د/ صلاح عبد الحق
(يتحدث الدكتور صلاح في هذا المقال عن بعض الصفات الأساسية التي ربى عليها الإمام البنا الإخوان، وأسلوب الأستاذ البنا الذي يشير إليه الدكتور صلاح يعتمد على إعداد المربي لنفسه فهي البداية الصحيحة، ثم من هذه التربية الذاتية العميقة للمربي يصبح قدوة في ذاته وبأدائه في كل مواقف الحياة، مؤثرا في المتربين الذين يرقبونه في كل لحظة وفي كل قول وفعل يصدر منه وهو هنا الداعية والمربي حسن البنا.) المحرر
لقد فطن الإمام البنا رحمه الله إلى عُدة النهضات وما تحتاجه الأمم في نهضاتها، فأعلن ما أعلنه من قبله -الإمام محمد عبده رحمه الله- عندما قال:"أمة لم تتربَّ.. أمة لن تفلح".
فكان الإمام البنا رحمه الله يقول: "إن كل أمة تريد أن تنهض، عليها أن تدرس منهاج نهضتها نظريًا وعمليًا وروحيًا، وكل أمة تتخطى هذه الحواجز مصيرها الحرمان"، ويقولون: إن كل شعب يُدعى إلى أداء رسالة ما لابد وأن يمر بمرحلة من التطهر الداخلي، وهو ما فَطِن إليه الإمام البنا رحمه الله.
الناحية الروحية
يقول الإمام البنا في مذكراته: "خُيّرت بين التصوف الصادق بما يعنيه من الإخلاص والعمل وبين التعليم والإرشاد وما يعنيه من مخالطة الناس وغشيان مجامعهم، وإرشادهم فاخترت الثاني بعد أن نهجت الأول"، يقول: "وقد حملت مخاوفي إلى الشيوخ الكبار لاستشارتهم..."، فاستشار شيخه "عبد الوهاب الحصافي" -وهذا من تأدبه مع شيخه "الحصافي"-، فلما استشاره قال له الشيخ: إن الحل يكمن في "التصوف الصادق" بما يعنيه من الانسحاب والعزلة، لكن الإمام البنا كان في ذهنه صورة أخرى مؤثرة في نفسه.
وكان له تعليق على ذلك يقول فيه: "إن العمل الذي لا يتعدى نفعه صاحبه قاصرٌ ضئيلٌ، وأما العمل الذي ينتفع به صاحبه وغيره من أسرته وقومه وبني جنسه يكون شرفه وخطره وجلاله عظيم".
ولذلك يقول: "فاخترت الثاني وهو التعليم والإرشاد بما يعنيه من مخالطة الناس وغشيان مجامعهم"؛ ليؤدي ذلك الواجب من أجل إنهاض أمته وإفاقتها لتلحق به لتتعلم وتستفيد، "بعد أن نهجت الأول" من التصوف الصادق، أما التصوف بمعنى العزلة والانقطاع والانسحاب ورحلة الزهادة وعمل النساك الذين هزلت أجسادهم ولم يبق لهم إلا رحلة الزهادة والانقطاع في الصوامع، فيقول عنه: "هذه أثواب قديمة قد تجاوزتها روح العصر، وإنما حسبنا ما فيها –الصوفية – من معاني الكفاح وافتداء الفكرة"، وهذا المعنى هو الذي أراد أن يوصله لأمته.
ويروي السيد حامد أبو النصر -المرشد الأسبق- يقول: "جاء الإمام البنا –رحمه الله - لأول مرة إلى أسيوط في صعيد مصر عام 1933 م، وأراد أن يكلم الناس من أجل إفاقتهم وإنهاضهم فذهب إلى المسجد ليخاطب الناس، يقول السيد حامد أبو النصر: "فخشيت أن يتناول الصوفية بما يزعج من يستمعون إليه"؛ لأن صعيد مصر في ذلك الوقت كان قد انتشرت فيه الطرق الصوفية بكثافة شديدة، يقول: "فأومأت إليه بذلك"، فابتسم الإمام ابتسامة المتواضع الذي يعرف قدره، فالرجل كان يجمع بجانب الفقه حُسن الدراية والتجربة الميدانية، ثم قال: "لقد استأذنت من شيخهم".
فقلت له: "أذن لك؟".
فقال: "نعم، لقد تكلمت معه بلغة القوم وتأدبت معه بأدب الطريق؛ فأذن لي".
فلما جلس مع الناس يتكلم معهم أراد أن يوصل لهم هذا المعنى الذي يريده؛ أن معاني رحلة الزهادة إنما هي أثواب قديمة قد تجاوزتها روح العصر وحسبنا ما فيها من معاني الكفاح وافتداء الفكرة.
ولذلك قال الإمام –رحمه الله - وهو يتحدث مع هذه الجموع من المتصوفة في المسجد: "إنني أذكر حزب البر ودعاء الشاذلي وهو يقول: "اللهم إني أسألك ميتة مطهرة"، وما أراها إلا هذه وأشار بيده إلى عنقه "أن يراق دمك ويعقر جوادك في سبيل الله"، فضج المسجد بالبكاء وعلت أصواتهم، فاستطاع أن يوصل هذا المعنى الذي غفل عنه الناس وهو معنى الكفاح وافتداء الفكرة.
ويقول الإمام: " ظلت صلتُنا بالشيخ –الحصافي- على أحسنِ حال، حتى أُنشئَت جماعة الإخوان المسلمين وانتشرت، وكان له فيها رأي ولنا فيها رأي، وانحاز كلٌ إلى رأيه، وإن كنا لا نزال نحفظ للشيخ كل ما يحفظه مريد محب مخلص لشيخ عامل عالم تقي، نصح يومًا فأحسن النصيحة وأرشد فأحسن الإرشاد".
وظل الإمام البنا -رحمه الله- على ذلك طيلة حياته يذكر أساتذته الصالحين الذين نصحوه يومًا فأحسنوا النصيحة وأرشدوه فأحسنوا الإرشاد.
ورغم هذا الموقف إلا أن الإمام البنا ظل طيلة حياته يلتفت إلى نهجه الأول وهو معاني التصوف الصادق، لأنه كان يقول معلقًا على قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ "
يقول الإمام معلقًا على هذه الآيات: "إلا أنه الإسلام الذي جمع من كل شيء أحسنه؛ فجاوز بين التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية، وجعل الأولى مقدمة للثانية؛ حتى لا يعتذر إنسان عن العمل للمجموع لانشغاله بنفسه، أو يهمل نفسه لانشغاله بالعمل للمجموع".
وكثيرًا ما كان يقول –رحمه الله-: "إنكم طلاب فكرة ونظام وعقيدة ومنهاج، إذا تحقق بغيركم ففي المَحاريبِ مَثواكم وإلى المساجد رواحُكم ومُغداكم؛ " فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب (8)" [الشرح: 7-8] ، والخفي في هذه السبيل خيرٌ من الظاهر".
وسُئل الإمام يومًا عن حقيقة دعوته فقال: "حقيقة صوفية تؤمن بأن أساس الخير طهارة القلب ونقاء النفس والإعراض عن اللغو والحب في الله والارتباط على الخير".
كما سُئل يومًا عن طبيعة دعوته فقال: "الإيجابية، فعلينا أنفسنا قبل كلِّ شيء".
وسُئل يومًا عن نظام جماعته في مرحلة التكوين فقال: "صوفيٌ بحتٌ من الناحية الروحية وعسكريٌ بحت من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين أمرٌ وطاعةٌ من غير تردد ولا شك ولا مراجعة ولا حرج".
وكتب البنا في أركان البيعة ركن الإخلاص، لأنه كان يدرك تمامًا أنه لن يؤدي هذا الواجب معه إلا هؤلاء الذين يترفعون ويمضون ولا يلتفتون إلى غير نصيبهم الذي لا يفوت، حيث ما عند الله من الرضا والمتاع، والأغراض تفرّ من بين أيديهم وتنأى".
كما حذر الإمام البنا إخوانه أن يلتفتوا إلى تصدر المجالس، أو الظهور بأكبر المظاهر، أو حمل أفخم الألقاب، يقول الإمام –في ذلك-: "خذ نفسك بشدة بهذه التعاليم وإلا ففي صفوف القاعدين متسع للكسالى والعابثين، وأظنك إن عملت بها وجعلتها غاية غاياتك وأمل حياتك فسيكون لك العز والسعادة في الدنيا والفوز والرضوان في الآخرة، وإن انصرفت عنها وقعدت عن العمل بها فلست منا ولسنا منك، وإن تصدرت فينا المجالس وحملت أفخم الألقاب وظهرت بأكبر المظاهر، فسوف يحاسبك الله على ذلك حسابًا عسيرًا، فاختر لنفسك ونسأل الله لنا ولك التوفيق".
كما جعل الإمام أيضًا من أصول الفهم "عمل القلب"، فيقول –رحمه الله-: "عمل القلب أهم من عمل الجارحة وتحصيل الكمال في كِليهما مطلوب شرعًا وإن اختلفت مرتبا الطلب".
وأيضًا عندما تحدث الإمام عن أصول الفهم فقال: "للإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نورٌ وحلاوة يقذف الله بهما في قلب من يشاءُ من عباده".
وأيضًا جعل من واجبات الأخ العامل البند السادس والعشرين يقول فيه: "أن تُديم مراقبة الله عز وجل وتذكر الآخرة والاستعداد لها، وأن تقطع مراحل السلوك إلى رضوان الله تعالى بهمة وعزيمة، ومن ذلك قيام الليل وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وأن تتحرى الدعاء المأثور عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - في كل شئونك".
هكذا التفت الإمام البنا –رحمه الله- طيلة حياته لنهجه الأول؛ لأنه كان يدرك ما غفل الناس عنه وحاجة الأمم في نهضتها لهذه التزكية وهذه التربية.
ويذكر الشيخ القرضاوي -في كتابه "سبعون عامًا من الجهاد في تاريخ الإخوان"- يقول: "إن الشيخ عبد السلام ياسين رئيس جماعة العدل والإحسان في المغرب -والرجل له حقيقته الصوفية- عندما قرأ هذا الركن قال: إنها شروط عالية، اشترطها لكل من أدى بيعته أو التحق بصفه، وأراه قد اشترط لها صحبة حي"، وهو معنى صوفي.
والإمام البنا –رحمه الله- فطن إلى ذلك يومًا عندما قال: "وللقائد في دعوة الإخوان حق الشيخ بالتربية الروحية، وحق الأستاذ بالإفادة العلمية، وحق الوالد بالرابطة القلبية، وحق القائد بحكم السياسة العامة بالدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعًا".
والذين تكلموا عنه -رحمه الله- قالوا: إنه كان ذا حالٍ صالحةٍ قويةٍ؛ تفيض علمًا وإيمانًا وقوةً وكمالًا إذا توجه بها إلى غيره نقله من حالٍ إلى حالٍ، وخلصه من العيوب عيبًا عيبًا، ودرج به في مدارج الكمال".
الناحية البدنية
هذه الصورة؛ صورة هذا الحضور النفسي الموصول بالله -جل شأنه- لم تجعله منقطعًا عمن حوله، لذلك من تكلموا عنه قالوا: إنه جمع إلى جانب ذلك حضورًا بدنيًا ناشطًا وحضورًا عقليًا واعيًا.
فالذين تكلموا عنه قالوا: إنه كان له العديد من الرحلات المتلاحقة -والتي كانت تتم في صيف مصر القائظ - كان يبدو فيها غاية في القوة واعتدال المزاج؛ فكان عندما ينزل من القطار مباشرة يتحدث ويستمع ويفصل في الأمور، أو يلبي دعوة للقاء إداري أو خطاب في مسجد، فكان ينزل من القطار كأنه لم يكن مسافرًا رغم أنه كان لا يركب إلا الدرجة الثالثة ورغم أن الرحلات كانت طويلة تصل إلى اثنتي عشرة ساعة بالقطار.
وكان دائمًا يصحب معه بعض تلامذته حتى يعودهم على تحمل مثل هذه المشقات؛ لأنه –رحمه الله- كان يقول: "عليكم بالفرق لأن فرائض الإسلام لا تؤدى صحيحةً كاملةً إلا بجسومٍ قويةٍ اعتادت تحمل أعباء الكسب والعمل".
وصحب يومًا الأستاذ "فريد عبد الخالق" في إحدى رحلاته وكان من أسرة ثرية وكان رقيقًا في نشأته وجسمه، فصحبه يومًا فبدا السأم والضجر عليه من صعوبة السفر، والإمام جالس ينظر إليه كل فترة وهو مبتسم، فلما شعر بشدة ضيقه قال له: هل تحب أن تغير مقعدك معي؟
يقول الأستاذ فريد: فكنت في شدة ضيقي وانفعالي فقلت له: نعم.
- ثم قال لي: " أما أنا فلن أغير".
يقول الأستاذ فريد: ففهمت معنى الدرس المستفاد العملي، فركوب قطار الدرجة الثالثة لا تجعلك تغير مبدأك.
أراد أن يُثبت له أن الدعوات إنما تُخدم بالمجهود العنيف والدأب المخيف لا بالتأمل والعزلة وأن فرائض الإسلام لا تُؤدى كاملةً صحيحةً إلا بجسومٍ قويةٍ اعتادت تحمل أعباء الكسب والعمل، وهذه هي تزكية الأبدان.
وكثيرًا ما كان يقول -رحمه الله-: "وفي النظام الإسلامي من مطعم ومشرب ومنام وتوابع ذلك ما يقوي الجسوم والأبدان ويحفظها من المهلكات"، ولذلك كان يرى أنه يجب على الداعية أن يبدو دائمًا غاية في القوة واعتدال المزاج، وكان دائمًا يقول: "إن ذلك مما يلفت الأنظار ويزيد الأنصار".
العلم والعقل الواعي
- يحكى الأستاذ "فريد عبد الخالق" يقول: "كانت رحلات الوجه البحري في الشتاء، أما رحلات الصعيد فكانت في الصيف القائظ، وكان لا يركب إلا الدرجة الثالثة وكان الإنسان منا يتأفف من سأم وضجر من الحر والجو الكئيب في الدرجة الثالثة، ومن الحضور حوله من الركاب، بينما الإمام يبدو غاية في القوة واعتدال المزاج، وذات مرة وأنا أرافقه في إحدى هذه الرحلات جلس أمامي وأخرج كتاب في "فقه القانون الدولي" لـ "عبد الرزاق باشا السنهوري"، وهي من أصعب الدراسات والموضوعات التي تحتاج إلى حضور عقلي واعٍ وبالٍ رائق وحضور ذهن وجو مناسب حتى تستطيع أن تقرأ وتستوعب هذه الصفحات فضلًا عن أن تحفظها، ومن الغريب أنه كان يقرأها ويحفظها، حتى إنه سأله كيف تقرأها في مثل هذا الجو، فقال الإمام: "بل أقرأها وأستوعبها وأحفظها كذلك".. وأعطاه الكتاب وقال له انظر، وبدأ يقرأ له من ذهنه ما كان مكتوبًا في صفحات الكتاب".
- ويقول الشيخ الغزالي -عن حضوره العقلي الواعي-: "جمع إلى جانب الفكر حُسن الدراية".
فهو يدري بكل ما يدور حوله، فلم يكن حضوره النفسي الموصول بالله ، لم يكن يجعله ينقطع عما يدور حوله من صور الانقطاع والانسحاب والعزلة.
يحكي السيد حامد أبو النصر عن مرة ركب فيها الترام مع الإمام البنا في الإسكندرية، وكانت طبيعة الإمام أنه يقرأ القرآن الكريم دائمًا أثناء سيره وحيدًا وأثناء ركوبه في رحلاته المتلاحقة التي كان يسوق فيها الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، وكان المصحف دائما في جيبه، وكان دائما يأخذ بيعة من الإخوان أن تظل المصاحف في جيوبهم حتى تذكرهم بواجبهم نحوها، وكان الإمام يقسم مصحفه إلى سبعة أسباع، كل يوم يقرأ سُبع ويُنهيه وخلال أسبوع يختمه.
- فيحكي السيد حامد أبو النصر يقول: "ركبت معه الترام ذات مرة في الإسكندرية، وكان الإمام متجهًا ليلقي كلمة في أحد المساجد في مناسبة من المناسبات الإسلامية، وكانت رحلة طويلة، وكانت من عادته في وسائل المواصلات أنه كان مدمنًا لقراءة القرآن الكريم، يقرأه ويتلوه ويراجعه ويتدبره، يُغذي بألفاظه ومعانيه روحه وجسده، فلما جلس في الترام أخرج المصحف وظل يقرأ محطة ثم اثنين وثلاثة وبعد فترة نظر إليّ وقال لي: "هل جاء الكمسري –المحصل-؟"
فقلت له: "لم أنتبه".
فقال لي: "نادِ عليه"، فناديت عليه، فجاء.
فقلت له: "أنت لم تأخذ ثمن التذاكر".
فقال لي المحصل: "يا سيدي، خليها على الله، هذه الوجوه الطيبة أأخذ منها أموال للشركة البلجيكية الكافرة" -وقد كانت شركة الترام في مصر وقت الاحتلال تملكها شركة بلجيكية- يقول: " فأغلق الإمام المصحف ونظر إلى المحصل وابتسم وقال له: "ولكنها أموالهم وهي مرصودة لمصالحهم، وأنت حارس عليها لا يحق لك ذلك"، يقول السيد حامد: فأخذ الرجل المليمات (وقتها التذكرة كانت 7 مليم ) وعاد الإمام لمصحفه".
فكان حضوره واعيًا ومدركًا لما حوله، يقول السيد حامد أبو النصر، فلما عاد إلى مصحفه تأملت الرجل، وأنا أتذكر ما كان يكرره على مسامعي: "عندما يتم ذلك البناء، الذي أهيئ له هذه اللبنات، سوف يرى الناس أي خير سينالونه.
- أيضًا الدكتور توفيق الشاوي -في مذكراته- يقول: "لما أنهيت الحقوق وأعددت نفسي لبعثة لأمريكا لنيل الماجيستير والدكتوراه بعث إليّ الإمام البنا"، فالإمام بالرغم من حومة أعماله التي كانت تشغله من الصباح حتى الساعات المتأخرة من الليل حتى أنه لم يبت في بيته إلا ليالي قليلات طوال عشرين عامًا –كما ذكر من تكلموا عن الإمام وصحبوه- ، ورغم ذلك لم ينس أن هناك أخًا اسمه توفيق الشاوي أنهى دراسته ويستعد للبعثة في أمريكا.
يقول دكتور توفيق فذهبت إليه في مكتبه.
فقال لي: "يا توفيق، هل تستعد الآن للذهاب إلى البعثة في أمريكا؟"
فقال لي:"لماذا لا تسافر إلى فرنسا؟".
فقلت له:"كما ترى فضيلتك، ولكني أعددت العُدة لأمريكا" –من الاستعداد باللغة الإنجليزية ومراسلة الجامعات وخلافه-.
فقال لي:"لتذهب إلى فرنسا؛ لأن هناك في باريس إخوة لنا من المجاهدين من إخوان المغرب العربي والظهير البربري وهم ينسقون جهودهم من أجل تحرير أوطانهم من فرنسا، وينظم هذه الجهود "الأمير شكيب أرسلان"، وسوف تذهب أنت إلى هناك لتكون حلقة الوصل بيننا وبين الأمير شكيب أرسلان لتنسيق الجهود من أجل تحرير المغرب العربي من الاحتلال الفرنسي".
يقول الدكتور توفيق: "فأعددت عُدتي ودرست الفرنسية، وراسلت الجامعات وكنت في شقة واحدة مع أحمد بن بيلة".
المهم في هذا الموضوع هو الأمير "شكيب أرسلان"، معروف عن الأمير شكيب أرسلان أن ابنته هي زوجة كمال جمبلاط زعيم الطائفة الدرزية في لبنان وهي أم وليد جمبلاط زعيم الطائفة الدرزية الآن، فكنت عندما أقرأ هذا التاريخ أقف عند ذكر اسم الأمير شكيب أرسلان وأقول في نفسي: الإمام البنا كان يستعين بطوائف الأمة جميعًا، الرجل كان دائمًا يقول:"أريد أن أتحدث إلى الجميع وأن أتصل بالجميع وأن ألُم شتات الجميع حتى يُخرج أمته من مأزقها".
منذ شهور قليلة كنت في لبنان والتقيت بأحد الإخوة في لبنان وجاء الحديث حول الإمام البنا وأعماله، فجاءت سيرة شكيب أرسلان وقلت له: أنا استغرب في نفسي كيف كان يتعامل الإمام البنا مع شكيب أرسلان وهو درزي؟ فقال لي من قال لك ذلك، لقد ترك الرجل درزيته وتسنن!
فحسن البنا الذي يجلس في المركز العام في الدرب الأحمر في أحشاء القاهرة، كان يعرف ماذا يدور في فرنسا وأن شكيب أرسلان ترك الطائفة الدرزية وأن الرجل تسنن!
كما سُئل يومًا من روبير جاكسون قال له: "أين تسكن؟"، يقول روبير جاكسون معلقًا: " فابتسم ابتسامة المتواضع الذي يعرف قدره وقال في أحشاء القاهرة"، فكان بجواره أحد تلامذته فقال له: فضيلتك في أحشائها الدقيقة، وذلك لأن الدرب الأحمر كان حيًا فقيرًا، وكان الإمام يسكن في حي الغورية حارة الروم سكة الخازن عطفة سنجر، وهي من الأحياء الفقيرة جدًا.
يقول الشيخ السروجي وهو يحكي لي ذلك عن وفاة شكيب أسلان أنه لما مات، وأحضروا رفاته إلى لبنان وضعتها الطائفة الدرزية في مقلب قمامة -جثة شكيب أرسلان – ، حتى جاء أحد زعماء المغرب العربي في زيارة رسمية إلى لبنان وطلب أن يزور شكيب أرسلان الذي كان سببًا في استقلالهم، فأخذه مضيفه إلى مقلب القمامة وقال له: "هناك".
قال الضيف: "هناك أين؟! في هذه القمامة ؟!"
قال له المضيف: " نعم".
وهذا دليل أن طائفته تنكرت له لأن الرجل ترك الدرزية وتسنن، وكتب كتابه الشهير "حاضر العالم الإسلامي" الذي يذكره الإمام البنا ويقول عنه: "من لم يقرأه لا يعرف شيئًا عن تاريخ دينه وأمته".
ذلك هو الحضور العقلي الواعي.
وكذلك كُبريات الحوادث التي كانت تجري حوله في وادي النيل في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما كان هناك مؤتمرات يقطع الحلفاء فيها العالم إلى مناطق نفوذ وذلك قبل أن تنتهي الحرب لكن كانت هناك مؤتمرات من أجل تقطيع أوصال الوطن الإسلامي.
يقول الإمام البنا في مقال للتعليق على كُبريات الحوادث في وادي النيل يقول: "فهذا مؤتمر سان فرانسيسكو، ثم مؤتمر نوتيردام (ألمانيا)، ثم هذا مؤتمر لندن لم يبق عليه إلا ليال وأيام، إنهم يحاربون ويرتبون، وهكذا تتأهب الدول الكبرى وتستعد الدول الأخرى، مؤتمرات وقرارات واجتماعات ومشاورات وحكومات إثر حكومات وأنتم موضع البحث والتقرير وإلى مصالحكم تتجه المطامع والآمال وعليكم يشتد الجدل والخلاف، فعلام تنتظرون فإذا وقع الأمر فقلما يتغير إلا بالمجهود العنيف والدأب المخيف".
من أجل هذا لم يكن الغرب ليقف مكتوف الأيدي أمام هذا الرجل الذي خفّت بدعوته ريح الإباحية والإلحاد، واعتدلت لهجات الكُتّاب لتجري مع الريح الإسلامية.
يقول روبير جاكسون عن الإمام البنا –رحمه الله- عندما التقاه أول مرة :"لقد خلع عليه الإسلام -كما كان يفهمه ويدعو إليه- حُلّة أنيقة لم تتح لغيره من زعماء السياسة ورجال الدين".
فلما استشهد الإمام البنا –رحمه الله- كتب عنه أيضًا روبير جاكسون يقول: "سأظل أسأل: هل هناك ارتباط بين الإسلام كما كان يفهمه البنا ويدعو إليه وبين نهايته التي جاءت كحياته على نحوٍ غير مسبوق؟ أدع الإجابة للتاريخ".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
.