Business

تحويل القبلة وعالمية المشروع الإسلامي

في وقت تعيش فيه الأمة الإسلامية رحلة من الشتات والتيه في عالم تكالب عليها من كل حدب وصوب، وفي وقت ترسم في الطرقات للعلو الأخير لليهود في الأرض، تحل علينا ذكرى تحويل القبلة والتي يجمعها مع الإسراء والمعراج نقطة البداية ونقطة النهاية، حيث المسجد الواحد والمبعث الواحد.

كانت الانطلاقة في رحلة الإسراء إلى المسجد الأقصى المبارك، والتي كانت إليه تتجه قلوب وأنظار المسلمين في صلواتهم، قبل أن تتحول إلى نقطة بداية رحلة الإسراء وهو المسجد الحرام والذي جعله الله قبلة موحدة للمسلمين، توحد عقيديتهم، وشعائرهم، وشرائعهم، وقلوبهم، وكلمتهم، وصوتهم، قبل أن تغتاله سهام الفرقة حتى بين بعض زواره لعلة السياسة.

لقد جمعت القبلتين وحدة واحدة في البناء– على أرجح الأقوال– وهو نبي الله إبراهيم– عليه السلام– والذي ولد في العراق بعد الطوفان العظيم، وبعثه الله إليهم إلا أنهم كذبوه فأمره الله بالهجرة إلى أرض كنعان في فلسطين، حيث ترك زوجته هاجر وابنه اسماعيل في أرض فلاة جعلها الله مباركة بعد ذلك بأن أمره بوضع حجر البيت الحرام ورفع بنيانه مع ابنه اسماعيل، وعاد إلى فلسطين حيث وهبه الله ابنه اسحاق الذي يقال إنه رفع قواعد المسجد الأقصى بعد الحرام بأربعين سنة، فجمع الله– سبحانه- وحده المسلمين على هاتين المسجدين حيث جعلهما قبلتا المسلمين، وسبيل وحدتهم.

إن لحادثة تحويل القبلة أبعادًا كثيرة؛ منها: السياسي، ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها التاريخي؛ فبُعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبُعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث النبوي لإبراهيم عليه السلام، وبُعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة، وإنهاء الوضع الوثني في المسجد الحرام؛ حيث أصبح مركز التوحيد بعد أن كان مركزًا لعبادة الأصنام، وبُعده الديني أنها ربطت القلب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان.

إن الصفات التي جمعت الجيل الأول والذي عايش تحويل القبلة والتي اختلفت عن الجيل الذي حمل جينات النفاق لهذا الحدث، هي نفس الصفات التي تعيشها الأمة اليوم مع أبنائها.

فقد ميز تحويل القبلة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذي تعاملوا مع الحدث بريبة، حيث استجاب المؤمنون للنداء فورًا وهم حتى في صلاتهم فما أن سمعوا المنادى أن الله أمر نبيه ﷺ بتحويل من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام حتى اتجهوا بقلوبهم قبل أجسادهم مباشرة إلى القبلة الجديدة دون انتظار الاستعلام من النبي أو لماذا حدث، لكنه صدق الإيمان الذي تملك القلوب في المبلغ والمبلغ له، وهو بخلاف من كذب هذه الحدث وتملكه الغضب من التحويل مثلما يحدث اليوم مع أقوام يلهثون خلف التطبيع من الكيان المغتصب على حساب أولى القبلتين وثالث الحرمين، ويتاجرون بأرواح المرابطين حول الأقصى من أجل عروشهم وراحة بني صهيون، بل وضعوا المسجد الحرام في صراعات سياسية وأضاعوا القبلتين ومن خلفهم قلوب المساكين الذين يتطلعون كل عام لبيت الله الحرام.

كان المناخ في المدينة مهيّأً لإجراء الاختبار الكاشف لأوراق كل فريق، وجاء الأمر بتحويل القبلة ليعلن بدء الاختبار فعليًّا؛ قال تعالى: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. وبدأ كل فريق في كشف أوراقه.. كانت البداية من المؤمنين المخلصين الذين صبروا مع رسول الله ﷺ، وثبتوا أمام كل ما مضى من محن الإيذاء، والتكذيب والتعذيب، والتضحية بالجاه والمال والرياسة، بل والتضحية بالأهل والوطن.

وهو بخلاف موقف المنافقين الذين تملقهم القلق من مصير من مات وهو يصلي نحو قبلة الأقصى، وما مصير صلاتهم السابقة نحو الأقصى حيث اعتبروا الأمر وكأنهم من هوى رسول الله، وليس أمرًا ربانيًا لرسوله بالصلاة نحو الأقصى، وهذه الفئة تظهر دائمًا في المجتمع المسلم وقت المحن، إذ تزيغ الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر؛ فيبدأ هؤلاء في التشكُّك والظن في الثوابت.

وهو مختلف وسيظل مختلف عن المنهجية التي كان ويكون وسيكون يفكر بها اليهود من الصلاة نحو المسجد الأقصى ثم التحول عنها إلى قبلة خالصة بالمؤمنين.

يعتبر تحويل القبلة حدثًا غاية في الأهمية، عكس ما يعتقد الكثيرون، وما كان القرآن الكريم ليهتم به وبذلك الشكل شرحًا وتوضيحًا في تسع آيات بينات من سورة البقرة: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}، إلى قوله سبحانه {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة: 141- 149)؛ حيث أبرز الحق سبحانه دواعي التحويل التي تضاف إلى دلالات ترتبط بسياق الحدث، وأخرى بسلوك المسلمين أفرادًا وجماعة، إلى قيام الساعة.

لقد كان تحويل القبلة درسًا عمليًا وحدثًا كاشفًا فاضحًا للجميع، حيث تجلى فيه كما يذكر المصطفى السنكي:

  1. ترضية ومواساة رسول الله ﷺ.
  2. التأكيد على مرحلة جديدة للمشروع الإسلامي تحريرًا للكعبة من الأصنام وقلب ميزان القوة لصالح المسلمين، والذي جاءت غزوة بدر بعد تحويل القبلة بأقل من شهر لتأكيده.
  3. تمحيص الصف الإسلامي وقياس مدى قدرته على التدافع وقابليته للبذل والتضحية بعد سنوات التربية وبناء العامل الذاتي، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (البقرة: 142).
  4. التمايز العقدي دفعًا لأي التباس قد يقع فيه عوام المسلمين.
  5. استقبال القبلة رمز لتوحيد الوجهة حسًا ومعنًى، وانجماع القلوب على غاية واحدة، حماية للأمة من انفـراط الأمر، واختلاف الرأي، وانتشـار الفرقة بين المسلمين.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم