قضية الرزق من القضايا التي تشغل الإنسان، وتأخذ حيزًا كبير من وقته وفكره وجهده بالرغم أن الله تكفل بحفظ الرزق، لكن هذا المفهوم التربوي لأصحاب الفهم السليم الذين أدركوا قول الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (الذاريات: 22- 23)، ولذا أصبح جل همهم وتربيتهم أن يتوددوا للرزاق بالعمل الصالح ويبحثوا عن مهامهم وواجباتهم لأنهم أيقنوا أن حقوقهم مضمونة عند رب كريم.
لقد وضع الله تعالى في القرآن ضوابط الرزق وحدد معالمه، ولم يتركه– سبحانه- لأحد من خلقه، حتى لا يقتر أحد على أحد في الرزق، وفي قصة النملة مع سيدنا سليمان– عليه السلام- المنهج التربوي لكل من شغله هم هذه القضية.
فقد ذكر عبد الرحمن بن عبد السلام الصفوري (ت: 894هـ) في نزهة المجالس ومنتخب النفائس أن سليمان عليه السلام قال لنملة: «كم رزقك في كل سنة؟»، قالت: حبة حنطة. فحبسها في قارورة وجعل عندها حبة حنطة فلما مضت السنة فتح القارورة فوجدها قد أكلت نصف الحبة فسألها عن ذلك فقالت: «كان اتكالي على الله قبل الحبس؛ وبعده كان عليك فخشيت أن تنساني فادخرت النصف إلى العام التالي».
لقد تحددت معالم الرزق في هذا الكون وهو قضية محسومة لخالق هذا الكون لا لأحد سواه سبحانه، ولذا فالنفوس المؤمنة التي لا يشغلها طلب الرزق عن مهامها الرئيسية في هذه الحياة وهي العبادة لله بكل معانيها الشمولية، سواء في الجوانب الحياتية أو في الجهاد والدفاع عن الأرض أو في العبادة أو في التقدم والرقي بالأمة.
حينما تستمع إلى أحاديث الناس فتجد أن جلَّ أسئلتهم عن هذه القضية، يخرج الإنسان من بيته في الصباح الباكر لكي يوفر المال لنفسه وعياله، ودائما يفكر في احتياجات أسرته من مأكل ومشرب ومسكن، ويفكر في أولاده وفي دروسهم وفي ملابسهم وفي أكلهم وشربهم، ويستمر هذا التفكير حتى يكبر أولاده فيفكر في تجهيزهم وفي إعدادهم لمرحلة أخرى هي مرحلة الزواج وما بعدها، حتى تصل الرحلة لنهايتها فلا يجد إلا الموت أمامه.
الكثير من الناس ينظرون إلى الرزق نظرة ضيقة قاصرة فهم يتصورون أنه المال فحسب! قال ابن منظور في لسان العرب الرزق: «هو ما تقوم به حياة كل كائن حي مادي كان أو معنوي».
فالإيمان رزق، وحب النبي ﷺ رزق، وحب الصحابة رزق، والعلم رزق، والخُلقُ رزق، والزوجة الصالحة رزق، والحب في الله رزق، والمال رزق، وما أنت فيه الآن رزق، وصيامك للنهار رزق، وقيامك الليل رزق، إلى غير ذلك؛ والرّزاق هو الله قال تعالى: {وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} (هود:6).
ولقد حذَّرنا النبي ﷺ من أن تتعلق قلوبنا بتحصيل أرزاقنا؛ فننسى الله تعالى والدار الآخرة، ونُشْغَل عن العمل الصالح بالجمع والتحصيل، والعد والتنمية، ولربما شحت نفوسنا عن أداء حق الله– تعالى- في أموالنا، أو امتدت أيدينا إلى ما لا يحل لنا؛ فنكون كالذي يأكل ولا يشبع، ويجمع ولا ينتفع.
ولهذا يجب أن نلقى فى روع أنفسنا ونساءنا وأبنائنا التربية العملية من وراء هذه القضية التي جعلت الناس يتقاتلون من أجل الحصول على رزقهم، ويجب أن نسوق المعاني التربية التى تجعل الإنسان مطمئن أشد الاطمئنان أن رزقه سيصله كاملا غير منقوص لكن مع حسن التوكل والعمل.
وأنه لن يزداد في رزقه لو انكب على العمل بالأيام مبتعدا عن مهمته الأساسية من خلقه ظانا منه أنه سيزيد رزقه بذلك، أو يقنط على ربه أن يعمل ورزقه قليل، في حين غيره رزقه كثير فيزداد سخطه وشطة ويلجأ لاستعجال الرزق بما يغضب الله فيسرق أو يرتشي أو يخون فيضيع دينه ودنياه.
إن غرس شجرة التربية العملية في النفوس مهمة كل إنسان من باب الواجب نحو أخيه المسلم، ويجب أن لا نقيم حلقات صراع على قضية الرزق بل نربى ونتربى على أنه مكفول، ومن أدوات التربية:
1- غرس اليقين في نفوس أبنائنا بأن الله سبحانه هو الرزاق.
لابد أن نربى أنفسنا والمحيطين حولنا باليقين في الله وما في يدي الله خير وأبقى، وأن الأرزاق بيده سبحانه قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات:56- 58).
ويؤكد سبحانه هذه القضية فيقول في حديثه القدسي الذي روى عن رسول الله ﷺ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُــلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» (رواه مسلم عن أبي ذر).
2- سبيل نزول الرزق طاعة الرازق
إن الله سبحانه يرزق كل خلائقه دون استثناء حتى من كفر به لأن رحمته وسعت كل شيء، لكن ديمومة الرزق وبركتها لا تكون إلا للطائعين، لأن الله يمهل للكافر والجاحد حتى إذا أخذه لم يفلته، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (سورة الأعراف:96).
وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل: 112).
3- بذر بذور الشكر لتنبت أشجار الرزق
الشكر هى من النعم التي نربى عليها أنفسنا ومن حولنا حتى نعترف لصاحب النعم بفضله علينا فيزيد الرزق ويبارك لنا فيه، فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7).
فكثير من يغفل عن شكر المنعم، بل يتناسى فضله فيندفع القلب إلى شكر مخلوق مثله أو الخوف من غضبه عليه. ومن ثم فغرس معنى الشكر العملي شيء مهم، فلا نشكر الله باللسان فحسب، بل الشكر بالجوارح وطاعة المنعم، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ:13).
4- ما نقصت صدقة من مال
من أهم الأسس التي نربى عليها مجتمعنا وأطفالنا الصدقة مهما قل المال، لتحل البركة في الرزق وللوقاية من الأمراض، قال سبحانه وتعالى: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التغابن: 16)، ولقد حث رسول الله ﷺ في أحاديثه الشريفة فقال: «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى»، وقال: «داووا مرضاكم بالصدقة»، وقال: «إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم» (رواه أحمد).
ولو غرسنا في نفوسنا هذا المعنى فلن نجد في وسطنا محتاج أو فقير ولعمت البركة حتى تصل الأمة لما وصلت إليه في عهد عمر بن عبد العزيز، فقد جيء إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بأموال الزكاة، فقال: أنفقوها على الفقراء، فقالوا: ما عاد في أمة الإسلام فقراء، قال: فجهزوا بها الجيوش، قالوا: جيوش الإسلام تجوب الدنيا، قال: فزوجوا الشباب، فقالوا: من كان يريد الزواج فقد زوجناه، فقال: اقضوا الديون عن المدينين، فقضوها وبقي مال، فقال: انظروا إلى المسيحيين واليهود من كان عليه دين فسددوا عنه؛ ففعلوا ذلك وبقي مال، فقال: أعطوا أهل العلم، فأعطوهم وبقي مال، فقال: اشتروا بها قمحًا وانثروه على رؤوس الجبال لكي لا يقال جاع طير.
5- حسن التوكل وعدم التواكل
اغرسوا في النفوس حسن التوكل على الله ولا تنشروا الكسل فما ضاعت الأمم إلا بكسل أبنائها وتواكلهم، يقول النبي- ﷺ- لما سئل: أي الكسب أطيب، قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور»، وقال- عليه الصلاة والسلام-: «ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده».
التربية أمر واجب على كل مسلم لأنها عماد الدولة المسلمة التي تخلق أجيال تحيا لدينها وليس لذاتها وتسبح بحمد ربها حتى تتنزل رحمات المولى على كل مسلم.
.