لا شك أن الإصلاح التربوي هدف تصبو إليه الجهود المخلصة من أبناء الأمة بغية النهوض من الهوة التي وقع فيها الحقل التعليمي بمفرداته وعلى رأسه (المعلم- المتعلم- المنهج المدرسي- والمناخ التربوي)، وواقعنا خير شاهد!
والدعوة إلى الإصلاح التربوي ليست وليدة اليوم، بل جذورها تمتد منذ فجر الإسلام والدعوة إليه عندما أنزلت إليه آيات القرآن لتبين دوره في قوله تعالي: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164)، وقد بين النبي ﷺ دوره قائلًا: «إنما بعثت معلمًا».
وفى دراسة للدكتور محمد فتحي محمد العتربي، بعنوان: (الوعي المقاصدي عند الإمام الشاطبي وأثره في الإصلاح التربوي) -2010-، يذكر أنه إذا كانت الدراسات التربوية ترى أن أفضل طرق قياس المعلم تقييم طلابه؛ فقد كان النبي ﷺ أعظم معلم ومربي، فعن طلابه وتلاميذه- قال تعالى-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110)، وعلى دربه سار المصلحون والمربون من أبناء الأمة، والإمام الشاطبي منهم من خلال الكشف عن إصلاحه التربوي النابع عن وعيه المقاصدي.
دور الوعي المقاصدي في إحياء العقل وإصلاح المعرفة
اتجه عدد كبير من المفكرين التربويين والنقاد خلال العقود الثلاثة الماضية نحو نقد العقل المسلم ومحاولة تحليل الخلل الذي نجم عنه تلك الحالة من الوهن العام في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية. ذلك أن العقل المسلم الذي سبق أن تفتق عن دور نهضوي وتغيري واضح في مجالات شتى، نجده اليوم في ذبول وفتور. الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى البحث عن ذلك العقل الواعي النهضوي كي تعود الحياة إلى الأمة من جديد.
ولا شك أن الوعي المقاصدي باعتباره مرحلة جادة من مراحل الجدة في البحث عن المنهجية الإصلاحية يمثل خطوة رائدة وأولية للنهوض من الكبوة التي سقطت فيها تركيبة العملية التعليمية ومفرداتها، بل هو الأداة المعرفية القادرة على تخليص العقل من شوائبه وأدرانه التي خيمت عليه ومثلت غطاءً سميكًا حال بينه وبين وسائل المعرفة والنمو.
إن مشروع نقد العقل المسلم المعاصر وبيئة التخلف التي أصابته، تحتاج إلى مزيد من النظر والكشف عن مواضع الصحة والنمو في تراثنا الفكري، ويأتي الوعي المقاصدي- فيما أحسب بريادة الإمام الشاطبي- في مقدمة ما ينبغي كشفه واستلهام معالمه الإصلاحية. كما سنرى من البحث- بما يتضمن من محاولات لفهم العلل، وتصويب لمنهج الاستدلال والنظر، وتحليل الخطاب ومدى مواءمته للمتغيرات الراهنة بما يسهم في فقه التنزيل وسلامة التأويل معًا.
ولذا دعا الباحث إلى البحث عن المنهج المقاصدي ودوره في الإصلاح المعرفي وتعليق الأمل عليه معللا بما يلي:
- أن الفكر المقاصدي رابط جامع بين فروع المعرفة وروافدها الإصلاحية في المجالات شتى- العبادية والاجتماعية وغيرهما.
- أن الوعي المقاصدي يمثل تصورًا كليًا في الفهم والإدراك لمختلف الظواهر الحياتية ومنها العملية التربوية بمختلف جوانبها.
- أن نهضة العلوم والمعارف وازدهارها، ونمو الأفكار وفاعليتها كل ذلك لا يتم بمعزل عن الإطار الاجتماعي والحضاري العام الذي تتفاعل معه وتتأثر به وتجيب على ما يطرحه من قضايا ومشكلات. وواقعنا المعاصر بحاجة إلى إعادة صياغة ليخرج من حالة الجمود والركود والانكفاء التي سقط فيها.
- أن المحافظة على العلوم لا تكون إلا بالعكوف على ما شاده الأولون وإعادة استلهام جوانب الا بداع منه، بالإضافة إلى التواصل المعرفي وما أبدعه الإنسان حديثًا دون النظر إلى لونه أو جنسه أو دينه، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها هو أحق الناس بها ولا ينبغي تحت أي ظرف أن تقف العقول عن الابتكار.
- أن وضعية التعليم والمعلم وما يرتبط بهما من منهج ومناخ يحتاج إلى وعي كامل بأبعاد العملية التعليمية وأهدافها وغايتها الرامية إليه، والوعي المقاصدي خير منهج لدراسة ذلك كما ذكر الإمام الطاهر ابن عاشور: «فلا بد للناظر في أمر التعليم العربي والإسلامي من صرف غاية حذقه ومواهبه إلى وضع برامج تحقق حياة هذا التعليم على حالة كاملة وتحقق مقاصد طالبيه في معترك حياة عصرهم، وتحقق مقاصد الأمة من خريجي هذا التعليم».
وهنا سؤال هام: لماذا السعي إلى إصلاح الجانب المعرفي في العملية التعليمية؟
والجواب في سطور يتلخص فيما يلي:
أولًا: أن صلاح التعليم أساس في استقامة الأعمال وجميع الأشكال دنيوية أو أخروية.
ثانيًا: أن صلاح التعليم سبيل لإفراز النوابغ والقادة ولا سبيل غيره لإنتاج أولئك الأفذاذ.
ثالثًا: أن صلاح التعليم من مميزات الأمم الراقية.
رابعًا: أن الخطأ في التعليم أشد على الأمة من خطر الجهالة.
خامسًا: أن صلاح التعليم من أهم وسائل التصدي للغزو الفكري بما يحقق في المجتمع أمنًا وفكريًا واستقرارًا اجتماعيًا.
تعريف بالشاطبي ومكانته العملية
هو: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الغرناطي، أبو اسحاق، الشهير بالشاطبي (الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد..) إلى نعوت أخرى كثيرة من هذا القبيل.
لا شك أن أهم ما خلفه الشاطبي من مؤلفات هو كتابه الشهير (الموافقات) ذكر في مقدمته أنه كان قد اختار له اسم (عنوان التعريف بأسرار التكليف) نظرًا لما تضمنه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية، ثم عدل عن هذا الاسم إلى اسم (الموافقات) وبناء على رؤيا رآها أحد الشيوخ من ذوي الحظوة والاحترام عنده.
وقد وصف أحمد التنبكتي كتاب «الموافقات» بأنه: جليل القدر جدًا، لا نظير له. يدل على إمامة الشاطبي وبُعد شأوه في العلوم، سيما علم الأصول. وقد طبع الكتاب وصدر في مطلع القرن الهجري الماضي بتونس سنة 1302هـ.
نقده لطرق العلم القديمة وترجيحه
ثم ينتقل الشاطبي إلى نظرة شاملة للتعليم من حيث إنه صناعة؛ فيرى أن طرقه تنحصر في اتجاهين: أولهما الطريق السهل القريب الذي لا تَكلف فيه، والذي يقع الاعتماد فيه على المحسوسات والتجارب العلمية، وهذا هو الطريق الحسن الذي يُحول العلم إلى أعمال، وهو الطريق الذي كان يسلكه رسول الله ﷺ في تعليم الناس شريعة الإسلام؛ كأفعاله في الصلاة والحج، وانتهجه من بعده من اتبعه من الصحابة وغيرهم فلم يكونوا متكلفين، وإنما قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين.
وثانيهما الطريق الصعب الذي يتوخى فيه أهله بحث المعاني المجردة، بأساليب معقدة فيها تكلف، وأسوأ ما في هذه الطريق البعد بالعلم عن العمل. وغاية ما يهدف إليه السالكون لهذا المنهج، الوقوف على ماهيات الأشياء في زعمهم، فيوقعهم ذلك في الفضول، ويُتلفق جهودهم العقلية في غير جدوى.
شروطه المعلم ومقاييس اختياره
إذ سلمنا بأنه لا علم بغير معلم؛ فسماع مسائل العلم من العلماء، ومحاورتهم فيها هي الطريقة الصحيحة لفهم العلوم واكتساب المعرفة والتمكن منها، أما الاعتماد على الكتب دون العلماء فإنه ينتهي بأهله إلى الاضطراب والخلط، وذلك ما عِيبَ على ابن حزم فإنه «لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدَّب بآدابهم وقد قيل: من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه».
ويرى الشاطبي أن الإخلال بهذه القاعدة التربوية لا يتوقف على الضعف الفكري، وإفساد العلوم بإشاعة الاضطراب فيها، وإنما يتجاوز ذلك إلى الفساد الديني والخلقي؛ لأن العلماء لا يقتصر أثرهم في طلابهم على العلم والفكر، وإنما يتجاوز ذلك إلى تربيتهم على العقائد الصحيحة، والآداب العالية لأنهم قدوة. «وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالمًا اشتهر في الناس الأخذ عن إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك. وقلما وجدت فرقة زائفة، ولا أحد مخالف للسُنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف».
الشاطبي هنا يمنع الاعتماد على الكتب وحدها بالنسبة إلى الطلاب، أما بالنسبة للمعلمين والشيوخ الذين استكملوا عقولهم ونفوسهم فإن لهم أن يعتمدوا من الكتب ما خبروا نفعه.
وهو يضع شروطًا أساسية للانتفاع من الكتب حتى بالنسبة للمعلمين، هي أن يكون الآخذ منها عارفًا معرفة صحيحة بكليات العلم الذي يأخذه منها وأن يكون مُلَّما بمصطلحاته، وأن يعتمد أوثق الكتب وذلك بالرجوع إلى مصنفات العلماء الذين اشتهروا بين الناس بذلك العلم الذي يأخذه.
يضع الشاطبي مجموعة من المقاييس لاختيار هؤلاء العلماء أهمها اثنان:
أولهما: أن يكون المتصدي لتدريس أي علم من العلوم عارفًا بأصوله، وما ينبني عليه ذلك العلم. قادرًا على التعبير عن مقصوده فيه. وعارفًا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبهة الواردة عليه.
ثانيهما: أن يكون من أهل الفضل والمروءة بحيث يطابق قوله فعله، ليكون قدوة للآخرين، كما كان رسول الله ﷺ قدوة للصحابة رضي الله عنهم، وكما كان الصحابة قدوة لمن أتى بعدهم من التابعين والصالحين.
وهكذا نتبين أن العلم والأخلاق هما قواما الانتفاع من المعلمين عند الشاطبي.
آراؤه في طرق التعليم واكتساب المعارف
إن الإصلاح التربوي عند الشاطبي يتمثل في توجيه الطلاب إلى فروع المعرفة، وفنون الصناعة حسب مواهبهم الفطرية التي أنشأهم الله عليها، فيكون الشاطبي قد سبق الفكر التربوي المعاصر إلى هذه الحقيقة العلمية التي عرفها الناس اليوم على ضوء ما انتهى إليه علم النفس التربوي.
وفي أثناء العناية بذلك يقول: «في كل واحد من الخلق ما فُطِرَ عليه؛ فترى واحد قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرئاسة، وآخر للتصنع بعض المهن المحتاج إليها؛ ولكن قبل هذا التوجيه حسب المواهب، لا بد من تعليم جذري مشترك، يقع في التعرف على مختلف المواهب لتوجيه كل ذي موهبة إلى ما خُلق له». يقول في هذا الأسلوب التربوي المتبع في أيامنا أيضًا.
ومجمل آرائه في التعليم المشترك ومواهب الطلاب أنه يُقسم المتعلمين إلى ثلاثة أصناف: صنف عاطل من المواهب، لا فائدة من إضاعة الجهد معهم، إذ لا يُبدل الشيء إلى غير أهله. وصنف متوسط المواهب، سيقف به السير دون بلوغ الغاية، ولكنه ربما ينفع الناس بما بلغه من رتبة في التعلم (فحيث وقف السائر، وعجز عن السير، فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة). وصنف ثالث هم أصحاب المواهب العالية. هؤلاء ينبغي رعايتهم رعاية كاملة. ومن كانت لهم قوة العقل وصفاء الذهن، ونباهة وفطنة تُركَ وما أحب من العلم وحتى يأخذ منه ما قدر عليه، من غير إهمال له، ولا ترك لمراعاته، إلى أن يصل إلى أقصى الغايات.
نلاحظ أن ما جاء به الشاطبي في هذه الفقرات من آراء ينادي بها لإصلاح التعليم الإسلامي في عصره، قريب من أهم القواعد البيداغوجية الأساسية التي يقوم عليها التعليم المعاصر، وهذا ما يدعونا إلى البحث في تراثنا عن أسس نهضة إسلامية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتكون مساهمة منا في تقديم الإنسانية دون بقاء في موقف المستهلك للحضارة.
طرق التعليم واكتساب المعارف
تنبه الشاطبي هنا إلى القواعد الأساسية لطرق التعليم التي يتبعها الناس في أيامنا هذه، وأول ما يبدأ من ذلك أن يضع هذه القاعدة وهي: البدء بالبسيط من المعرفة قبل المركب فيقول: «ولا يُذكر للمبتدئ من حظ المنتهي من العلم بل يربى الصغار بصغار العلم قبل كباره». ثم ينتقل إلى قاعدة أخرى هي ما نسميه بقاعدة البدء بالسهل قبل الصعب وهي مكملة للقاعدة السابقة، ويقول فيها: «لا تُعَلِم الغرائب إلا بعد إحكام الأصول»، وينبه إلى أن مخالفة هذه القاعدة تؤدي بالمتعلم إلى النفور من العلم، أو إلى الوقوع في الخطأ بسبب سوء الفهم وذلك هو الفتنة. والواقع أن الظن يتجه بكثير من رجال التربية اليوم إلى أن هاتين القاعدتين من إنتاج الفكر التربوي المعاصر لولا هذه النصوص التي تثبت أنها من تراث الإسلام.
ينتقل الشاطبي بعد ذلك إلى قاعدة ثالثة هي ما يسمى بقاعدة «البدء بالمحسوس قبل المجرد»، ويدخل المحسوس عنده في صغار العلم؛ والمعلم الموفق هو الذي يربى بصغار العلم قبل كباره. وقد قال ﷺ: «حدثوا الناس بما يفهمون؛ أتريدون أن يُكَّذب الله ورسوله».
تأثير الشاطبي في الجانب المعرفي لحياتنا المعاصرة
إن أهم الإشكاليات التي تواجه التأسيس النظامي المعرفي في العملية التعليمية على النحو المرتجى هي الإشكالية القائمة الآن بين انفجار المعرفة وانفجار السكان؛ فانفجار المعرفة نقلة كيفية، وانفجار السكان نقلة نوعية، وهنا يثار سؤالان: الأول: ماذا نعلم في ضوء انفجار المعرفة؟ والثاني: كيف نعلم في ضوء انفجار السكان؟ فبين الكم والكيف تحار الوسائل التعليمية المكونة للمعارف المحققة للنهوض والإصلاح، وإذا ذاعت شهرة الشاطبي بين معاصريه، وبلغت أطرافًا من البلاد الإٍسلامية خارج الأندلس، وتأثر به كثير من طلابه الذين أصبح البعض منهم من أئمة العلم في العالم الإسلامي كله، ولم يقف هذا التأثير على بيئته وعصره وإنما تجاوزهما إلى عصرنا هذا، ويذهب عبد المجيد ترك في كتابه (مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم والباجي) إلى أن الشاطبي يُعد اليوم من دعائم الصحوة الإسلامية يحركها في اتجاهيها اللذين نأخذ بهما الآن، وهما: الاتجاه السلفي بالنسبة للحياة العامة، واتجاه التعليل بالمقاصد الذي أصبح يسود الدراسات الشرعية؛ ويعلل الشيخ محمد الفاضل بن عاشور هذا التأثير بأن المصلحين من أعلام الفكر الإسلامي الحديث اعترضتهم مشكلة التلاؤم بين الشريعة الإسلامية ومستجدات الحياة العصرية، فوجدوا في عمل الشاطبي في الموافقات، وكتاب الاعتصام سبيلهم إلى التغلب على تلك المشكلة وبيان ذلك لأنهم وقفوا على ما قرره الشاطبي من أن الدين غايته جلب المصالح ودرء المفاسد، فاتضح لهم ما يأخذون من الحضارة الغربية وما يتركون، فنادوا بأن يأخذ المسلمون الصالح منها ويتركوا الفاسد.
وقد ابتدأ تأثير الشاطبي بكتابيه المذكورين في رواد حركة الإصلاح منذ القرن الماضي، وما يزال في حالة امتداد متواصل إلى اليوم، وكان هذا التأثير متجهًا اتجاهين يطغيان على الحركة الإسلامية المعاصرة وما يصحبها من تجديد الفكر.
وكان تأثير الشاطبي في رواد حركة الإصلاح الإسلامية الحديثة متنوعًا، وقد بدأ هذا التأثير بالشيخ محمد عبده (ت 1905م) الذي يقال إنه كان أول من نبه العلماء والطلاب بالمشرق إلى الشاطبي، وإلى أهمية كتاب الموافقات وقد كان حظه من الإهمال- قبل عناية محمد عبده به- مثل حظ معاصره ابن خلدون قبل أن تلفت الدراسات الغربية الأنظار إليه.
ويبدو أن محمد عبده تأثر بالشاطبي في الناحية الفكرية، ونعني بها ناحية المقاصد وأصول الفقه ويدلنا على ذلك ما يذكره الشيخ محمد الخضري من أنه لما كان بالسودان يدرس علم أصول الفقه للطلاب الذين يقع إعدادهم بالكلية ليكونوا قضاة، زار الشيخ محمد عبده السودان، فعرض عليه الشيخ الخضري ما كان يلقيه على الطلبة من دروس، فأثنى عليه، وكله دعاه إلى اعتماد كتاب الموافقات للشاطبي وأن يمزج ما جاء به في هذا الكتاب من علم المقاصد بما كان يدرسه للطلاب من علم الأصول حتى ينتبهوا إلى أسرار الشريعة الإسلامية، وتتسع آفاقهم للنظر، ويذكر الشيخ الخضري أنه استجاب لما طلب منه محمد عبده فيقول: «فاستحضرت هذا الكتاب، وأخذت أطالعه مرات حتى ثبتت في نفسي طريقة الرجل، وجعلت آخذ منه الفكرة بعد الفكرة لأضعها بين ما آخذه من كتب الأصول، حتى جاء بحمد الله ما أمليته وفق مرامي».
وعن طريق محمد عبده، تأثر الشيخ محمد رشيد رضا (ت: 1935) بكتاب الموافقات، فأخذ يعالج النواحي المصلحية في الشريعة، ويذكر أن مسائل المعاملات من سياسة وقضائية وغيرها ترجع كلها إلى قواعد حفظ المصالح، ودرء المفاسد، وكل ما عُلم من مقاصد الشريعة.
ففي المجال التربوي والتعليمي فإن آثار الشاطبي بدت واضحة على ما ألفه الإمام محمد عبده وما قدمه من خطط لتطوير التعليم في الأزهر الشريف، لغة الإمام محمد الطاهر بن عاشور من مؤلفات في المنهجية الإسلامية والتعليم العربي الإسلامي وكتابه (أليس الصبح بقريب) شاهد حاضر.
إن مقاصد الشريعة هي التي تنير سبلنا، فنتبين على ضوئها التطور الحق، ونستمد منها مواقفنا من كل ما يفد علينا من تيارات أجنبية.
وهكذا يتضح أن الشاطبي ما زال يعيش بيننا بفلسفته في المقاصد وآراؤه الإصلاحية، إن رجال العلم والفكر في العالم الإسلامي يجدون فيها معينًا لدعواتهم إلى الإصلاح والتجديد على أسس من القيم الثابتة.
الخاتمة
وفي خاتمة هذه الورقة- نسأل الله تعالى حسن الخاتمة- يرى الباحث أن تعليمنا الديني والمدني يحتاج إلى مزيد من الجهود الصادقة لرفعته ونهضته معرفيًا، وإذا كانت الحكمة ضالة المؤمن فأينما كان التجديد والتطوير مجديًا ومؤثرًا أو نافعًا للأمة وفعالًا في تخريج أبنائها تخريجًا يفتق المواهب ويصقل الخبرات ولا يصطدم مع الثوابت الأخلاقية، فالسبيل إليه مفتوح ولا يعجز عنه.
وإذا كنا نستلهم عبق الأصالة من تراثنا الفكري والحضاري كما عرضت تلك الورقة، فإننا مأمورون بالتجديد والتحديث في الوسائل والمناهج دون تحيز أو رفض.
لذلك علينا:
أولًا: استلهام خبرات السابقين من الأئمة الأعلام الممثلين لثقافة الأمة وتراثها حتى تنمو حياتنا العلمية بالأصالة والتجديد معًا.
ثانيا: تبني رؤية الإمام الشاطبي-رحمه الله- الذي يمثل منهجًا فريدًا في التجديد والإصلاح المعرفي لعصره بما أضاف من منهجية علمية تجمع بين الكليات والجزئيات في دراسة الظواهر الحياتية ومنها الظواهر الاجتماعية والتي يمثل التعليم مظهرًا رئيسيًا منها.
.