رحل من رحل، واستشهد من استشهد، ومات من مات، وعاش من عاش، فكلها أمور لا تخرج عن إرادة رب الكون، ولا يفسدها أحد من خلقه.
فقد خلق الله عباده وقدر لهم حياتهم بعدما اندهشت الملائكة من ذلك، معللين السبب: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، إلا أن الرسالة لعموم الخلق: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30)، فنال آدم وذريته التكريم الرباني بسجود الجميع له، أنزله الله بحكمته لاستكمال مهمته التي من أجلها خُلق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).
لم يخلق الله هذا الكون وما فيه عبثًا ولا دون حكمة، قال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115)، ومع ذلك جعل الصراع بين مخلوقاته لتتجلى حقائق الحق دامغة في وجه الباطل الذي أقسم الشيطان أن ينشره على الأرض وبين عباد الله، ويعاونه فيها كثير من البشر الذي حادوا عن هدفهم الذي من أجله خلقوا، فأصبح الصراع في ظاهره بشري بين بني آدم، بين قوم يحملون الحق ويعملون له، وآخرين ينصاعون وراء شيطانهم ويزينون الباطل والكفر في أعين الناس، بعدما امتلكوا السبل من أجل ذلك، حتى أضحى جميع العباد محصورين بين آيتين، آية تتجلى في قوله تعالى: {بِإِذْنِ اللَّهِ}، وأخرى: {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}، حيث الفعل والحركة البشرية المركونة إلى مشيئة الله، والفعل والتصرف الرباني دون تدخل من عباده.
كتب الله على عباده البلاء؛ لتقييم الاختبار الذي يمر به كل إنسان، ويحدد منزلته في الجنة بناء عليه، إلا أن الله سبحانه احتفظ لنفسه بالمشيئة والتصرف في الأمور التي يعجز الإنسان على فعلها، وهنا يتجلى قول الله تعالى: {بِإِذْنِ اللهِ}.
فــ{بإذن الله} تختلف عن {إن شاء الله}، حيث اختص بالأولى الفعل الرباني فقط دون تدخل من أي أحد من البشر، فجاءت الآيات موضحة لهذه المعاني التي يعجز الإنسان عن تغييرها، وهنا يطلب التغيير من رب العباد بقلب طاهر وصابر على ما يجرى، وليس شرطًا أن يحدث التغيير وفق إرادة البشر، لكن المؤكد أن التغيير يحدث وفق تقدير الله سبحانه وحكمته، ولا أرى أنها ترتبط بأحداث الماضي فقط، لأن {بإذن الله} ترتبط بأحداث مضت، فكيف بحاجة الإنسان لنصر الله، ورفع البلاء وتخفيف الكرب، فإنها تحتاج الإرادة الربانية التي لا يمتلكها الإنسان، فتظل بإذن الله مصاحبة للخلق ما دامت السموات والأرض، لأنه حينما يعجز الإنسان عن فعل شيء تأتي الإرادة الربانية.
فيقول الله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 97)، فنزول جبريل تم بإرادة إلهية خالصة، لا دخل لأحد من الرسل أو البشر فيها.
ويقول تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 102) فوقوع الضر على أحد لا يملكه إنسان ضد إنسان، لكن إذن الله وتصرفه هو ما يُوقع الحدث.
ويقول تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} فنزول وتحقيق النصر في الواقع البشري أن الفئة الكثيرة هي من تنتصر، لكن إرادة الله تحول النصر للفئة القليلة المؤمنة على الفئة الكبيرة الكافرة، حتى ولو بعد حين، حتى جاءت الآية التي تليها لتحقق هذا المعنى الرباني: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 252)، وقد جعل الله هذه الإرادة بيده حتى يلجأ الإنسان لربه في كل وقت، وحتى لا يتحكم أحد في مظلوم، أو فيمن يعمل لنصرة دين الله، فمهما تعرض للاضطهاد والبلاء سيأتيه فرج الله من حيث لا يحتسب، بإذن ربه وحده دون أن يعترضها أحد من الجن أو الإنس او الملائكة.
كما تتجلى عظمة الله في هذا الأمر أن جعل الحياة والممات بيده، فلا أحد من البشر أو من مخلوقات الله يملك توقيت موت أحد، ولا الطريقة التي سيموت بها، ولا المكان ولا الزمان لأنه معلوم فقط لله قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: 34)، ومن ثم جعل الله الروح بيده وخروجها بإذنه وحده، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} (آل عمران: 145).
لقد خص الله سبحانه تعالى نفسه بأمور بعيدة عن منال البشر حتى لا يكون لأحد سلطان على أحد، وكرسالة ربانية لعبادة أنه مهما طال البلاء فإن الله سيفرجه من عنده، ومهما اشتدد الضيق فإن الله كاشفه، ومهما حدث من أحداث ربما في ظاهرها شر إلا أن الله خبأ الرحمات في باطنها ليظهرها بإذنه وقتما شاء.
لكننا إذا توقفنا مع مشيئة الرحمن سبحانه، فإنه قد أعطى للإنسان بعض التصرف المصحوب بالمشيئة الربانية، فهي من فعل الإنسان لكن بعد أن يأذن الله له فيها، ولنقف مع هذه الآيات التي اشتملت على هذه المشيئة الربانية.
يقول تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} (البقرة: 70)، على الرغم من تشابه البقر إلا أنهم هم من سيهتدون إليها بعد مشيئة الله، وهم من سيقومون بذبحها، فالفعل هنا بشري مصحوبٌ بمشيئة الرحمن.
وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا* إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف: 23)
وقوله تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} (الكهف: 69)
وقوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (القصص: 27)
وقوله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102)
يتضح لنا أن كل أمور العباد لا تتم إلا بمشيئة ربانية، حتى يحسن العبد حسن اللجوء إلى الله في الأمور التي لا دخل له فيها، فيذرف الدمع طلبًا لنصرة الله، وتخفيفًا لكروبه وهمومه، ويتيقن أن هذه الأمور بيدي الله وحده، وليست بيدي أحد من البشر مهما بلغوا من قوة ومهما علوا في الأرض، ومهما زاد من ظلمهم وفسادهم فلهم يوم قدره الله لا مناص منه.
وبيّن حسن التوكل على الله في أموره الحياتية أنها لا تتم بمشيئته لكن بمشيئة الله، فيظل لسانه دائمًا يلهج بذكر الله مُرجِعًا ضعفه إلى قدرة الله، وأنه لا يعرف ما ينتظره في المستقبل من أمور لكنه يكلها إلى مشيئة الله سبحانه.
وهكذا يظل المؤمن بين رجاء وخوف، بين طلبٍ لنصر الله في معالي الأمور، وبين إسناد فعله لمشيئة الله التي ربما يغير في الأمور أمورًا تكون في صالح العبد.
.