قد يظن كثير من الناس أن معنى الالتزام أو التدين أن يكون المسلم الملتزم عابس الوجه مقطب الجبين، قليلًا ما يضحك أو يمازح أحدًا.
هذه صورة أصبحت راسخة عند الكثيرين، حتى إن كثيرًا من المتدينين تقمصوا تلك الشخصية فعلًا، وظنوا أن تلك الصورة هي كمال التدين، وهم بقدر تقمصهم لتلك الشخصية بقدر بعدهم عن روح الإسلام الصحيح. وإلى هؤلاء المتقمصين لهذه الشخصية الجامدة، وإلى من ظن أن هذه هي الصورة النمطية للملتزمين، نتذكر معهم ما قاله الإمام علي رضى الله عنه وأرضاه: «رَوِّحوا القلوب واطلبوا لها طرف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان»([1]).
وعن مالك بن دينار قال: «كان الرجل ممن كان قبلكم إذا ثقل عليه الحديث قال: إن الأذن مجاجة والقلب حمض فهاتوا من طرف الأخبار»([2]).
ولهذا فالمسرح والفن له رسالة يستطيع أن يغرسها في نفوس الناس، وهذه الموضوعات من أكثر الموضوعات التباسًا في حياتنا الثقافية وهي علاقة الإسلام بالفن، ومن أكثرها غموضًا أيضًا موقف الإسلاميين من الفن وتجاربهم فيه.
والإخوان المسلمين معروف أنهم يهدفون إلى إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي من منظور إسلامي شامل، وهذه نظرتهم للإصلاح لكل مجتمع إسلامي ومن ثم ترجموا هذه الرؤية واقعيا على كل مجريات الأمور فليس عجيبًا أن نجدهم يسبغون جميع الإصلاحات وفق الرؤية الإسلامية، وليس وفق واقع شاذ يريد أن يفرضه سواء العلمانيون أو الشيوعيون.
ولذا نجد كل كتابات هؤلاء النفر لا تخلوا من هجوم على الإخوان لكونهم يريدون أن يصبغوا الواقع بالصبغة الإسلامية، خاصة القضايا التي تهتم بالواقع الحياتي والسياسي وشئون المرأة.
وفي دراسة خاصة (للمنتدى الإسلامي العالمي للتربية) للباحث عبده دسوقي حول (التربية بالمسرح عند الإخوان) يعرض فيها أهمية الفن في توجيه وتثقيف الشعوب، وتكوين الوعي بشتى أنواعه لديهم؛ ويعرض فيها دور الإخوان في هذا المجال من مجالات الفن، واتخاذهم إياه سبيلا مهما مؤثرا من سبل التربية.
رسالة البنا والفن
يعتبر الفن رسالة لها أثر عميق على النفس ولها مغزى في الحياة، حيث يكمن الإبداع، والتميز، والأصالة، والتفرد، وهي الوسيلة للتعبير عن الأفكار، والمشاعر، والأحاسيس.
ولذا لم يقف الإمام من الفن مجرد المنظِّر أو مبدي الرأي الفقهي، أو الداعي نظريَّا إلى تبني الفن، دون الولوج إلى ذلك عمليًّا، بل ربما سبق عنده جانب التطبيق الجانب التنظيري، وليس معنى ذلك أنه لم يكن معنيًّا بذلك بل لم يكن معنيًّا بالوقوف كثيرًا عند الإسهاب في التنظير، ما دام قد اقتنع بشرعية فعل الشيء، وهذا ما حدث معه رحمه الله، فقد جعل للفن مساحةً ليست بالصغيرة في دعوة الإخوان المسلمين، فأنشأ فرقةً مسرحيةً- بل أنشأ فرقًا مسرحيةً- لعل أبرزها وأشهرها فرقة القاهرة، فقد أنشأ الأستاذ البنَّا في معظم شعب الإخوان المسلمين فرقًا مسرحيةً، كشعبة السيدة عائشة، والتي قدمت عددًا من المسرحيات للناس، منها ما هو تاريخي، ومنها ما هو خلقي، ومعظمها كان من اللون الفكاهي النظيف الراقي([3]).
لقد تميز فن الإخوان بالالتزام بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والانفتاح والواقعية ويجمع بين الأصالة والمعاصرة.
وكان من عوامل نجاح التجربة: اعتماده مبدأ إنسانية الفن، وتبنَّى فقه التيسير في قضايا الفن، واعتماده على المختصين في هذا الفن، وتبني قضية الفن جماعيًّا؛ ومن هذه الإشكاليات التي اشتبك العلمانيين فيها مع الإخوان، محاولتهم إظهار الإخوان أنهم أعداء الفن والسينما وأنهم كارهون لهذا الفن الرفيع وهذه القوة الناعمة التي تعتمد عليها الدول([4]).
لقد التزم الإخوان بقواعد دينهم فأحلوا ما أحله الله وحرموا ما حرمه، ولم ينظروا في يوم إلى رضا الناس مقابل سخط الله عز وجل، فظهر الصدام مع من يريد أن ينشر الفاحشة وسط المسلمين متحججًا بأن هؤلاء يقدمون فنًا راقيًا ولا مانع من القبلات والأجساد العارية والمشاهد الساخنة طالما في سياق العمل وتؤدي هدفًا؛ ولم يكن هذا منهج الإخوان.
وليس ذلك فحسب بل كان اعتراض الإخوان على دور السينما نفسها ليس لكونها مبانٍ تعرض أفلامًا، لكنها كانت مجالا للدعاية الصهيونية أو من يملكون المال للترويج لباطلهم، ولهذا كان للإخوان موقف مما يعرض فيها ويجمل صورة الصهيونية، مما دفع الأستاذ البنا أن يرسل برسالة إلى وزير الداخلية ينبهه لهذا الخطر:
«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اتصل بنا أن سينما رويال ومتروبول وديانا تعرض فى دورها نشرة فرنسية تشمل دعاية للصهيونية قبل عرض الأفلام، وذلك منذ أول أمس (الاثنين)، وسيستمر عرضها إلى نهاية الأسبوع»([5]).
هدف الإخوان من السينما والمسرح
لقد حدد الإخوان منهجهم من هذه الوسائل في قول السيدة الفاضلة لبيبة أحمد –مسئولة قسم الأخوات المسلمات- والتي قالت: «السينما من العوامل المؤثرة في تطور الأمة وتكوين عقليتها وتكييف أخلاقها، ولا شك أنها أفادت بعض الشيء في توسيع معارف الجمهور، ولكن مما يؤسف له أن هذه الأفلام التي تذاع في الدنيا وخصوصًا في أقطار الشرق يُتوخى فيها مجاراة ميول الجماهير وأهوائهم أكثر مما يتوخى فيها إفادتهم وتوسيع معارفهم وتقويم أخلاقهم، وقد ثبت في محاضر البوليس والنيابة العمومية وفي حرم القضاء أن كثيرًا من الجرائم المؤسفة التي تقع بين ظهرانينا قد ساعدت أفلام السينما على التفنن فيها، وابتكار أساليب لم تكن لتخطر على بال الذين ارتكبوها لو أنهم لم يتلقوا دروسًا عن الشاشة البيضاء. وكأنما شر السينما محصور في المشاهد المزعجة التي لا تتحملها أعصاب الأطفال، وكأن ذلك أعظم أهمية عندهم من أخلاق العذارى التي تنهدم من أسوارها صخرة بعد صخرة في كل نظرة تقع من عين البنت على مشهد غرامي يهيج كل ذي حس، وهل شاع هذا الانحلال في أخلاق غير المتزوجين، بل وفي رباط الأسرة عند المتزوجين، إلا بشيوع هذه المشاهد».
ثم ختمت المقال بقولها: «نكتب هذا لكل قادر على استنكار الشر من الآباء والأمهات والإخوة والأزواج، متوسلين إليهم بما لأخلاق بناتهم وإخوانهم وزوجاتهم من كرامة عندهم، فكفانا تجاهلًا بالداء العياء الذي يسري في أوردتنا وشرايينا، وحبذا لو يكون لمصر شرف البدء بمقاومة هذا الشر العالمي حتى يوقن كله بأنه شر، وأن من الخير العدول عنه إلى ما ينفع الناس، فتتحول السينما بعد ذلك إلى نعمة تفتخر بها إنسانية العصر الحاضر»([6]).
روشتة علاج
لم يعارض الإخوان السينما في ذاتها لكن كان معارضتهم لها لما تعرضه، ولذا وضعوا مقترحات عملية في برامجهم الإصلاحية، ومنها رفع مذكرة إلى رئيس الوزراء وضعوا أمامه الداء والدواء فقالوا:
وأهم منابع الثقافة العامة فى كل أمة: المدارس والصحف والمطبوعات والسينما والتمثيل والإذاعة اللاسلكية وهذه كلها تحتاج إلى إصلاح. وفى الصحف والمطبوعات والسينما والتمثيل والإذاعة تراقَب كل هذه النواحي مراقبة فعالة منتجة، وينص فى القانون على عقوبات زاجرة رادعة، وأساس ذلك أن يختار المراقبون من الأمناء على دينهم الموثوق بأخلاقهم، بحيث لا تكون الناحية الفنية وحدها هي الأساس فى الاختيار، فكم يحارب الفن باسم الفن، وكم يعدل الفنيون عن الحقائق إلى الأهواء، وما كل فن يذاع، وليس كل ما درس فى أوروبا يطبق فى مصر، فلتختر الحكومة لجان المراقبة على أسس صالحة لتنتج مراقبة صالحة ولتوضع مناهج الإذاعة بدقة وإحكام، فإن «الراديو» بقدر ما أفاد غيرنا بقدر ما جنى على أخلاقنا، وحرام أن يستخدمه هتلر فى إنهاض شعبه وإلهاب شعور الحماسة فيه، ونستخدمه نحن فى الحب والغرام وأدوار العبث والهيام وهذه الأنواع الرخيصة من الأغاني التي تذاع.
ولتصادر الصحف الماجنة الخليعة التي يتشرب روحها أبناؤنا الأطهار وفتياتنا الصغار فتفسد عقولهم وأرواحهم وعواطفهم وشعورهم سواء كانت أجنبية أو مصرية، ولتهتم الحكومة بحركة التأليف والنشر، فتشجع المؤلفين الذين يعالجون النواحي الإصلاحية النافعة، وتعين اللجان لوضع البحوث والرسالات فى هذه النواحي، ولتهتم كذلك بتهذيب الأغاني والأناشيد، فأثرها فى التكوين الروحي للشعب جد خطير، بل لعلها أقرب الوسائل فى هذا الباب.. بذلك وأمثاله تصلح منابع الثقافة، ونقدم للشعب غذاء شهيا صالحا ينمو به أفضل النماء وتزكو عليه العواطف والعقول والأرواح.
وهذه السينمات ودور التمثيل -وهى معدودة عند الناس من وسائل التثقيف- لا يوزن ما فيها بميزان الأحكام الإسلامية، بل يعرض على مسارحها ما يحمر له وجه الفضيلة ويقضي على ما بقي في نفوس هذا الشعب المسلم من دين([7]).
ويقول الأستاذ البنا:
«إن العلاج تربية الفتيان والفتيات تربية إسلامية عفيفة طاهرة، ومصادرة هذا الداء الوبيل من الصحف والمجلات والروايات والكتابات والمسارح والسينمات والإذاعات الهازلة الضئيلة المثيرة، التي تستغل فى الناس أخس مشاعرهم وأحط غرائزهم. ومقاومة هذا التيار من التبرج والاختلاط ومفارقة البيوت والخدور للتسكع فى الحدائق والمصايف والمتنزهات وعلى الشواطئ وفى البلاجات. وتحريم هذه الوسائل الخسيسة التي تيسر على الشباب مقاصدهم بغير تبعة ولا رقابة ولا حساب. ثم تشجيع الزواج وتيسير سبيله على راغبيه وإقناعهم بالغاية الصحيحة منه»([8]).
ويشدد على ذلك في رسالة نحو النور فيقول:
- مراقبة دور التمثيل وأفلام السينما والتشديد فى اختيار الروايات والأشرطة.
- تهذيب الأغاني واختيارها ومراقبتها والتشديد فى ذلك.
- حسن اختيار ما يذاع أو يعرض على الأمة من برامج ومحاضرات وأغانٍ وموضوعات، واستخدام الإذاعة والتلفاز فى تربية وطنية خلقية فاضلة.
رؤية تربوية إصلاحية
ارتكزت دعوة الإخوان على منهج تربوي إصلاحي، مع استخدام كل الوسائل الممكنة لتبليغ دعوة الله سبحانه وللنهوض بالوطن من غفوته، ولهذا كان المسرح والفن سبيل، يقول الأستاذ حسن البنا:
«لقد رسمنا للحكومات المصرية المتعاقبة كثيرا من مناهج الإصلاح، وتقدمنا لكثير منها بمذكرات ضافية فى كثير من الشئون التي تمسّ صميم الحياة المصرية، لقد لفتنا نظرها إلى:
أ– وجوب العناية بإصلاح الأداة الحكومية نفسها، بـ : اختيار الرجال، وتركيز الأعمال، وتبسيط الإجراءات، ومراعاة الكفايات، والقضاء على الاستثناءات.
ب – وإلى إصلاح منابع الثقافة بإعادة النظر فى: سياسة التعليم، ومراقبة الصحف والكتب والسينما والمسارح والإذاعة، واستدراك نواحي النقص فيها وتوجيهها الوجهة الصالحة.
جـ – وإصلاح القانون واستمداده من شرائع الإسلام»([9]).
كما أشار الإخوان إلى الفساد الذي تبثه الإذاعة، فجاء في مقال (الإذاعة اللاسلكية الغث والسمين في نصف أسبوع): «للإذاعة اللاسلكية محاسن لا يسعنا نكرانها وحرمان الناس من الاستمتاع بها، ولها مساوئ نحذر الناس منها، أقل ما فيها أنها تثير عواطف البليد وتدفعه حتمًا إلى ارتكاب الفواحش»([10]).
دعا البنا لإنشاء فِرَق في معظم شعب الإخوان، وتمرين طلاب الثانوية والجامعة على التمثيل المسرحي بل كان البنا يحضر بنفسه البروفات والإعداد للمسرحيات، ويولي ذلك اهتمامًا كبيرًا، وكان العمل الفني عند البنا أشبه ما يكون بالعمل المؤسسي والمختص، لا من باب الهواية، أو على هامش الحياة، وهذا هو الفارق بين مسرح البنا، ومسرح الإسلاميين بعد البنا([11]).
نماذج من مسرح الإخوان
لقد اهتم الإخوان بالقضايا الإسلامية، وقضية مصر والقضية الفلسطينية، فجسدوها واقعا على المسرح:
أولا: القضايا الإسلامية:
لقد وجد الإخوان أن القصص والروايات الغربية غزت المجتمع المصري، فعمد عبد الرحمن البنا –شقيق حسن البنا- من ولوج معترك المسرح وإخراج الكنوز العربية في هيئة مسرحيات مستساغة للجمهور فكانت باكورة أعمال قصة (جميل وبثينة)، حتى أن فشوقي قاسم صاحب رسالة دكتوراة (الإسلام والمسرح المصري) يقرر بوضوح: أن (جميل وبثينة) قد صارت موضع المقارنة مع درة أمير الشعراء (مجنون ليلى) ([12]).
كما عرضوا العديد من المسرحيات مثل (عامان في الشِّعب)، وتدور حول اضطهاد المسلمين الأوائل في شِعب أبي طالب، ومسرحية المعز لدين الله الفاطمي، وصورة دخول المعز لمصر بعد أن فتحها جوهر الصقلي. ومسرحية بعنوان الهجرة، والتي قال عنها عبد الرحمن البنا: «ظلّ المسرح الإسلامي على مدى 14 عامًا يزهو ويزدهر كلما ظهرت مسرحية من المسرحيات، وأذكر أن مسرحية الهجرة التي عرضت على مسرح الأزبكية في تشرين الثاني/نوفمبر 1947م، وأذاعتها محطة الإذاعة المصرية، حتى توافد علينا كثير من رجال السينما للتفاوض على إخراجها سينمائيًا، وفضلًا عن تدعيم رسالة المسرح الإسلامي، فقد دعمت الفرقة نفسها وتخرج معظم أفرادها من معهد التمثيل العالي».
ومما يحسب للمسرح الإخواني أنه خاض معركة ضارية لنصرة اللغة العربية الفصحى وفرضها على خشبة المسرح، ولم يتسامح البنا أبدًا مع العامية المصرية في ظل الدعوة إلى استخدام العامية وإحلالها مكان العربية، بل وتعدى الأمر إلى الدعوة إلى هجر الحرف العربي والكتابة باللاتينية، وتبنى هذه الدعوة المغرضة مفكرون وكتاب كثر، منهم: لويس عوض، وسلامة موسى، مما فرض على الفنان المسلم ضرورة الدفاع عن العربية الفصحى([13]).
ولم يجد البنا حرجًا من ظهور الممثلات على خشبة المسرح؛ ساعده على ذلك البيئة العربية التي استمد منها معظم أعماله والتي فرض جوها على الممثلات الظهور برداء محتشم يتلاءم مع جو النص، ومن طرائف ذلك ما رواه عبد الرحمن البنا في إحدى مقالاته أنه وجد حرجًا من الفنانة عزيزة أمير، حيث كانت ترتدي فستانًا بكم طويل لكنه واسع لدرجة تجعل ذراعيها تظهران، وحين لفت انتباهها لم تستنكف أن تربط هذا الكم بخيط لتضيقه نزولاً على رغبة المؤلف.
القضية الفلسطينية
كانت مسرحية (صلاح الدين) هي باكورة أعمال البنا التي لفتت الأنظار لقضية فلسطين؛ إذ رأى في الفن سلاحه يقاتل إلى جوار المجاهدين في فلسطين.. فأهدى هذا العمل: «إلى شهداء فلسطين الأبرار، وأبطال الجهاد المقدس لإنقاذ الوطن الإسلامي وتحرير الأرض.
إلى المهاجرين والمشردين من إخوان العقيدة والإسلام أهل فلسطين المجاهدة الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.. إليكم هذه المسرحية التي أعدت لتعمل عملها مع قصف المدافع وأزيز الطائرات؛ لإدراك الغاية ورفع الراية وإصابة الأهداف».
بل إن ثلاثة من أعضاء الفرقة اعتذروا عن المشاركة في العمل؛ لذهابهم إلى ميدان القتال، وهو ما نص عليه إعلان المسرحية حين كتب في هامشه: «من أعضاء الفريق في ميدان الحرب الآن: إبراهيم الشامي. فطين عبد الحميد. إبراهيم القرش». والأول صار واحدًا من أهم ممثلي الدراما في المسرح والتلفزيون المصري حتى وفاته، ومن ضمن الفنانين الذين سافروا كان إبراهيم الشامي، كما تقول ابنته([14]).
وكتب عنها الناقد الأستاذ صلاح ذهني يقول: «قدمت جمعية الإخوان المسلمين مسرحيةً مِن وضع أحد أعضائها الأستاذ عبد الرحمن البنا على مسرح الأوبرا، وليس الجديد أن تقدِّم إحدى فرق الهواة مسرحية، ولا أن يؤلف أحد الهواة مسرحيةً، ولكنَّ الجديد أن المسرحية تتناول موضوعًا مطروقًا جدًّا، فهي عن صلاح الدين الأيوبي، وليس هناك مَن لم يرَ رواية صلاح الدين ومملكة أورشليم، والتي مثلها كل مسرح وكل فرقة منذ عشرات الأعوام.. هذا هو الجديد، ولقد جلست أشاهد المسرحية وأنا حذر يقظ، فحياة صلاح الدين وفتحُه لفلسطين واحدة وحتى ما يحيط بقصة هذه الحياة من أساطير أصبح بالتكرار جزءًا من هذه الحياة، ومن أصعب الأمور على مؤلف أن يتناول موضوعًا مطروقًا.. إنه إذ ذاك يسير على صراط دقيق تحته هاويتان: التقليد من ناحية والخروج على الواقع من ناحية أخرى.
لكن عبد الرحمن البنا نجا من الهاويتين معًا وابتعد عن التقليد، فحين انصبَّتْ رواياتٌ أخرى على صلاح الدين وحده وأحداثه مع الفرنجة تناولت رواية البنا عصر صلاح الدين في مصر والنزاع بين السنة والشيعة وجوّ المؤامرات الذي كان يعمل وسطه.
إنك تحس أن المؤلف هنا حرص على تاريخ العصر أكثر مما حرص على تاريخ البطل، وتحسُّ أيضًا أنه حرص على الواقع أكثر مما حرص على مواقف البطولة الجوفاء حتى الفصل الأخير حين يلتقي قلب الأسد بصلاح الدين.. إنك ترى الصورة العربية للملك المسلم والصورة الإفرنجية للملك الفارس دون إغراق في البطولة أو الإسراف في الشجاعة، كم كنت أتمنى لو مُثِّلت هذه الرواية أكثر من مرة أو أن الذين مثَّلوها كانوا غير الهواة- وليس ذلك طعنًا- إنها روايةٌ تلائم الموقف والظرف، وفيها مع ذلك شيءٌ جديد» ([15]).
الأثر التربوي لجهود الإخوان
ظل الإخوان يطالبون بحماية المجتمع مما يعرض في السينما حتى أتت جهودهم بثمارها فنرى عبد الفتاح الطويل وزير الصحة يصدر قانونًا بمنع الأطفال الذين لم يبلغوا سن الرشد من غشيان دور السينما، حتى لا تتأثر أدمغتهم بمفاسد العرض، وقد رحب الإخوان بذلك في جريدتهم، وذكرت أن تلك يد بيضاء يسجلها الإخوان المسلمون للحكومة([16]).
1- لكن الإخوان تركوا أثرا تربويا على كثير من الفنانين وجموع الشعب، ولنسوق بعض النماذج التي أثرت فيهم تربية الإخوان، خاصة لما لمسوه في فن الإخوان من كونه ملتزم ومنفتح وواقعي ويجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن هؤلاء الذين تأثروا بفن الإخوان الفنان أنور وجدي، حيث ذكرها الدكتور عساف:
فى يوم من أيام صيف عام 1945.. وكان الجو صحوًا، ونسمة خفيفة تداعب الشجر فى ميدان الحلمية الجديدة.. ذهبت إلى الإمام- وكان فى ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو بأعمال لها صفة الاستعجال.. وما إن جلست حتى قال لي: قم بنا نذهب إلى البنك العربي لنفتح حسابًا للجماعة هناك.. ولم يكن للإخوان أي حساب فى أي بنك حتى ذلك الوقت! وكان البنك العربي هذا بنكًا حديث النشأة، وكان مركزه الرئيسي فى مدينة القدس يرأسه وصاحب رأسماله عبد المجيد شومان أو عبد الحميد شومان، لا أدرى بالضبط، فهو فلسطيني الجنسية.. وكان العرب والمسلمون متحمسين للتعامل مع هذا البنك الجديد فى وقت كانت فيه البنوك كلها أجنبية حتى البنوك المصرية كانت فى ظاهرها مصرية، أجنبية فى حقيقتها.. بالإضافة إلى بنوك ملكية فردية، أصحابها من اليهود.. فيما عدا بنك مصر الذي كان الإنجليز يحاربونه بشتى الطرق.. ويعملون على إغلاقه بأي شكل وبأي طريقة، ولكن الله غالب على أمره.
ركبنا الترام - الإمام وأنا -! من شارع محمد علي من أمام مسجد قيسون متوجهين إلى العتبة الخضراء ومن هناك سرنا على الأقدام إلى ميدان الأوبرا ثم إلى شارع قصر العيني، حيث يوجد البنك هناك!
توجهنا إلى مكتب رئيس البنك السيد شومان رأسًا، وكان يتبع سياسة الباب المفتوح لكل العملاء.. يستطيع أي عميل أن يدخل إليه بلا أي استئذان.. دخلنا وألقينا السلام من على بعد وجلسنا- الإمام وأنا- على أريكة مواجهة للمكتب.. وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا، كان يتحدث مع شومان بك حديثًا خاصًا هامسًا.. انتظرنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة.. ولكن فاجأنا شومان بك بقوله بصوت عال حينما لمحنا: أهلًا أهلًا.. أهلًا وسهلًا.. مما جعل الجالس أمامه ينظر إلينا، فإذا به ينتفض هو الآخر، ويهتف قائلًا حسن بك! حسن بك! أهلًا وسهلًا حسن بك!
ثم تقدم نحونا مصافحًا الإمام ثم إياي.. ثم جلس على كرسي مواجه للإمام، وقال لنا:
«أنا أنور وجدي المشخصاتي- يعنى الممثل- طبعًا فأنتم تنظرون إلينا ككفرة، نرتكب كل يوم المعاصي، فى حين أنا والله أقرأ القرآن، وأصلى، كلما كان ذلك مستطاعًا!»
كانت مفاجأة لي.. فلم يكن أحد ينادى الإمام أو يشير إليه فى كلامنا إلا بقولنا فضيلة الأستاذ أو السيد الإمام.. أما حكاية حسن بك كانت نشازًا غريبًا عليه وعلى مسامعه هو أيضًا.
رد عليه الإمام بقوله:
«يا أخ أنور، أنتم لستم كفرة ولا عصاة بحكم أعمالكم. فالتمثيل ليس حرامًا فى حد ذاته.. ولكنه حرام إذا كان موضوعه حرامًا.. وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق.. بل أنتم تكونون بذلك أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من وعاظ المساجد.
ثم قال الإمام:
إني أرحب بك.. وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به فى نشر الفضيلة والدعوة إلى الله – تعالى»([17]).
2- ولنا في الفنان حسين صدقي نموذج آخر:
وتقول السيدة سميرة المغربي– زوجة حسين صدقي- عن علاقة زوجها بالإخوان: حسين صدقي كان يؤدى الفروض، وكنت ألح عليه بعد التزامي أن يترك العمل فى السينما، وذات مرة أثناء زيارتنا لسيد قطب فى المستشفى قبيل إعدامه، ذكر زوجي له ما أطلب منه، فكان رده عليه: «إن الحركة الإسلامية محتاجة لفن إسلامي، وإنني أكتب عشرات المقالات وأخطب عشرات الخطب، وبفيلم واحد تستطيع أنت أن تقضى على ما فعلته أنا أو تقويه، أنصحك أن تستمر لكن بأفلام هادفة»([18]).
وهناك من الفنانين الكثيرين الذين تأثروا بمنهج وفكر الإخوان فقدموا نماذج طيبة في أفلامهم– أو اعتبارا من فترة عملهم مع الإخوان- ومنهم جورج أبيض– أحمد علام– عباس فارس– حسن البارودي– فتوح نشاطي– محمود المليجي- عبد المنعم مدبولي- وإبراهيم الشامي- سراج منير- ومن العناصر النسائية: فاطمة رشدي، وعزيزة أمير.
- تعددت تأثيرات مسرح الإخوان المسلمين على المناخ المسرحي العربي خاصة في مصر، ومن ذلك اهتمام القوى الإسلامية المختلفة بالمسرح، فقد أنشأت جمعية الشبان المسلمين فريقًا مسرحيًّا بقيادة الفنان (محمد عثمان) ظل منبرًا للمسرحيات الإسلامية إلى أن شعر بخطورته ضباط ثورة يوليو لما يبثه من قيم تخالف النهج الاشتراكي الذي أرادوه لمصر فقاموا على الفور بدمج الفريق فيما عرف بهيئة التحرير، وما إن وافق عثمان حتى جمدوا أنشطة الفريق.
- ولم يقتصر الأمر على الإخوان بل امتد إلى الأزهر الشريف، فتألفت عام 1944 (رابطة أبناء الأزهر الأدبية) من طلاب معهد القاهرة الأزهري الثانوي.. وقدمت عددًا من الأعمال أشهرها مسرحية (إسلام هرقل) التي استقت أحداثها من صحيح البخاري يناير 1947 واستعانوا بفرقة الإخوان المسلمين، حيث ندب لهم (البنا) د. إبراهيم سكر الأستاذ بآداب عين شمس بعد ذلك، والطريف أن الفتى الأول في هذه الأعمال كان الطالب صلاح أبو إسماعيل الذي أصبح بعد ذلك الشيخ البارز وعضو البرلمان عن التيار الإسلامي([19]).
- كما حاول شباب الإخوان ولوج السينما بأشياء هادفة فقاموا بعمل أفلام منها فيلم (وحدة مكافحة الزندقة) فقد قرر شباب الإخوان في مصر أن يطرحوا تجربتهم الخاصة – التي يعبرون من خلالها عن رؤيتهم للفن الراقي – ويقوموا بدخول عالم الفن السابع، حيث عنونوا هذه التجربة بـ(سينما الإخوان.. للفن الراقي عنوان)، في محاولة لخلق نوع جديد من الفن الهادف، الذي يعبر عن هموم المواطن المصري بطريقة غير مبتذلة.
قال ياسر السعيد، طالب في كلية الإعلام، وأحد فريق عمل (سينما الإخوان)، إن الفن عند الإخوان المسلمين ليس جديدًا، بل هو موجود منذ إنشائها، وتهتم الجماعة به لخلق نوع من الفن الهادف البديل للفن الذي يسعى لإفساد العادات والتقاليد، لذلك قررنا نحن– عددٌ من شباب الإخوان– خوض التجربة، ليتعرف العالم عن قرب أن الإخوان دعوة لا يشوبها التشدد أو التسيب والتفريط، بل هي جماعة لا تمانع في الدعوة لفن (هادف)، وذلك عن طريق جهد فردي غير تابع للإخوان رسميًا.
ومن المعايير التي وضعها فريق «سينما الإخوان» للمشاركة فى إنتاج عدة أفلام للعمل على تحقيق نهضة البلاد والحفاظ على المبادئ والأخلاق والعادات والتقاليد للشعب المصري، بالإضافة إلى ضرورة وجود موهبة فنية([20]).
المغزي التربوي للإخوان من الاهتمام بالفن والمسرح
- تهذيب الذوق و صقله لأن الفن هو الجمال و الإقبال عليه يسمو بالإنسان.
- التعريف بقضايا الأمة وطريقة معالجتها خاصة القضية المصرية والقضية الفلسطينية.
- إظهار وتجسيد التراث الإسلامي ليتعرف عليه الناس في ظل محاولات طمس هذا التراث.
- إصلاح المجتمع بوسائل محببة وجائزة شرعا، ولإظهار المعاني الجمالية في الأخلاق الإسلامية عن طريق الفن.
- يلعب الفن دورا مهما في تحقيق التوازن النفسي عند الإنسان ذلك أنه يخفف عنه عبء الحياة اليومية وعلى ضفافه تتحطم أمواج السخط والغضب فتلين النفس و تسترد هدوءها.
- هدف الإخوان التقريب بين الشعوب من حيث إعلاء المعرفة بما يحدث للشعوب عن طريق تصويرها بالفن.
مراجع:
([1]) كتاب أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي، المكتب التجاري – بيروت، مجلد 1
([2]) كتاب أخبار الحمقى والمغفلين، مرجع سابق
([3]) عصام تليمة نقلا عن حوار تلفزيوني لصلاح عبد المتعال
([4]) عصام تليمة، السينما والمسرح في فكر الإمام البنا، 25 فبراير 2007م
([5]) مجلة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (239)، السنة الأولى، 21ربيع أول 1366ﻫ / 12فبراير 1947م، ص(2).
([6]) مجلة الفتح – العدد 557 – صـ10، 11 – 29ربيع الآخر 1356هـ.
([7]) مجلة النذير، العدد (3)، السنة الأولى، الاثنين 14 ربيع الثانى 1357ﻫ- 13 يونيو 1938م، ص(3-10). كتب الإمام البنا هذه الرسالة أثناء تولى محمد محمود باشا "وزارته الثالثة".
([8]) مجلة الإخوان المسلمين، العدد (35)، السنة الثانية، 27 جماد أول1363/ 20 مايو1944، ص(3، 4-18).
([9]) مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة المؤتمر السادس.
([10]) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الخامسة – العدد 7 – صـ12 – 23ربيع الثاني 1356هـ / 2يونيو 1937م.
([11]) عصام تليمة نقلا عن لقاء على الإنترنت مع الدكتور صلاح عبد المتعال، ومقابلة مع الأستاذ فهمي هويدي في إستانبول بتاريخ 10 يوليو سنة 2006م.
([12]) أحمد زين: مقال مسرح الإخوان المسلمين.. البداية رومانسية، 2011م
([13]) إحسان سيد: تجارب عريقة ورائدة للمسرح الإخواني، مجلة فلسطين المسلمة.
([14]) حوار مع أسماء إبراهيم الشامي، موقع أخبارك، أغسطس 2017م
([15]) صلاح ذهني: مجلة آخر ساعة، والمصري اليوم لايت، 12,فبراير 2015م
([16]) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الخامسة – العدد 16 – 5رجب 1356هـ / 10سبتمبر 1937م.
([17]) محمود عساف، مع الإمام الشهيد حسن البنا، صـ 39- 41
([18]) عبده مصطفى دسوقي، عمالقة في ومن النسيان، منارات لنشر والتوزيع، 2008م الجزء الأول.
([19]) أحمد زين: مرجع سابق
([20])عين نيوز- رصد، الاثنين ٢/ ٧/ ٢٠١٢م.
.