وصف الله سبحانه وتعالى القرآن بأوصاف كثيرة، وكلها يحمل من المعاني ما يبين وجهًا أو أكثر من وجوه تفرد القرآن وعظمته وإعجازه، وإن من أَخَصِّ الصفاتِ التي وُصف بها القرآن صفة الرحمة، ومما يدل على خصوصيتها تكرر الوصف، وتنوع سياقاته بين إفرادها وقرنها بغيرها من الصفات، وجعلها غاية التنزيل، وغاية القيام بحقوق التنزيل، وإسناد التنزيل إلى اسْمَيِ الرحمن والرحيم... إلى غير ذلك.
ولما كان القرآن هو دستور الإسلام، ومنهج دعوته، ومصدر أخلاقه؛ فإن اتصافه بالرحمة لمن أكبر مقومات صلاح شرعة الإسلام لكل زمان ومكان، فإذا علم دعاة الإسلام ذلك كانوا متأهلين للتصدي للجهاد به جهادًا كبيرًا، والدعوة به، وتبليغه، والنصح له، وكانوا أقوم الناس بحقوقه.
وفى دراسة بعنوان «رحمة القرآن الكريم: وسبل استنزالها، واستثمارها تربويًا ودعويًا»، للباحث: محمود بن عبد الجليل روزن، أوصى المهتمين بعلوم القرآن وعموم المسلمين باستثمار هذه الصفة القرآنية الجليلة، وسلوك سبل استمطارها واستنزالها، واستثمارها تربويًا ودعويًا في تزكية النفوس وتهذيبها، ودعوة الخلق إلى الحق.
وصفُ القرآن بأنه رحمة
وُصِف القرآن الكريم بأنه رحمة في ستة عشر موضعًا، معظمها صريح في أن الرحمة من صفة القرآن الكريم؛ كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 52)، وقوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 203)، وقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (الإسراء: 82)، وقوله تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} (لقمان: 2-3).
وغالبا ما يقترن وصف القرآن بأنه رحمة بصفة أخرى، وذلك في ثلاث عشرة آية، وفي ثلاث آيات أُفرد ذكر رحمة القرآن؛ وذلك في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 46)؛ أي: أرسلناك بالقرآن المخبر بما ذكر وبغيره؛ لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس، فإنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تُليت عليك، ولكن أوحيناها إليك، وقصصناها عليك رحمة من ربك؛ لتُنذر قومَك، وتُعرِّفَهُم قصصَ من أُهْلِكَ بالعذاب ومن فاز بالثواب، وهذا يقتضي أن ذلك الوحي رحمة.
مكونات رحمة القرآن الكريم
تعددت جهات وصف القرآن الكريم بالرحمة، وإذا كان اعتبار واحدة منها كافيًا في أن يوصف القرآن الكريم بأنه رحمة، فإن اجتماعها يجعل صفة الرحمة من أخص صفات القرآن؛ بل أخصها.
ولم ينفرد القرآن الكريم عن الكتب السماوية ببعض تلك الجهات؛ ولكنه انفرد باجتماعها، وهذا يناسب كونه مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه. وفيما يأتي بيان تلك المكونات:
أن القرآن الكريم تنزيل من الرحمن الرحيم:
إن من أهم جهات استحقاق القرآن الكريم صفة الرحمة: أنه تنزيل الله الرحمن الرحيم؛ يقول تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (يس: 1 - 6)؛ أي: هو تنزيل، والمصدر بمعنى المفعول، عبر به عن القرآن؛ بيانًا لكمال عراقته في كونه منزلًا من عند الله سبحانه وتعالى: كأنه نفس التنزيل، وإظهارًا لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية؛ بوصفه بالحكمة.
أن القرآن الكريم منزل على الموصوف بالرحمة ﷺ:
فطر النبي ﷺ على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة؛ لتتكون مناسبة بين رحمه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة؛ حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس؛ أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه.
وقد صح عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن خلق النبي ﷺ كان القرآن، ومن أخص صفات القرآن أنه رحمة، فطبيعي أن تكون الرحمة هي أخص صفاته ﷺ. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} (الأنبياء: 107)، ووُرُود كلمة (رحمة) على أنها حال من ضمير المخاطب، يجعلها وصفًا من أوصافه ﷺ، فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة، وفيه إيماء لطيف إلى أن الرسول ﷺ اتحد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدرًا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد، بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله؛ كما قال ﷺ: «إنما أنا رحمة مهداة».
رحمة القرآن المُضَمَّنة في سائر صفاته
وصف الله ﷺ القرآن الكريم بصفات عديدة، وكثيرٌ منها يتضمن أن القرآن الكريم رحمةً، فضلًا عن وصفه بالرحمة كما تقدم. وسواء تلك الصفات التي اقترن ذكرها بالرحمة أو التي لم تقترن بها؛ فكلها دال على رحمة القرآن، فمثلا وصف القرآن الكريم بأنه نور، والنور هداية وبصيرة، والقرآن روح، والروح حياة للقلب، فلا شك من تضمن هذين الوصفين للرحمة، وإن لم يقترنا بها... إلى غير ذلك من الصفات التي لم يقترن ذكرها بصفة الرحمة في سياق واحد.
وأما الصفات التي اقترن ذكرها بالرحمة في سياق واحد فتضمنت من معاني الرحمة ما انتظم به الاقتران، وحُسن به البيان.
1- اقتران الرحمة بالهدى:
مما يسترعي نظر المتأمل كثرة اقتران وصف القرآن بالرحمة بوصفه بالهدى، فإذا كان القرآن موصوفًا بأنه رحمة في ستة عشر موضعًا؛ فإن صفة الهدى قد اقترنت بها في عشرة مواضع، كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (النمل: 76 – 76)، وقوله تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} (لقمان: 2 – 3).
وليس هذا الموضع الوحيد للتأمل؛ إذ عطفت الرحمة على الهدى فيها جميعها، فتقدُّم الهدى، ولم يفصل بينهما صفة أخرى في الآيات التي وصف فيها القرآن بأكثر من صفتين. ولعل الحكمة أن الهدى متضمن هدى الإرشاد والدلالة، وهدى التوفيق إلى حصول مقصود المرشد الدال، والقرآن إرشاد ودلالة، وهو صالح لحصول المقصود إذا تلقاه المخاطب به بما يليق بحقه، وأخذه مقبلًا عليه، فإذا حصل ذلك كان له رحمة في الدنيا والآخرة، وهو تمام الرحمة، ولا ينالها إلا المؤمن، فكانت الرحمة مرتبة على هدى التوفيق الذي هو مرتب على هدى الدلالة والإرشاد. والخلاصة: أن القرآن رحمة للعالمين، من حيث هو إرشاد ودلالة، ورحمة للمؤمنين، من حيث انتفاعهم بهداياته.
2- اقتران الرحمة بالبيان:
اقترن وصف القرآن الكريم بالرحمة بوصفه بالبيان في ثلاثة مواضع؛ فقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة} (الأنعام: 155 – 157)؛ والظاهر أن البينة هي القرآن، وهو الحجة الواضحة الدالة النيرة؛ حيث نزل عليهم بلسانهم وألزم العالم أحكامه وشريعته. فهذا البيان الساطع والبرهان القاطع رحمة بكشف الريب، وحسم التردد عن طالب الحق بأسبابه.
والبيان أحد أنواع الحجج، وقد يختص بالمسموع منها، فتبقى الهداية أعم من البيان من هذا الوجه، ثم لما كان حصول أثر الحُجة هو غايتها والمقصود من إقامتها، وهو ما تحصل به الرحمة- حسن عطف الرحمة عليها، ثم لما كانت الرحمة سببًا للفرح والسكينة في العاجل، وكان حصولها في العاجل لا يفيد في ذاته حصولها في الآجل- وهو الأهم- حسن عطف البشرى الدالة على حصولها في الآجل للتأكيد على أن تلك الرحمة مستقرة في العاجل، ودائمة غير منقطعة.
وأنواع من الرحمة، تضمنها وصف القرآن، بأنه بيّنة وتِبيَان ومُبِين؛ وملخصها:
- أن القرآن تِبْيَانٌ لمصالح المعاش والمعاد.
- فالقرآن تبيان للحلال والحرام والأمر والنهي، ولما كان الحلال طيبًا في نفسه، والحرام خبيثًا في نفسه، كان في إبانة الحلال جلبًا للمنفعة، وفي إبانة الحرام دفعًا للهلكة، وذلك محض الرحمة.
- أن في القرآن بيانًا صالحًا لحسن مادة الخلاف المانع للرحمة، وفيه تطهير المحل من أعظم معوقات استقرار الرحمة.
- أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، لا مشقة في فهم هداياته، وتحصيل مراد الله سبحانه وتعالى منها لمن أخذ بأسباب الفهم، فهذه رحمة وتيسير من الله على الخلق.
3- اقتران الرحمة بالشفاء:
الشفاء هو ما يُبرِئ السقم، ويرجع الأخلاط إلى الاعتدال، والاستشفاء: طلب الشفاء. وقد وصف القرآن بأنه شفاء في ثلاث آيات؛ اقترن في اثنتين منها بوصف الرحمة؛ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57).
والموعظة: القرآن؛ لأن الوعظ إنما هو قول يأمر بالمعروف ويَزجُر ويُرَقِّق ويُوعِد ويَعِد، وهذه صفة الكتاب العزيز؛ فيه مواعظ وحكم، تذكر عقاب الله، وتُخَوِّف وعيده، وفيه شفاءٌ لما في الصدور من الشك والنفاق والخلاف والشقاق والغل والحسد والشح والجهل، يشفي به الله جهل الجهال؛ فيبرئ به داءهم، وذلك أن داء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن، فالمزيل له أجل شفاء وأعظمه موقعًا، والقرآن بحمد الله مزيلٌ للجهل، وكاشف لعمى القلب، وقال أهل العلم: «لا داء أعظم من الجهل، ولا دواء أعز من دواء الجهل، ولا طبيب أقل من طبيب الجهل، ولا شفاء أبعد من شفاء الجهل».
4- اقتران الرحمة بالبصائر:
اقترن وصف البصائر بوصف الرحمة في آيتين؛ وجاء مرتبًا فيهما ثلاث أوصاف للقرآن، هي البصائر والهدى والرحمة؛ قال تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 203)، وقوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 20). ولما كان القرآن سببًا لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، أطلق عليه اسم البصائر؛ فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب. فالقرآن بصيرة بمعنى أن هداياته مفيدة للبصيرة واليقين، لا يزال القلب تصقل فطرته بنور القرآن؛ حتى يعود أبيض لا تضره الفتن، ولا يشتبه عليه الحق والباطل.
البصيرة عقيدة القلب، أو هي اسم لما اعتُقد في القلب من الدين وحقيق الأمر، وقيل البصيرة: الثبات في الدين، وقيل البصيرة الفطنة. ويقال للفِراسة الصادقة: فِراسة ذاتُ بصيرة.
قال ابن القيم: «البصيرة نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل؛ كأنه يشاهده رأي عين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل، وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى قول بعض العارفين: البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به»، وقال بعضهم: «البصيرة ما خلصك من الحيرة، إما بإيمان وإما بعيان».
5- اقتران الرحمة بالتفصيل:
قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 52). أي: ولقد أنزلناه إلى هؤلاء الكفار المكذبين كتابًا مفصلًا؛ مبينًا فيه الحق والباطل، والحلال والحرام، والعقائد والشرائع، حتى يعرفه من تدبره.
وكل وجه من الوجوه المتقدمة فيه معنًى من معاني الرحمة، فتفصيل الحلال والحرام رحمةُ إرشاد، وجعله فصولًا مشتملة على أنواع العلوم والمواعظ رحمةُ تنويع وتثنيه، وإنزاله مفصلًا منجما رحمةُ تيسير، وتفصيله على علم رحمة مراعاة المناسبة إذا كان بمعنى فصلناه على علم بما يصلح العباد، وإن كان بمعنى فصلناه على علم أنهم لا يأتون بمثله ففيه رحمةُ تطمينٍ بصدق المُرسل به، فلا يُتركون نهبًا للشبهات.
6- اقتران الرحمة بالموعظة:
الوعظ والعظة والموعظة: التذكير والنصح بما يَرِقُّ له القلب من خير ووعد ووعيد، وثواب وعقاب.
وقد اقترن وصف الموعظة بوصف الرحمة في آية واحدة؛ وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57)، والقرآن مع كونه موعظة فهو دعوة وتعليم وتشريع باقٍ، خوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع، فجاء على أسلوب مناسب لجمع هذه الأمور؛ بحسب حال المخاطبين، الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، وإنما كانت هجيراهم الخطابة والمقاولة.
فلم يأخذهم القرآن بالموعظة التي تخاطب العاطفة المجردة كأسلوب القصاص، ولا أخذهم بالحجج العقلية المحضة على طريقة الفلاسفة، وكلا السبيلين مفضٍ إما إلى إفراط أو تفريط، ولكن رحمة القرآن في وسطية موعظته، وتنوعها على خطاب العقل وتحريك العاطفة.
7- اقتران الرحمة بالذكرى:
قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51)، فلما سألوا الآيات أخبرهم أن في القرآن كفاية لمن طلب الآيات على صدق الرسول ﷺ كما كانت الرسل قبله تأتي بالآيات، فأومأت الآيتان إلى وجهين من وجوه رحمة القرآن؛ الأول: أن وقوع الآيات قد يقترن بمجيء العذاب؛ كما حدث لثمود؛ قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59)؛ والقرآن– مع كونه آية بينة– فقد جاء بالجملة برفع عذاب الاستئصال الذي تعرض له جُل الأمم السابقة.
والوجه الثاني: كون القرآن ذكرى، ذلك أن الآيات التي جاءت بها الرسل لم يشاهدها إلا من حضرها، فلم تتجدد لهم بها الذكرى، ولم تحصل أصلًا لمن لم يحضرها إلا إخبارًا، وإنما يكمن الإعجاز المُوصل إلى تمام اليقين في حضورها ومشاهدتها عيانًا. وأما القرآن فتتجدد به الذكرى لقارئه كلما قرأه، لا يزول ولا يخلق على كثرة الرد، ويحصل المقصود من كونه آية بينة لكل من بلغه؛ قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19)، ولهذا كان صالحا لاستمراره رسالة خاتمة. وليست العبرة فيمن يوعظ المرة والمرتين، وإنما حصول الرحمة بدوام الذكرى، فإن المؤمن خُلق مذنبًا مفتنًا، خطاءً نَسَّاءً (وفي رواية: مفتنًا توابًا نَسِيَّا)، فإذا ذُكِّر ذَكَر؛ فحصلت الرحمة للمسلم المتعاهد القرآن بالموعظة والذكرى.
8- اقتران الرحمة بالبشرى:
البُشرى: الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب حصوله. وقد اقترن وصف القرآن بأنه رحمة بوصفه بالبشرى في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89). والرحمة من جهة البشرى أنها تقطع مادة القلق على ما هو آتٍ، ومن تمام الرحمة أن ينظر: المُنَعَّم بعين عقله في مآل نعيمه فيعلم أنه دائم غير منقطع، فإن لم يتحقق له ذلك استحال نعيمُه شقاءً؛ وذو العقل يشقى في النعيم بعقله، فالبشرى بدوام حصول الرحمة من تمام الرحمة. والبشرى رحمةٌ في العقبى آجلة محققة، إذ كان المبشر صادقًا. وعليه؛ فإن وصف القرآن بأنه ذكرى وبأنه بشرى قد استجمع فيوض الرحمة في امتدادها الزماني ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا.
9- اقتران الرحمة بأن القرآن تصديق الذي بين يديه:
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111)، ومعناه أن القرآن يصدق الكتب التي قبله ويشهد عليها. وفي أنه تصديق لما بين يديه من الكتاب رحمة؛ لأن خروج الكتب من مشكاة واحدة، أدعى للتصديق به، والإذعان له والإيمان به عند كل ذي عقل، وحين قُرئ صدر من سورة مريم على النجاشي بكى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة».
10- اقتران الرحمة بالفضل:
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58)، قال ابن عباس وأبو سعيد الخدري ومجاهد: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلهم من أهل القرآن.
سبل استنزال رحمة القرآن الكريم
لعل السؤال الذي يشغل فكر من وقف على تلك المعاني الجليلة لرحمة القرآن، وعرف جهاتها ومكوناتها؛ هو: ما السبل القويمة لاستنزال تلك الرحمة القرآنية، واستجلاب بركتها، واستمطار غيوثها؟ وللإجابة عن هذا السؤال نستهدي الوحيَيْن، محاولين الوصول إلى منارات تلك السبل وعلاماتها:
اتّباع القرآن
بالجملة؛ فإن أحق الناس بالفوز برحمة القرآن الكريم والتعرض لها هم القائمون بحقوق القرآن، وهم أهل القرآن الراسخون في العلم به، المصدقون بأخباره، المراعون لأوامره، المُرْعَوُونَ عن نواهيه. قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام: 155).
الاعتصام بالقرآن:
أمرنا الله سبحانه وتعالى بالاعتصام بالقرآن؛ فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103). وجمهور المفسرين على أن المراد بحبل الله القرآن الكريم، وهو الصواب؛ لثبوته عن المعصوم ﷺ؛ من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إني تارك فيكم الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعِترتي أهلُ بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض».
الاستشفاء بالقرآن:
من سبل تحصيل رحمة القرآن أن يستشفى العبد بالقرآن من أمراض القلب، ومن أمراض الأبدان، وقد مر بنا أن القرآن شفاء لما في الصدور، وشفاؤه من أمراض القلوب ظاهر بين، قال ابن القيم: «فإن القرآن كله شفاء... فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب، فلم ينزل الله سبحانه وتعالى من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن».
وأما شفاؤه لأمراض الأبدان فيشهد له ما روته عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله ﷺ كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها.
الأمور المعينة على الاستثمار التربوي لرحمة القرآن
التربية التي نعنيها– التي يمكن أن نصطلح عليها بالتربية الإسلامية– يمكن أن نُعرِّفها بأنها: «تبليغ الإنسان كماله البشري الشامل؛ على مراد خالقه سبحانه وتعالى».
وهذه التربية مصدرها القرآن، منه استمداد غاياتها ومقاصدها، وبه تأطير طرائقها ووسائلها. فإذا انطلقت السياسات التربوية من هذه القناعة لا يجد المربون صعوبة في استنزال رحمة القرآن، واستجلاب بركته، والاستهداء بِبَيِّنَاتِه في ترقية أنفسهم وأبنائهم وطلابهم إلى الكمال البشري المنشود. ويتأكد ذلك إذا كانت المؤسسة التربوية منوطة بالتربية القرآنية: تحفيظًا، وتعليمًا، وإقراءً، ونحو ذلك.
وهناك جملة من الأمور التي تستنزل بها رحمة القرآن، فإذا ما حرص عليها القراء والمعلمون والمتعلمون القرآنيون؛ فإنها تكون سببًا– بإذن الله– في نزول الرحمة. وفيما يأتي ذكر لها:
- النية: وذلك بأن يجدد المربي نيته، فيكون من جملة ما ينويه بقيامه بحقوق القرآن: استنزال رحمته.
- تحزيب القرآن قراءةً واستماعًا.
- المحافظة على الأوراد القرآنية الموظفة، مستحضرًا نية الاعتصام.
- الطهارة والوضوء عند تعليم القرآن ومدارسته.
- الالتزام بطهارة المكان: ويلحق به طهارة المجلس والثوب، ونحو ذلك.
- الحرص على نظافة الفم؛ وعن عليّ رضي الله عنه أنه أمر بالسواك، وقال: قال رسول الله ﷺ: «إن العبد إذا تَسَوَّكَ، ثم قام يصلي قام الملك خلفه يستمع القرآن، فلا يزال عجبه بالقرآن يُدينه منه؛ حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهِّروا أفواهكم».
- الاستعاذة والبسملة عند الشروع في القراءة: والاستعاذة حصن من الشيطان، وقد قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98).
- الالتزام بمدارسة القرآن: ولو آية من المَتْلُوِّ، وتتحقق المدارسة بتدارس حكم تجويدي فيها، أو بتدارس ما فيها من قراءات، أو السؤال عن معنى لفظة، أو ذكر المعنى الإجمالي لآية، أو ذكر فائدة متعلقة بالآية، أو السؤال عن نظائرها القرآنية، او مشابهاتها اللفظية.. أو نحو ذلك من وجوه المدارسة، وبما يتناسب مع سن الطلاب ومستواهم، ووقت جلسة القرآن ونظامها.
- الترتيل وتحسين الصوت بالقرآن: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن، يجهر به». وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «إن من أحسن الناس صوتًا بالقرآن: الذي إذا سمعتموه يقرأ؛ حسبتموه يخشى الله».
- التدبر والتفاعل مع المقروء بحضور القلب وسؤال الرحمة، والمغفرة، والاستعاذة، والجواب والشهادة.... ونحو ذلك. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: «قمت مع رسول الله ﷺ، فبدأ فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلي وقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة؛ لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف يتعوذ...» الحديث.
- الدعاء والاستشفاء، وسيأتي تفصيلها في المطلب الثاني.
الاستثمار الدعوي لرحمة القرآن
الداعية الحق محتاج لكل ما من شأنه ترقيق القلوب واستمالتها، يود لو أن الحق يصل إلى كل أحد، وينتفع به كل إنسان، فيترفق في التبليغ، ويتلطف في التبيين، ولا يدخر جهدًا في سبيل تحقيق ذلك. وأعظم شيء إثرًا، وأحلاه بيانًا هو القرآن؛ قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر: 21)، فإذا علم أن الرحمة من أخص أوصاف القرآن الكريم، تبصر بأمور فيها استنزال لرحمة القرآن، وتعرض لأثره البليغ. وبالأخذ بها يكتمل البناء العلمي والسلوكي للداعية، فإذا أخذها بحقها كان مرجُوًّا أن يحصل له أثر رحمة القرآن بإذن الله، وأن يُوضع له القبول في الأرض، فتفتح له قلوب العباد، وآفاق البلاد.
وفيما يأتي بيان بأهم تلك الأمور:
- النية، والمحافظة على حزبه قراءةً واستماعًا، والمحافظة على الأوراد القرآنية الموظفة بنية الاعتصام، والحرص على الطهارة قدر الإمكان. وقد تقدم ذلك.
- التمكن من علم القرآن وتقديمه: فمن أُولَى مهمات الداعية أن يجعل علم القرآن على رأس العلوم ومقدمها، فالقرآن هو رأس العلم، فمن لم يأخذ بحظه من علم القرآن فلا يتخيل أن يُعدَّ في العلماء. ولا يبرز طالب العلم الشرعي، ولا يتأهل في أي فرع من فروعه إلا بقدر ما ينهل من علم القرآن؛ إذ هو الأصل المقدم على غيره.
ولا يعني الاكتفاء بالقرآن أن تترك السنة، فالسنة شارحة له ومفسرة، ومفصلة لمجمله. وقد صحت بذلك الآثار، وإنما المقصود أن يكتفي به في مقام الدعوة، وبما تبعه من سنة وعلم شرعي عن كثير من الكلام الفلسفي، والجدل العقيم الذي لا يثمر علمًا، ولا ينبني عليه عملٌ، وإنما قصار متعاطيه أن يتشتت في أودية الجدل، ويضل في غياهب المراء.
- إحكام الأدلة: وعلى قدر تحصيله لعلوم القرآن يتمكن من إحكام الأدلة القرآنية، وما اتّصل بها توضيحًا وتفصيلًا. ولإحكام الأدلة أربعة أركان؛ الأول: القدرة على إيراد الأدلة في مواطن الاستشهاد الصحيحة، والثاني: استيعاب أدلة المسألة، والثالث: إحكام الدليل ضبطًا واستحضارًا، والرابع: إحكام البيان عند إلقائها وعرضها. وفي هذا استنزال للرحمة بالداعية والمدعوين؛ لأن في إحكام الدليل عصمةٌ من سوء الفهم، وقطعًا للشبهات والريب، وحسمًا للتردد والذبذبة بين الحق والباطل. ففي إحكام الدليل عصمة من الشبهات، وشفاء من الشهوات.
- نبذ الخلاف في القرآن والإعراض عن الخوض فيه بغير علم: قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 68).
- الدعاء بالرحمة لنفسه وللمدعوين: وينتزع مما سبق أن من آكد الأمور استنزالًا لرحمة القرآن الدعاء بها للنفس، وللمدعوين، ولعموم المؤمنين، وحبذا أن يلتزم الداعية نص الآية فيدعو: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران: 8 – 9)، ويلتزم النص المأثور عن النبي ﷺ؛ قال: «ما قال عبدٌ قطّ؛ إذا أصابه همٌّ أو حزن: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ في قضاؤك. أسألك بكلِّ اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتً به في علم الغيب عندك، أن تجعلَ القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحًا». قالوا: يا رسول الله: ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: «أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن».
- الاستشفاء بالقرآن من الأمراض التي تَعْرِض للداعية والمربي: يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57). ففي القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والنفاق والخلاف والشقاق والغل والحسد والشح والجهل، يشفي به الله جهل الجهال؛ فيُبرئ به داءهم، وذلك أن داء الجهل أضرُّ للقلب من داء المرض للبدن، فالمزيل له أجلّ شفاء وأعظم موقعًا.
أهم النتائج:
- صفة الرحمة من أَخَصِّ صفات القرآن الكريم. وقد وُصِف القرآن بأنه رحمةٌ صراحة أو إشارة- في ست عشرة آية، أُفردت في ثلاث منها، واقترنت بعشر صفات أخرى في ثلاث عشرة.
- تنوعت جهات وصف القرآن الكريم بالرحمة، وإضافة إلى الوصف الصريح والضمني؛ ويمكن تلخيص بعض وجوه رحمة القرآن التي توصل إليها البحث فيما يأتي:
- أنه تنزيل من الرحمن الرحيم.
- أنه نزل على موصوفٍ بأنه رحمة للعالمين، وأنه رحمةٌ للمؤمنين.
- أنه متضمنٌ للهدى والإرشاد الصالح لهداية من وُفِّق للأخذ بأسباب الهداية.
- أن من وُفِّق للأخذ بأسباب الهداية موعود برحمة الله في الآخرة.
- أنه نزل بلسان عربي مبين.
- أنه واضح الدلالة بين المراد في جملته، فمن أخذ بأسباب فهمه لم يَخْفَ عليه معناه.
- أنه بيان كل شيء من الحلال والحرام والأمر والنهي، وسائر ما يفتقر إليه البشر في صلاح معادهم، وأصول صلاح معاشهم.
- أنه مبين لمواضع الخلاف، حاكم فيه بما يرفعه وينفيه، فيحصل به الاجتماع لمن جعل الحق بغيته، ولم يتبع هواه. ومعلوم أن الخلاف والرحمة لا يجتمعان.
- أن حصول البصيرة به مرشح لصاحبه المزيد منها، فتتكون له ملكة في استبصار الحق والتهيؤ له، واستبصار الباطل، والإعراض عنه؛ حتى يصير ذلك له خُلُقًا وسجيةً ينطبع عليها انطباعًا، بعد أن كان يتخلقُها تكلفًا.
- أنه بصائر بتنوع طرق الدلالات ومسالكها، بما يناسب اختلاف المخاطبين، وتفاوت ملكاتهم.
- أنه فصول مشتملة على أنواع العلوم والمواعظ، ففيه رحمة تنويع وتثنية.
- أنه نزل مفصلًا منجمًا، ففيه رحمة تيسير.
- أنه فُصِّل على علمٍ بما يصلح العباد، ففيه رحمة مراعاة المناسبة.
- أنه فُصِّل بإعلامهم ألا يأتون بمثله، ففيه رحمة تطمين بصدق المرسل به، فلا يتركون نهبًا للشك في صدقه.
- أنه موعظة متنوعة على خطاب العقل والعاطفة، فلا يحصل بها إفراط ولا تفريط.
- أنه عصمة من رؤوس الآفات والفتن.
- أنه شفاء من أمراض القلوب والأبدان.
- أنه ذكرى، وغيره الآيات التي جاءت بها الرسل، لم يشاهدها إلا من حَضَرَها، فلم تتجدد لهم بها الذكرى، ولم تحصل أصلًا لمن لم يحضرها إلا إخبارًا، وإنما يكمن الإعجاز الموصل إلى تمام اليقين في حضورها ومشاهدتها عيانًا. وأما القرآن فتتجدد به الذكرى لقارئه كلما قرأه، فبقي ذكرى صالحة لكل زمان ومكان، وهو في هذا يختلف عن الآيات والمعجزات الأخرى.
- أنه في كونه آية ومعجزة يختلف عن المعجزات الأخرى، التي جاء بها الرسل في أنه لم يقع معه للمكذبين عذاب استئصال، على عكس المعجزات السابقة، التي كان يصاحبها غالبًا وقوع العذاب والهلاك في الدنيا للمكذبين بها، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
- أنه بشرى، ومن تمام الرحمة أن ينظر المُنَعَّم بعين عقله في مآل نعيمه فيعلم أنه دائم غير منقطع، فإن لم يتحقق له ذلك استحال نعيمه شقاء، فالبشرى بدوام حصول الرحمة من تمام الرحمة. والبشرى رحمة في العقبى آجلة محققة، إذ كان المُبشر صادقًا.
- أنه تصديق لما بين يديه من الكتاب؛ لأن خروج الكتب من مشكاةٍ واحدة أدعى للتصديق به والإذعان له والإيمان به، فتحصل الرحمة بذلك.
- أنه تَفَضُّلٌ من الله ابتداءً.
- أنه مهيمن على ما بين يديه من الكتاب، وأن الله فَضَّل النبيّ الذي أُنزل عليه، وفضَّل الأمة التي أُنزل إليها، وفَضَّل منهم أهل القرآن ونسبهم إلى نفسه. ومن كانت تلك منزلته فهو أدخل الناس في الرحمة، وأحراهم بتَغَشِّيهَا إياه.
- أنه مُيَسَّرٌ بلسان قارئه وتاليه.
- أنه مُيَسَّرٌ في حفظه واستظهاره واستحضاره.
- أنه مُيَسَّرٌ في تعاهده.
- أن العمل بمقتضاه يسير في الجملة على عموم البشر.
- أن القرآن لا يخلق على كثرة الرد، ولو كان كذلك لم يضمن استمرار كونه رحمة.
- أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظه، ولو أوكل حفظه إلى البشر لكان فيه مشقة عليهم. ولو أوكله إليهم لحرفوه كما حرف من كان قبل من أهل الكتاب، فلم يضمن استمرار كونه رحمة.
- أن من السبل القيمة لاستنزال رحمة القرآن واستجلاب بركته: القيام بحقوقه عامة؛ باتباع أمره، واجتناب نهيه، والتصديق بخبره، والنصح له... ونحو ذلك. كما أن هناك حقوقًا خاصة تستسقى بها رحمة القرآن؛ ككثرة تلاوته واستماعه، والاعتصام به، والاستشفاء به، ومدارسته.
- لما كانت الرحمة من الصفات التي يحصل بها التأثير القرآني- الذي هو أحد أوجه إعجازه- فإنه يمكن استثمار رحمة القرآن تربويًا ودعويًا من خلال الاهتمام بتصحيح النية واستحضار نية استنزال رحمته، والحرص على التأدب بآداب تلاوته ومدارسته، والعكوف عليه فهمًا وتدبرًا، وتقديمه على غيره من العلوم، وإحكام أدلته، والدعاء به، والاستشفاء به من الأمراض التي تعترض المربي والداعية.
.