بلَى، قالَ: «فإنَّ دماءَكُمْ وأموالَكُم عليكُمْ حرَامٌ، كحُرْمَةِ يومِكُمْ هذَا، في شهرِكُم هذَا، في بلَدِكُم هذَا، إلى يومِ تلقَونَ ربَّكُم، ألا هَلْ بَلَّغْتُ». قالوا: نعمْ، قالَ: «اللهمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الغائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى من سَامِعٍ، فلا تَرْجِعوا بعدِي كفارًا، يضرِبُ بعضُكُم رقابَ بعضٍ».
وقد استخدم النبي ﷺ السؤال بهدف توضيح الأمور الدينية والدنيوية، بدون إملال، وبأسلوب يستثير المتعلم؛ لتقبل المعلومة المطلوبة، ولم يكتف الرسول ﷺ بذلك، بل كان يحث أصحابه على السؤال عما يجهلونه، أو ما لا يعرفونه ومناقشتهم في ذلك. يقول عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ما دمت في مقامي...».
إضافة إلى أن الحبيب المصطفى كان يتوسع في الإجابة على الأسئلة منتهزًا فرصة السؤال للتعليم، فعن ابن عمر، عن النبي ﷺ أن رجلًا سأله ما يلبس المُحرِم فقال: «لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا القباء، ولا ثوبًا مسه ورس أو زعفران، ولا يلبس الخفين إلا ألا يجد النعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين». يقول الحافظ ابن حجر: إن مطابقة الجواب للسؤال غير لازم: بل إذا كان السبب خاصًا والجواب عامًا جاز، وحمل الحكم على عموم اللفظ لا على خصوص السبب؛ لأنه جواب وزيادة فائدة.
وتظهر رحمته ﷺ في الاستزادة للسائل رفعًا للحرج عنه فيما أراد أن يسأل عنه، إضافة إلى توسيع المعلومات المطلوبة في الأحكام وإظهار الاهتمام بالمتعلم وسؤاله وتقديره فتزيد المحبة والاحترام بينه وبين المتعلمين، فيبادر المتعلمون بالمزيد من الأسئلة التي يجهلونها في جوٍّ من التقدير والاحترام، فيرتفع مستواهم الديني والعقلي.
ولم تقتصر أهداف استخدام الرسول ﷺ السؤال على توسيع مدارك المتعلمين ونقل المعارف إليهم، بل على حثهم على التفكير والاستكشاف، وربط المعارف الحديثة المتحصلة من السؤال بمعارف سابقة، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «إن من الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُها، وهي مثلُ المسلمِ، حدِّثوني ما هيَ؟» فوقعَ الناسُ في شجرِ الباديةِ، ووقعَ في نفسي أنها النَّخْلَةُ، قال عبدُ الله: فاسْتَحْيَيْتُ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أخبِرنا بها، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «هي النَّخْلَة». قال عبد الله: فحدثتُ أبي بما وقعَ في نفسي، فقال: لأن تكون قُلْتها أحبُّ إليَّ من أنْ يكون لي كذا وكذا.
فانظر إلى الربط الجميل بين النخلة والمسلم، وانظر إلى أثر ذلك في المتعلم، أن رحمة الرسول ﷺ تتجلى في صورة رائعة في التعليم.
وقد ظهرت الرحمة في المواقف السابقة في عدة أمور:
توضيح الأمور الدينية والدنيوية بدون إملال، وبأسلوب يستثير المتعلم؛ ليقبل المعلومة، ويبقى بعيدًا عن الجهل الذي يعد عدو الرحمة. والتوسع في طرح المعلومات التي قد يحتاج إليها المتعلم. وحث المتعلم من خلال السؤال على طرح الأسئلة رفعًا للحرج الذي قد يلحق به. وحث المتعلم من خلال السؤال على التفكير، والاستكشاف، وربط المعارف القديمة بالحديثة.
4- ضرب الأمثال:
نهج الرسول ﷺ هذا النهج الرباني فقد علمه وأدبه رب العالمين فيقول الرسول ﷺ: «مثَلُ المُدْهِنِ في حدودِ اللهِ والواقعِ فيها، مثلُ قومٍ استهَموا سفينةً، فصارَ بعضُهُم في أسفَلِها وصارَ بعضُهُم في أعلاها، فكان الَّذي في أسفلِها يمرُّونَ بالماءِ على الَّذين في أعلاها، فتأذَّوْا به، فأخذَ فأسًا، فجعلَ ينقُرُ أسفلَ السَّفينةِ، فأتَوْهُ فقالوا: ما لكَ، قال: تأذَّيتُم بي ولا بُدَّ لي من الماءِ، فإنْ أخَذوا على يدَيهِ أنجَوهُ ونجَّوْا أنفُسَهم، وإنْ ترَكوهُ أَهلكوهُ وأهلَكوا أنفُسَهم»؟
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: إنَّ مَثَلي ومَثَلَ الأنبياءِ من قبلي، كمَثَلِ رجلٍ بنى بيتًا، فأحسَنه وأجمَله إلَّا موضِعَ لبِنةٍ من زاويةٍ، فجعَل النَّاسُ يطوفونَ به، ويعجَبونَ له ويقولون: هلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنةُ؟ قال: فأنا اللَّبِنةُ، وأنا خاتمُ النَّبيِّينَ».
لقد استخدم الرسول ﷺ ضرب الأمثال لتقريب المفهوم النظري المطلوب إلى أذهان المتعلمين، فتلتصق المعلومة في الذهن؛ لارتباطها بمفهوم حسي مدرك للمتعلمين، ويتضح خلق الرحمة عند النبي ﷺ في استخدامه الأمثال في البعد عن أناقة الألفاظ واتساقها، والاهتمام بتوصيل المفهوم المقصود؛ لتطوير قدرات الأفراد، والأمثلة المستخدمة تساعد على إجراء المقارنة والقياس في ذهن السامع، فتتطور القدرة العقلية لديه، إضافة إلى أنه لم يسرف في استخدام الأمثال، بل استخدمها بالقدر المناسب حتى لا يشوش على المتعلمين، وراعى أعمار المتعلمين ومستوياتهم الثقافية، وهذا من رحمته ﷺ، وأخيرًا تُعد الأمثال دوافع تحرك العواطف والوجدان إلى عمل الخيرات، واجتناب المنكرات، وبهذا تساهم الأمثال في تربية السلوك الخير، وتهذيب نزعات المتعلم الشريرة، فتستقيم حياة الأفراد والمجتمعات.
5- القصة:
من رحمته ﷺ أنه استخدم القصص في كثير من الأحيان؛ لترسيخ الإيمان بالله ووحدانيته، وتنمية القيم الاجتماعية والأخلاقية الفاضلة، ولأخذ العبرة من أخطاء من سبقونا، ومن الأمثلة التي استخدم فيها الرسول ﷺ القصة: ما ورد في قصة الثلاثة الذي آواهم المبيت في الغار، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع، وقصة أصحاب الأخدود، وقصة موسى والخضر... وغيرها كثير.
وكان استخدام الرسول ﷺ القصص ذات المغزى المحدد، والمشوقة والمناسبة لمستوى المتعلمين، ولغتهم وكل هذه عوامل نجاح القصة كأسلوب منشود لتطوير مستوى الفرد، وإبعاد السآمة عن المتعلمين في ظروف معينة؛ لتوصيل فكرة محددة مرتبطة بقيم عقدية، أو خلقية كما في القصص المذكورة كالرحمة والرفق بالحيوان، وأهمية الإيمان والتمسك بالعقيدة، وأهمية الإخلاص في العمل، وغيرها الكثير، وتظهر الرحمة في القصص النبوي، ببساطة الأسلوب، ووضوح الهدف؛ مما جعله مناسبًا لجميع فئات المجتمع، كما أنه يمتاز بطرافة الموضوع، وجاذبيته حتى أنه ليأسر القلوب، والنفوس.
معالم رحمة النبي ﷺ في المبادئ التربوية والتعليمية
مبادئ التعليم هي مجموعة الركائز التربوية التي تجعل من عملية التعليم والتعلم عملية ناجحة، وفاعلة، ومحققة للأهداف التربوية والتعليمية والسلوكية المخطط لها والمقصود منها، وقد قامت تربية الرسول ﷺ لأصحابه على عدة مبادئ يمكن أن يستقى منها مبادئ التربية والتعليم في الوقت الحاضر، وهذه المبادئ تدل على رحمته ﷺ بالمتعلمين وهي:
المبدأ الأول: مبدأ إلزامية التعليم:
إن أول ما أنزل على الحبيب المصطفى ﷺ من القرآن هو: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 1-4)؛ لذلك كان دأبه ﷺ التعليم والتثقيف، ورفع الجهل، وكان يحث الصحابة على التعلم والتفقه في الدين يقول ﷺ: «طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ...»؛ رحمة بهذه الأمة التي كان وما يزال عدوها الأول هو الجهل، فرحمته ﷺ بأمته دعته إلى إبراز فرضية العلم والعمل، وهذا من باب حب الخير لهم، والخوف عليهم.
وتعدى ذلك إلى طلبه ممن يسمع الحديث أن ينقله لغيره: «فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» وقد تنوعت المجالس التعليمية التي كان الحبيب المصطفى ﷺ يقوم فيها معلمًا ومدرسًا، فمنها المجالس الخاصة، ومنها العامة للناس كافة، ومنها مجالس خاصة بالنساء، ولقد ركز الحبيب المصطفى ﷺ على كل الفئات العمرية يقول ﷺ: «مروا أولادكم بًالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع». واشتمل التعليم على أصناف العلوم الموجودة، فقد أمر بعض أصحابه بتعلم اللغات الأخرى كالعبرانية، والسريانية مثلًا، وأهتم بتعليم من أسلم حديثًا، وبعث مندوبين؛ ليعلموا القبائل البعيدة عنه أمور دينهم وأحكامه.
المبدأ الثاني: استمرارية التعليم:
إن كان التعليم إلزاميًا وفرضًا على كل مسلم ومسلمة فهو ليس لفترة محدودة، أو في وقت معين، بل يشمل جميع مراحل الحياة من المهد إلى اللحد، فعندما أمر الرسول ﷺ في قوله: «مروا أولادكم بًالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع». فقد بدأ التعليم في سن صغيرة، وبأسلوب محدد، وتطور الأسلوب التعليمي مع الزمن، ولم يقف عند حد معين، وفي اعتماد الرسول ﷺ مبدأ الاستمرارية إنما يدعو إلى أن يفشو العلم في الأرض، وينشر بين الناس، فلا يكون حكرًا على طائفة من الناس دون غيرهم، وهذا يؤكد رحمته ﷺ بالمتعلمين.
المبدأ الثالث: مراعاة الفروق الفردية:
إن السمات والصفات التي يتمتع بها الأفراد المتعلمون مختلفة من فرد لآخر، يتفاوتون في مستوى الذكاء، والفهم للنصوص، أو قدرتهم على التعلم والإنجاز، وتعد مراعاة الفروق الفردية من ذكاء المعلم، ومن رحمته بالمتعلمين، وقد ظهر جليًا رحمة الرسول ﷺ بالمتعلمين ومراعاته لظروفهم وبيئاتهم، ومستوى فهمهم، وتتضح رحمته ﷺ من خلال مراعاة حالة الأفراد النفسية، فقد كان الرسول ﷺ لا يطيل على المستمعين؛ مخافة الملل والسآمة.
وتتضح رحمته ﷺ في مراعاته لغة الخطاب، فكان الرسول ﷺ يقول كلامًا موجزًا مفهوما للمتلقي، وذلك لتسهيل عملية وصول المعرفة للمتعلم، كما كان يخاطب بعض الناس بلهجاتهم؛ لتسهيل وصول المعلومة إليهم كقوله ﷺ لكعب بن أبي عاصم الأشعري رضي الله عنه وهو من أصحاب السقيفة: «ليس من امْبِرِّ امْصيامُ فِمْسَفرِ». قال ابن حجر في الحديث: وهذه لغة لبعض أهل اليمن يجعلون لام التعريف ميمًا يحتمل أن الرسول ﷺ خاطب بها هذا الأشعري؛ لأنها لغته.
كما أن الرسول ﷺ استخدم أحيانًا التشبيهات المتعلقة باللغة الدارجة في ذلك الوقت «البعرة تدل على البعير» فهذا لفظ سهل التعرف عليه في ذلك الوقت فاستخدمه الرسول ﷺ. وتتضح رحمته ﷺ في مراعاة الاستعدادات والقدرات، والتي هي قابلية الفرد أو قدرته الكامنة على التعلم بسرعة وسهولة، وعلى الوصول إلى مستوى عالٍ من المهارة في مجال معين، والاستعدادات مختلفة تبعًا لعوامل فطرية، أو بيئيةٍ، أو ثقافيةٍ، أو اجتماعيةٍ.
وتظهر رحمته ﷺ جليًا في تفهمه لاستعدادات المتعلمين وقدراتهم وذلك من خلال: الاعتناء بعدد كلامه ونوعه، فيروى «أن النبي ﷺ كان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه». وكان يعيد الكلام مرتين أو ثلاثًا؛ وذلك ليفهمه السامعون جيدًا مراعيًا أن هناك من لا يستوعب من أول مرة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ: «أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا».
إضافة إلى اتباع منهج التيسير والتبشير؛ لأنه أقرب إلى نفوس المتعلمين وقدراتهم، فقد كان يوصي أصحابه بذلك فقد قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى «يَسِّرا ولا تُعَسِّرا. وبَشِّرا ولا تُنفِّرا. وتطاوعَا ولا تختلِفا»، وتعددت إجابة الرسول ﷺ في المسالة الواحدة، فقد سأله كثير من الصحابة عن أي الإسلام أفضل؟ أو أي العمل أفضل؟ فيجيب بحسب حال المتعلم.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت النبي ﷺ: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها». قلت: ثم أى؟ قال «ثم بر الوالدين». قلت: ثم أى؟ قال: «ثم الجهاد في سبيل الله».
وعن أبى موسى قال: قلت يا رسول الله، أى الإسلام أفضل؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وفي مجلس آخر سُئِل الرسول ﷺ عن أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت، وعلى من لم تعرف».. وغير ذلك من الأمثلة كثيرة. قال ابن حجر: ومحصل ما أجاب به العلماء بأنه أفضل الأعمال: أن الجواب اختلف باختلاف أحوال السائلين بأنه أعلم كل قوم ما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو لائق بهم.
وكذلك تظهر رحمته ﷺ في أنه يفسر ويشرح للمتعلمين بحسب ما يحتاجون إليه، وبالوقت الذي يحتاجون إليه؛ لذلك كان يقول للمتعلمين: «ذروني ما ترَكتُكم؛ فإنَّما هلَك الَّذينَ من قبلِكم بِكثرةِ مسائلِهم واختلافِهم على أنبيائِهم، ما نَهيتُكم عنهُ فاجتَنبوهُ، وما أمرتُكم بِه فافعلوا منهُ ما استطعتُم». ويهتم بسن المتعلم وما يمتلك كل سن من قدرات، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها قال: «كنا عند النبي ﷺ فجاءَ شابٌ فقال: يا رسولَ اللهِ أقبّلُ وأنا صائمٌ؟ فقال: لا. فجاءَ شيخٌ فقال: أقبّلُ وأنا صائمٌ؟ قال: نعم. فنظرَ بعضنا إلى بعض فقال رسولُ اللهِ ﷺ: قدْ علمتُ نظرَ بعضكُم إلى بعضٍ، إن الشيخَ يملكُ نفسهُ».
والحديث يدل على اعتراف واضح بوجود الفروق الفردية، ووجوب مراعاتها، وهذا من رحمته ﷺ بالمتعلمين، حيث تتضح رحمته ﷺ في مراعاة جنس المتعلم، لقد راعى الرسول ﷺ احتياجات كل جنس وطبيعة التعليم المقصود، والمحتاج إليه، فتنوعت المجالس التي يقيمها الرسول ﷺ، ومنها مجالس خاصة بالنساء واحتياجاتهن، وهناك مجالس عامة، وأخرى خاصة بالرجال، والسنة النبوية تزخر بالعديد من الأمثلة الدالة على ذلك.
المبدأ الرابع: التدرج في التعليم:
التدرج: هو الاقتراب من الغاية درجة تلو أخرى حتى تصبح عادة مستحبة في النفس شيئًا فشيئًا، وقد استخدم القرآن هذا الأسلوب في فرض بعض الأوامر، والأحكام كتحريم الخمر، أو لتثبيت فؤاد المصطفى ﷺ فكان ينزل بحسب المناسبة، أو لتسهيل حفظه، فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان من الصعوبة بمكان فهمه، وحفظه، وتدبر معانيه.
ومن رحمة الحبيب المصطفى ﷺ: أنه استخدم هذا الأسلوب التربوي في تربية أصحابه رضي الله عنه خير تربية، حيث علمهم أحسن تعليم مراعيًا بذلك الجوانب النفسية لهم، ودرجة نضجهم وسنهم؛ وذلك رحمة بهم، وقد كان للتدرج عند الحبيب المصطفى ﷺ مجالات، منها: التدرج في تعليم العبادات، ففي حديث الرسول ﷺ: «مروا أولادكم بًالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع».
تظهر الرحمة في التدرج من خلال مناسبة الفعل والعقوبة المناسبة للسن، ففي السن الصغيرة يحث الطفل على أداء العبادة، ويكافئ على ذلك، ثم يعلم أركان الصلاة وسننها، ومفسداتها، حتى إذا استوعب كل ذلك، يؤخذ الأمر على محمل الإلزام، فيؤمر ويضرب إذا لم يفعل، ويرافق ذلك تدريب الأطفال على حضور الجمع والجماعات والأعياد، حتى إذا ما بلغ الحلم كان ملتزمًا بالصلاة ومتقنًا لها، ويقاس على ذلك سائر العبادات، أو الأوامر الربانية.
وكذلك وتظهر الرحمة في التدرج في الأسلوب، حيث يمر كمال التعليم بعدة مراحل، كل مرحلة متناسبة مع فترة زمنية لعمر المتعلم، فتعليم الصلاة مثلا يبدأ بالقدوة، ثم بالتفهم والإقناع، ثم بالتحبب والترغيب، ثم بالقصة أو النصح والإرشاد، ومن ثم التدريب والتعويد والتكرار، ثم بالثواب أو العقاب، وتزخر السنة النبوية بعدد من الأمثلة التي تؤكد أهمية التدرج في الأسلوب.
وتتضح رحمته ﷺ في تدرجه من الأهم إلى المهم، وقد كان هذا واضحًا في حياة الرسول ﷺ، فإنه بقي ثلاث عشرة سنة في مكة يعلمهم العقيدة والأخلاق، ويثبتها في نفوسهم، ويبعد عنهم الجاهلية، وغبار الشرك، والوثنية، ثم انتقل إلى المرحلة الأخرى، وهي تكليفهم ببناء الدولة الإسلامية، والجهاد، ودعوة الأمم الأخرى إلى الإسلام. كما أن الرسول ﷺ كان إذا بعث من يعلم الناس دينهم يأمره بأن يبدأ بالشهادتين، ثم أركان الإسلام الأخرى تدريجيًا، ففي قوله ﷺ لمعاذ: «إنك تَقدُمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فليكُنْ أولَ ما تدعوهم إليه عبادةُ اللهِ، فإذا عرَفوا اللهَ، فأخبِرْهم: أن اللهَ قد فرَض عليهم خمسَ صلواتٍ في يومِهم وليلتِهم، فإذا فعَلوا، فأخبِرْهم أن اللهَ فرَض عليهم زكاةً من أموالِهم، وتُرَدُّ على فقرائِهم، فإذا أطاعوا بها، فخُذْ منهم، وتَوَقَّ كرائمَ أموالِ الناسِ». فالأساس الاهتمام بالشهادتين أولًا كبداية لإعلان الإسلام وهو الأهم، ثم تكلفهم بما هو مهم وهو الصلاة، وهذا يندرج على أنواع التعليم كلها.
وتتضح رحمته ﷺ في تدرجه من البسيط إلى الأكثر تعقيدًا ففي حديث الرسول ﷺ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، والذي ذكر في صورة التدرج من الأهم إلى المهم ينطبق عليه أيضًا تدرجه من البسيط إلى الأكثر تعقيدًا فالشهادتان هما «الأصل في الدخول في الإسلام» والأهم والأيسر والأقصر، والأقل تكلفة- أي: في عدم الحاجة إلى معرفة كثير من الأحكام-، ثم تأتي الصلاة، والتي تكون أكثر تعقيدًا لحاجتها إلى معرفة كيفية أدائها، وسننها، ومبطلاتها، ومن ثم الزكاة فالحج، فتعاليم الدين الأخرى التفصيلية.
وكذلك تتضح رحمته ﷺ في تدرجه من المعلوم إلى المجهول، وتتجلى رحمته ﷺ في التدرج من المحسوس إلى المجرد، فالأفراد المتعلمون يتقبلون الصور المحسوسة أكثر من الصور المجردة، لذلك استيعابه للأدب العملي أسرع وأعمق من استيعابه للأدب النظري، وكلما نجح المعلم في الربط بين المحسوس والمجرد كلما كانت العملية التعليمية أسهل وارسخ في ذهن الطالب.
لذلك كان الرسول ﷺ يستغل المواقف التعليمية؛ لينقل المتعلمين من الحس إلى المجرد، ويطرح الأفكار المطلوبة؛ ليصل إلى الحقائق الغائبة عن الأذهان، وكذلك تتضح رحمته ﷺ في التدرج في إصدار الحكم؛ فالحكم عملية تشخيصية علاجية ووقائية، تمكن المعلم من معرفة مستوى أدائه، ومناسبة وسائله وأساليبه، ومقدار ما تحقق من أهداف تعليمية مخطط لها.
المبدأ الخامس: إثارة الدافعية:
مر الرسول ﷺ بجنازة فقال: «مستريح، ومستراح منه». قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه.؟ قال: «العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب». وعن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت آنس بن مالك، رضي الله عنه، يقول: مَرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا فقال النبي ﷺ: «وجبت»، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شرًا، فقال: «وجبت»، فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض». لقد جعل الرسول ﷺ المتعلمين في كلا المثالين يسعون لمعرفة المقصود بالكلام، ولم يقله ﷺ مباشرة، بل جعلهم يبحثون ويتساءلون، وهذا من رحمته ﷺ؛ لتحقيق إدامة التعلم.
معالم رحمة الرسول ﷺ في استخدامه الوسائل التعليمية
يقصد بالوسيلة التعليمية مجموع الأشياء المادية التي يستخدمها المعلم؛ لتحسين مخرجات التعليم، وتوضيح الأفكار والمعاني وإثارة اهتمامات المتعلمين، وواقعيتهم نحو التعليم، وإزالة الرتابة عن الموقف التعليمي، وتنمية مهارات المتعلمين الفكرية، واللفظية، والحرفية، والوسائل من العناصر الهامة في المواقف التعليمية؛ لأنها توفر الوقت والجهد على المعلم والمتعلم على حد سواء، وتشعر المعلم بالرضا النفسي، وتشعر المتعلم أنه قادر على استيعاب المعلومات والمعرفة، ومن الأمثلة على الوسائل التعليمية التي استخدمها الرسول ﷺ؛ ليحقق الأهداف التعليمية والدعوية:
- الرسم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: خَطَّ النبيُّ ﷺ خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا في الوَسَطِ خارِجًا منهُ، وخَطَّ خُطَطًا صِغارًا إلى هذا الذي في الوَسَطِ مِن جانِبِهِ الذي في الوَسَطِ، وقال: «هذا الإنْسانُ، وهذا أجَلُهُ مُحيطٌ بهِ- أو: قَدْ أحاطَ بِهِ- وهذا الذي هو خارِجٌ أمَلُهُ، وهذِهِ الخُطَطُ الصِّغارُ الأعْراضُ، فإنْ أخْطَأهُ هذا نَهَشَهُ هذا، وإنْ أخْطَأهُ هذا نَهَشَهُ هذا».
شرح الحديث: قال ﷺ: (هذا الإنسان)؛ أي: هذا الخطُّ هو الإنسانُ على سبيل التمثيل، (وهذا أجَلُه محيطٌ به)؛ إشارةً إلى المربَّع، (أو قد أحاط به) وهذا الخطُّ المنفرد الذي هو خارج من وسط الخطِّ المربَّع أملُه، (وهذه الخُطُط)؛ أي: الخطوط الصِّغار؛ أي: الشَّطبات التي في الخطِّ الخارج من وسَطِ المربَّع من أسفله، أو مِن أسفله وأعلاه، (الأعراض)؛ أي: الآفات العارضة له؛ كمرضٍ أو فقْدِ مالٍ أو غيرهما، أو المراد بالخطوط المِثالُ، لا عدد مخصوص معيَّن، (فإنْ أخطَأه)؛ أي: فإنْ تجاوَزَ عنه هذا العَرَضُ وسلِم منه (نهَشَه)؛ أي: أصابه وأخَذه (هذا)، والنَّهْشُ: لَدْغُ ذوات السُّمِّ، عبَّر به مبالغةً في الأخْذ، وإن أخطَأه هذا العَرَضُ نهَشه هذا العرَضُ الآخَر، وهو الموت، فمَن لم يمُتْ بالسبب مات بالأجَل، والحاصل أنَّ الإنسانَ يَتعاطَى الأمل، ويَختلِجه الأجَلُ دون الأمَل. ويُتعلم من الحديث: 1- التعليمُ بما تُدركه الأبصارُ؛ ليكون أَدْعى إلى تعليمِ السامِعين في سرعة؛ ليُدرك ذلِك من سمِعه بسمعِه وبصرِه. 2- التنبيهُ على أنَّ الأجَل مقسومٌ معلوم لا يتجاوَزه متجاوِزٌ. 3- أنَّ الأجَل لا يَعلَمه أحد إلَّا اللهُ سبحانه وتعالى، وأنَّه غُيِّب عن الآدميِّين؛ ولذلك تجاوزتْه الآمال، وبعَّدتْه الأطماع. 4- أصلٌ من أصول الحقِّ المُبدي عورةَ الدُّنيا؛ فإنَّ مدارها على طول الأمل، وهو الذي يُثمر التَّسويفَ بأعمال الخير، والصَّبر على أعمال الشَّرِّ.
- واستخدام الأصابع، فعن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وشبك أصابعه. وفي حديث عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة». وأشار مالك بالسبابة والوسطى.
- واستخدام الأمثلة العينية، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله ﷺ حريرًا بشماله، وذهبًا بيمينه، ثم رفع بهما يديه، فقال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم».
وعن جابر بن عبد الله أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ مرَّ بالسوقِ، داخلًا من بعضِ العاليةِ، والناسُ كنفتْهُ. فمرَّ بجديٍ أسكَّ ميتٍ. فتناولَه فأخذ بأذنِه. ثم قال: «أيكم يحبُّ أنَّ هذا لهُ بدرهمٍ؟» فقالوا: ما نحبُّ أنَّهُ لنا بشيٍء. وما نصنعُ بهِ؟ قال: «أتحبون أنَّهُ لكم؟» قالوا: واللهِ! لو كان حيًّا، كان عيبًا فيهِ، لأنَّهُ أسكُّ. فكيف وهو ميتٌ؟ فقال: «فواللهِ! للدنيا أهونُ على اللهِ، من هذا عليكم».
- واستخدام الإشارة، فعن عائشة رضى الله عنها أن أسماء بنت أبى بكر دخلت على رسول الله ﷺ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله ﷺ وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا». وأشار إلى وجهه وكفيه.
- واستخدامه الحمى والعصا، عن بريدة رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «هل تدرون ما هذه وما هذه؟» ورمى بحصاتين قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذاك الأمل، وهذاك الأجل».
- والتطبيق العملي للأحكام، كتوضيح العبادات المختلفة أو تعليمه للوضوء، أو بعض أمور الحياة فيروى أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله ﷺ: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه».
معالم رحمة النبي في تقويم أخطاء المتعلمين
إن التقويم هو جزء من العملية التربوية، وهو جزء من مبادئها، ولكن إفراد هذا الموضوع جاء؛ لتوضيح تجلي رحمة الرسول ﷺ في تنوع أساليبه في معالجة الأخطاء، والتي حري بالمربين التزامها في صورتها التربوية المناسبة؛ لينعكس أثرها على المتعلم، فسيستفيد من خطئه ولا يرتكبه مرة أخرى، وقد تجلت رحمة الرسول ﷺ بالمخطئين أن كان رفيقًا بهم، مراعيًا لأحوالهم، ولين الجانب مع الحزم؛ إذا لم يترتب على ذلك مضرة بالدين أو المجتمع، فتنوعت أعماله ﷺ في تقويم أخطائهم، ومن ذلك:
- توجيه المربين إلى معالجة أخطاء المتعلمين بالتوجيه المباشر: فعن عمر ابن أبي سلمة رضي الله عنه قال: «كنتُ غلامًا في حَجْرِ رسولِ اللهِ ﷺ، وكانتْ يدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فقالَ لي رسولُ اللهِ ﷺ: «يا غلامُ، سمِّ اللهَ، وكُلْ بيمينِكَ، وكلْ ممَّا يلِيكَ». فما زالت تِلكَ طِعْمَتِي بعدُ.
- توجيه المربين إلى معالجة أخطاء المتعلمين بالتعريض: ففي كثير من الأحيان كان الرسول ﷺ يرى الخطأ، فلا يذكر صاحبه، ولكن يعرض بالقول: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مئة مرة». وتظهر الرحمة في المثال في أن معالجة خطأ المتعلم بالتعريض يحفظ درجة شخصية المتعلم عند أصحابه، فلا يقل شأنه ومرتبته بينهم، حتى لا يصاب المتعلم بالإحباط، ويحفظ هذا الأسلوب الروابط بين المعلم والمتعلم من الثقة، والمحبة، والهدف المشترك، وهو التعلم، فيدخل الطمأنينة، والارتياح النفسي.
- توجيه المربين إلى معالجة أخطاء المتعلمين بالتوبيخ أو بالتنبيه: ومثال ذلك: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «إني ساببت رجلًا، فعيرته بأمه، فقال: لي النبي ﷺ: «يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولُكُم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يد فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم». فالإشفاق على المخطئ لا يعني السكوت على خطئه؛ لأن هذا إقرار للخطأ بل تشجيع عليه خاصة إذا كان هذا الخطأ قد مس حقوق الناس التي لا يجب التفريط فيها أو السكوت عنها، فالتوبيخ درجة أكبر من التنبيه، ومن الأمثلة على تنبيه الرسول ﷺ للمخطئين الحديث الذي ذكر فيه الأعرابي الذي بال بالمسجد حيث وضح الرسول له لاحقًا قائلا: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القران».
- توجيه المربين إلى معالجة أخطا المتعلمين بالضرب: لم يضرب رسول الله ﷺ امرأة ولا غلامًا قط، ولكن الضرب موجود كأسلوب يمكن الاستغناء عنه وتوجيهه قدر الإمكان. ويأتي استخدام الضرب من أجل تهذيب النفس، وتعديل السلوك، وهو آخر الوسائل المستخدمة، ويمكن تنفيذه حسب تقدير المعاقب للسلوك، ونوع السلوك الذي وقع. وما أحدث هذا السلوك من آثار، وهناك ضوابط للعقاب البدني في الشريعة الإسلامية؛ وذلك بأن يكون العقاب متناسبًا مع الذنب في كميته ونوعه، وأن يكون بعد ارتكاب الذنب، وألا يؤجل لأن التأجيل يفقده معناه وفائدته، ولا يقدم المعاقب للعقاب إلا بعد تعريفه بذنبه وسلوكه الخاطئ، وأن يكون قد أعطى فرصة حتى يقلع عن هذا السلوك.
- ومن الأمور الهامة في العقوبة لا تتحول إلى إهانة للفرد وهدر لكرامته، وألا تتجاوز الضربات عشرًا، فعن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله». ومن الأحاديث التي توجه إلى استخدام الضرب ما يرويه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع»، ولعل أحدهم يتساءل إذا كان دين الإسلام دين الرحمة، والرسول ﷺ نبي الرحمة فكيف يكون الضرب؟ أليس هذا منافيًا للرحمة؟ والجواب أن الضرب جزء بسيط من وسائل تقويم أخطاء المتعلمين، وله مجموعة من الشرائط يجب أن تتوافر فيه فهو منع للفساد أن يستشري، وقطع لدابر الشر أن ينتشر.
- التدخل المباشر لتغيير الخطأ: التدخل المباشر لتقويم أخطاء المتعلمين طريق اتبعه الرسول ﷺ في إيقاف السلوكيات غير المرغوب فيها، عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: كان الفضل رديف رسول الله ﷺ، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبي ﷺ يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نعم»، وذلك في حجة الوداع.
.