ترتبط منظومة الفكر الإسلامي ارتباطًا عميقًا بحياة الإنسان في وجوهها المتشعبة كافة، فلا تترك مجالًا لحركة أو سلوك أو تصور إلا وحكمته بالمنظور الإسلامي الذي تصنعه المفاهيم القرآنية وتوضحه السنة النبوية، ولقد جاءت (رسائل النور) لبديع الزمان سعيد النورسي لتؤكد على توغل هذه المفاهيم القرآنية في شتى وجوه الحياة الإنسانية.
ولا شك أن النورسي، كان نتاجًا لبيئة إسلامية صالحة أهلته ليقوم بدور الداعية الإسلامي الناضج الذي يحفظ شعلة الإسلام مضيئة ومستمرة في مرحلة من أصعب فترات الأمة الإسلامية في تركيا. لقد أثرت هذه المرحلة على الوجود الإسلامي، وعصفت بالمسلمين عصفًا شديدًا، فهيأ الله النورسي ليرفع الشعلة ويحافظ عليها من خلال سلوكه ودعوته معًا.
وفى دراسة للدكتور حلمى القاعود بعنوان: (القيم الخلقية فى رسائل النور) -2003-، يبين كيف كان اهتمام النورسي بفلسفة الأخلاق، وتأصيل القيم الخلقية داخل نفوس أبناء الأمة الإسلامية بوصفها مصدر السعادة الدنيوية والأخروية، ومنطلق العمل من أجل رضا الخالق جل وعلا، وعزّة المسلمين في واقعهم الإنساني.
التعريف بالنورسي
لقد ولد النورسي عام 1293هـ = 1873م، بقرية نورس، قضاء خيزان بولاية بتليس شرق الأناضول، وزمن الميلاد هذا كان يؤذن بأحداث جسام انتهت في شباب النورسي ونضجه إلى إلغاء الخلافة الإسلامية، وتتريك المسلمين، بمعنى نقلهم إلى العلمانية، ومحاولة استئصال الإسلام من النفوس والقلوب.
جاء سعيد إلى الدنيا، لأب صوفي وَرِع يُدعى (ميرزا) كان يُضرب به المثل في الورع حيث لم يذق حرامًا، ولم يطعم أولاده من غير الحلال، حتى إنه إذا عاد بمواشيه من المرعى شد أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين، ويُروى أن أمه، وكانت تدعى (نورية) قالت: إنها ما أرضعت أطفالها إلا وهي على طهر ووضوء.
سعيد إذًا، ابن بيئة أسرية صالحة ونقية، ثم إنه حفظ القرآن الكريم والحديث الشريف وحصل العلوم الشرعية، وكان يملك ذكاء خارقًا، وقوة خارقة للحفظ، وتعرف على أعلام عصره المؤثرين ومن بينهم شاعر تركيا الشهير (محمد عاكف) وكانت قصة حياته مفعمة بالأحداث والانفعالات فجمعت العلم العمل والدعوة والأسر والمحاكمات والمواجهات والنفي، على النحو الذي فصله في سيرته الذاتية، وتناولته الدراسات التى اهتمت بحياته وشخصه، ولكنها جميعًا تصب في دائرة الداعية صاحب الرؤية الثاقبة والنظرة العميقة التى تتجاوز السطح إلى العمق، والقشر إلى اللب.
ولعلنا نستشف هذا من قوله: «كنت قد حدثت خيالي في عهد صباي: أي الأمرين تفضل؟ قضاء عمر سعيد مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك إلى العدم، أو وجودًا باقيًا مع حياة اعتيادية ذات مشقة؟ فرأيته يرغب في الثانية ويتأفف من الأولى، قائلًا: إننى لا أريد العدم بل البقاء».
إن فهم موقف النورسي من فلسفة الأخلاق في ضوء القرآن الكريم لا يتم إلا بفهم سلوكه الشخصى تجاه الأحداث الصعبة والمواقف الحساسة، فمن خلالها، يمكن للباحث أن يربط بين الفكر والسلوك لهذه الشخصية الفريدة في تاريخ الدعوة الإسلامية من ناحية، ووعيه بطبيعة القيم الخلقية للإسلام من ناحية أخرى، وسوف نكتفي هنا بمثالين:
الأول: تمسكه بإسلام المؤمن وعزته، عند أسره بعد دخول الروس مدينة (بتليس) فقد جاء خال القيصر وهو القائد العام للجبهة ليزور الأسرى في (قوصتورمة). شرقي روسيا، وقام الأسرى جميعًا تحية له إلا سعيد النورسي. لاحظ ذلك القائد العام للجبهة فرجع مرة ثانية أمامه فلم يُعِره اهتمامًا، فغضب القائد وقال له:
- لا، إننى أعرفك، إنك خال القيصر والقائد العام.
- لا، إننى لم أحتقر أحدًا، ولكننى فعلت ما تأمرني به عقيدتي ومقدساتي.
- إننى عالم مسلم وفي قلبي إيمان، والمؤمن أفضل من عديم الإيمان، إن قيامي لك ابتذال لعقيدتي ومقدساتي ولذا لم أقم لك.
- إذًا، فهذا يعنى أنني عديم الإيمان، وبذلك تكون احتقرتني واحتقرت جيشى واحتقرت أمتي، وكذلك احتقرت القيصر؛ لذا يجب تشكيل محكمة عسكرية لاستجوابك.
تشكلت المحكمة، ورغب كثير من الأسرى الأتراك والنمساويين والألمان حمل سعيد على الاعتذار إلى القائد فرفض قائلًا:
- إننى أرغب في الرحيل إلى الآخرة والوصول إلى حضرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا في حاجة إلى جواز سفر للذهاب إلى الآخرة، ولا أستطيع أن أفعل ما يتعارض مع إيماني.
ساد الحزن معسكر الأسرى، وصدر الحكم بإعدام سعيد! وفي يوم التنفيذ حضر الجنود الروس بقيادة ضابط لأخذه إلى ساحة الإعدام، فطلب سعيد أن يمهلوه خمس عشرة دقيقة ليتوضأ ويصلي. وحينذاك يخاطبه القائد العام بقوله:
- كنت أعتقد أنك بفعلك هذا تقصد إهانتي والتحقير من شأني، ولكنني الآن أفهم أنك بتصرفك هذا كنت تؤدي ما تأمرك به عقيدتك. لذا فقد ألغيت قرار المحكمة، وأقدرك لتقواك وورعك، وأرجو قبول اعتذاري عما بدر منا من مضايقات لك.
ولا شك أن عزة المؤمن تتجلى خير ما تكون في هذا الموقف الذي تظهر فيه قوة الإيمان ورباطة الجأش والثقة المطلقة في الله.
الموقف الآخر.. موقفه مع (أتاتورك) بعد انتصار الأتراك، ودعوة قادة الاستقلال لسعيد كي ينضم إليهم، فقد زارهم في أنقرة، ولاحظ أن معظم النواب لا يؤدون الصلاة، كما أن سلوك مصطفى كمال وتصرفاته المعادية للإسلام أحزنته كثيرًا. وكان أن وضع النورسي بيانًا في 19/ 1 / 1923 ضمنه نقاطًا عديدة، كانت نتيجته بعد أن ألقاه الجنرال (كاظم قره بكر)، القائد الأول لحركة الاستقلال أن ما يقارب ستين نائبًا قد استقاموا على التدين وأقاموا الصلاة.
استدعاه (أتاتورك) وحدث بينهما حوار، وكان مما قاله أتاتورك:
- لا ريب أننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك، لقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك المهمة، ولكن أول عمل قمت به لنا هو الحديث عن الصلاة. لقد كان أول جهودكم هنا هو بث الفرقة بين أهل هذا المجلس.
فأجابه بديع الزمان مشيرًا إليه بإصبعه في حدة:
- (باشا.. باشا) إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة. وإن الذي لا يصلي خائن. وحكم الخائن مردود.
كانت النتيجة أن فكر أتاتورك في إبعاده عن أنقرة بحجة تعيينه واعظًا عامًّا للولايات الشرقية، وبمرتب مغر، ولكن النورسي رفض هذا الطلب.
المسلم والخلق القرآنى
من المثالين السابقين يتضح لنا مدى وعي سعيد بالمفهوم الخلقي القرآني، في مواجهة الأحداث عبر سلوك يلتزم بقيم الإسلام ويستمسك بجوهرها، دون أن يرهبه موت أو يغريه عطاء، وهو ما ركز عليه في معالجته للقيم الخلقية الإسلامية، حيث يؤكد على ضرورة استيعاب هذه القيم فكرًا وسلوكًا حتى تكون شخصية المسلم جديرة بالانتساب إلى الإسلام، وإقامة المجتمع الإسلامي القوي.
ويلاحَظ أن بديع الزمان في فهمه لفلسفة الأخلاق القرآنية، كان ينطلق من قاعدة بناء المسلم الفرد، ليستقيم المجتمع الإسلامي ككل، وكثيرًا ما يمزج بين التربية الخلقية الفردية، والتربية الخلقية الجماعية، لتؤدي القيمة دورها في بناء الطرفين، وتشييد المجتمع الإسلامي المأمول.
إن منهج بديع الزمان يقوم في توصيفه للقيمة الخلقية عن الانطلاق من الآيات القرآنية الكريمة التى تتناولها، مع الاسترشاد بالحديث الشريف، ثم يدعو إلى التطبيق من خلال سرد الأدلة العقلانية المؤيدة للقيمة، سواء كانت حدثًا تاريخيًّا قديمًا أو معاصرًا، أو حدثًا شخصيًّا عايشه ومرّ به أو افتراضًا واقعيًّا يصل إلى إثبات صحته.. وهذا ما يجعل منه وزنًا حقيقيًّا ومؤثرًا، وإذا عرفنا أن كثيرًا من القضايا التى تناولتها (رسائل النور) جاءت ردًّا على أسئلة طلاب النورسي وتلاميذه، أدركنا مدى اقترابها من الواقع والحياة؛ حيث يكون السلوك القيمي غالبًا أساس كثير من هذه القضايا، ولعل هذا ما يجعل لاستشهاداته بالحوادث والوقائع التى عايشها، ومر بها، تأثيرًا كبيرًا في الإقناع والقبول.
لقد عالج الإمام الغزالي- رحمه الله- في إحياء علوم الدين، وشرحه لأسماء الله الحسنى، فلسفة الأخلاق القرآنية، وتعمق الرجل في الحديث عن القيم الخليقة إلى درجة مدهشة، ومن يتأمل حديث النورسي عن هذه القيم يلحظ تشابهًا كبيرًا بين الرجلين، وإن كان كل منهما ينتسب إلى لغة خاصة وزمن خاص وواقع خاص. فالغزالى ينتسب إلى القرن الخامس الهجري وكانت فيه بلاد الإسلام لما تزل قوية، والنورسي ينتسب إلى القرن الرابع عشر الهجرى، وصارت فيه بلاد الإسلام قصعة الأمم.. لغة الغزالى تبدو أقرب إلى الأكاديمية التى تخاطب العقل أولًا، أما لغة النورسي فتبدو أقرب إلى الجماهير العامة التى تخاطب القلب أولًا.. وفي اللغتين عقل وقلب، وجوهر واحد تقريبًا، وسنشير إلى بعض النماذج في ثنايا الورقة إن شاء الله، ولكن ما نود التأكيد عليه هنا، أن دور النورسي في مرحلة انهيار الخلافة الإسلامية وتمزيق العالم الإسلامي، كان دورًا مهمًّا للغاية، فقد توقع هذه الكارثة، ونبه الحكام إلى أن القرن الجديد (العشرين الميلادي) قرن العلم. ولا تكفي فيه المدارس الدينية التى تكتفى بدراسة العلوم الشرعية، ولكن أحدًا من الحكام لم يلتفت إلى تنبيه النورسي، وكان عليه أن يحمل هموم الأمة، ويقوم بأعباء الرسالة التى نذر لها نفسه وحياته وكل لحظة من وقته بعيدًا عن المحافل السياسية وأروقتها، وانكب على تأليف رسائل النور ونشرها بين طبقات الأمة في ظروف غاية في الدقة والصعوبة ليهييء بها مجتمعًا إسلاميًّا كاملًا يتدفق بالإيمان والحيوية.
(رسائل النور) والقيم الخلقية الإسلامية
ويمكن القول: إن رسائل النور قد تناولت معظم القيم الخلقية الإسلامية إن لم يكن كلها بطريقة وأخرى، وإن كانت (اللمعات) على وجه خاص قد احتشدت لها بطريقة مركزة، وفي رسائل النور نستطيع أن نجد تناولًا للقيم الإيجابية والسلبية، فهناك من الأولى:
الإخلاص، الأخوة، الاستغفار، الاستقامة، الاقتصاد، الأمانة، الإنصاف، الإيثار، التربية الإسلامية، التنظيف والتطهير، التواضع، العفة، التوكل، التساند، التعاون، التضحية، الحب، الحسنة، الخير، الشجاعة، السخاء، الصبر، الصدق، العدل، العزة، العمل، الكرامة، الكرم، المحبة، الوفاء، الهمة...
ومن الأخرى: الإفراط والتفريط، الإسراف، البخل، البدعة، التخريب، التكبر، الحرص، عشق الدنيا، الرياء، السفاهة، السيئة، الشهرة، الشهوات، العبث، الغرور، الكبائر، الإعجاب بالنفس، الأنانية، الهوى...
وقد يتناول النورسي كل قيمة من هذه على حدة، وقد يتناول القيمة الإيجابية ونقيضتها السلبية في آن واحد، وفق الموقف الذي يعالجها من خلاله. وفيما يلي سنرى كيف عالج النورسي بعض هذه القيم، وأقول (بعض)؛ لأن الإلمام بها جميعًا يحتاج إلى كتاب ضخم، لا تحتمله هذه المناسبة.
(الأخوة) في رسائل النور
إن النورسي يعطي قيمة الأخوة بين المسلمين اهتمامًا خاصًا، فالأخوة، وهي قرين المحبة عند النورسي، محور من محاور بناء الأمة وصياغتها وفقًا للمفاهيم الإسلامية، ويقيم النورسي فهمه لقيمة الأخوة والمحبة على أساس تعميق محبة الله في قلوب المسلمين، لأنها أس الحراك الاجتماعي في حياتهم، وهي الموجه للعديد من سلوكيات المسلمين.
لقد خصص النورسي المكتوب الثاني والعشرين من المكتوبات لمعالجة قيمة الأخوة، وانطلق من الآيات الكريمة التالية ليؤكد على أهمية هذه القيمة في معالجة جروح المسلمين وبنائهم ذاتًيا وإنسانيًا:
- {إِنًمَا الْمُوْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحْوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات:10).
- {... ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنًهُ وَلِيٌ حَمِيمٌ} (فصلت:24).
- {... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 25).
ويطرح النورسي أسباب الشقاء التى تعصف بالمسلمين، وهي التحايز والعناد والحسد والنفاق والحقد والغل والعداء... إن هذه الأمراض مرفوضة، ترفضها الحقيقة والحكمة، ويرفضها الإسلام الذي يمثل الروح الإنسانية الكبرى، وإن العداء– على وجه الخصوص– ظلم شنيع يفسد حياة البشر الشخصية والاجتماعية والمعنوية، بل هو سمٌّ زعاف لحياة البشر قاطبة.
ويعدد النورسي ستة أوجه من وجوه كثيرة لهذه الحقيقة، ويضرب الأمثلة على ذلك ليؤكد أن عداء الإنسان لأخيه ظلم في نظر الحكمة وضرر بالغ يصيب الحياة الاجتماعية وزعزعة لحياة المؤمن المعنوية وتضيع للإخلاص.
إن العداء والمحبة نقيضان– كما يقول النورسي– فهما كالنور والظلام لا يجتمعان بمعناهما الحقيقي أبدًا، فإذا ما اجتمعت دواعي المحبة وترجمت أسبابها فأرسلت أسسها في القلب، استحالت العداوة إلى عداء صوري، بل انقلبت إلى صورة العطف والإشفاق، إذ المؤمن يحب أخاه، وعليه أن يوده، فأيما تصور مشين يصدر من أخيه يحمله على الإشفاق عليه، وعلى الجد في محاولة إصلاحه باللين والرفق دون اللجوء إلى القوة والتحكم. فقد روى البخاري (5727)، ومسلم (2560) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ».
وروى أبو داود (4914)، وأحمد (9092) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ».
ويلخص النورسي علاقة المسلم بالمسلم في قوله: «إن لم تكن تصرفات المؤمن وحركاته فوق الدساتير السامية التى وضعها الحديث الشريف: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله عز وجل» (صحيح الجامع 2539)، والاحتكام إلى الله في الأمور كلها، فالنفاق والشقاق يسودان... نعم، إن الذي لا يستهدى بتلك الدساتير يكون مقترفًا ظلمًا في الوقت الذي يروم العدالة.
ويروى النورسي حادثة ذات مغزى وعبرة: في إحدى الغزوات الإسلامية، كان الإمام علي رضى الله عنه يبارز أحد فرسان المشركين فتغلب عليه الإمام وصرعه. فلما أراد الإمام أن يجهز عليه تفل على وجه الإمام. فما كان من الإمام إلا أن أخلى سبيله وانصرف عنه، فاستغرب المشرك من هذا العمل، وقال: إلى أين؟ قال الإمام: كنت أقاتلك في سبيل الله، فلما فعلت ما فعلت خشيت أن يكون قتلي إياك فيه ثأر لنفسي فأطلقتك لله. فأجابه الكافر: كان الأولى أن تثيرك فعلتي أكثر فتسرع في قتلي! وما دمتم تدينون بدين هو في منتهى السماحة فهو بلا شك دين الحق.
إن النورسي يدرك ما أصاب المسلمين وخاصة في العصر الحديث بسبب الشقاق والتفرق والتحزب والخلاف! لذا يعيب عليهم أمراضهم هذه، ويذكرهم أن أشد القبائل تأخرًا يدركون معنى الخطر الداهم عليهم، وينبذون خلافاتهم الداخلية وعدواتهم الجانبية عند إغارة العدو الخارجي عليهم... ويصف النورسي بقاء دعاة الإسلام أسرى لعداواتهم الجزئية الطفيفة بأنها تمثل تدهورًا مخيفا، وانحطاطَّا مفجعًا، بل خيانة بحق الإسلام والمسلمين.
ويخاطب النورسي المؤمنين قائلًا: «إن كنتم تريدون حقًا الحياة العزيزة، وترفضون الرضوخ لأغلال الذل والهوان، فأفيقوا من رقدتكم وعودوا إلى رشدكم، وادخلو القلعة الحصينه المقدسة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، وحصنوا أنفسكم بها من أيدي أولئك الظلمة الذي يستغلون خلافاتكم الداخلية.
إن الإيمان والإسلام والإنسانية وأمثالها من السلاسل النورانية المتينة والحصون المعنوية المنيعة هي من أسباب المحبة عند النورسي. أما أسباب العدواة والبغضاء تجاه المؤمن فإنما هي أمور خاصة تافهة تفاهة الحصى. لذا فإن إضمار العداء لمسلم إضمارًا حقيقيًّا، إنما هو خطاَ جسيم لأنه استخفاف بأسباب المحبة التى هي أشبه بالجبال– إن الود والمحبة والأخوة هي من طباع الإسلام وروابطه، والذي يحمل في قلبه العداء، فهو أشبه ما يكون بطفل فاسد المزاج يروم البكاء بأدنى مبرر للبكاء. أو أشبه ما يكون برجل متشائم لا يحسن الظن بشيء ما دام سوء الظن ممكنَا، فيحجب عشر حسنات للمرء بسيئة واحدة. ومن المعلوم أن هذا مناف كلَّيا للخلق الإسلامي القاضي بالإنصاف وحسن الظن.
ولا ريب أن الركيزة الأولى في هذا كله هي محبة الله؛ لأنها تحقق نجاة الإنسان من الوحشه الهائلة التى تلُفّ حياته الدنيا، وتشفيه من الغربة الأليمة التى يحسها إزاء الكون، وتشعره بالأنس المعنوى في الدنيا والآخرة معًا، كما تشعره بالحقائق اللطيفة في التكاليف الشرعية ليصل بهذه المحبة إلى مرتبة الإنسان الكامل.
إن محبة الله احتياج إنساني أصيل يسهم في تشكيل حياة الفرد والمجتمع تحت ظلال الإسلام، فمحبة الله– كما رأينا– تحرر الإنسان من كل ما عدا الله، وترتقي بروحه ووجدانه وتتغلب على معظم الأحاسيس المادية الدنيئة.
إن المحبة الإلهية تحقق الوجود الإنساني الحقيقي؛ لأنها تحرك قلب الإنسان الذي يعد مركزًا لجسمه، ولولبًا لحركته، وتوجهه إلى الله، فيندفع بذلك كثير من اللطائف الإنسانية إلى الحركة والظهور، فتتحقق حقيقة الإنسان.
إن محبة الله، أساس الإيمان، والإيمان طريق الأخوة، والأخوة تعنى تماسك المجتمع وتسانده وتعاضده وقوته وعزته، وهذا ما ألحّ عليه النورسي من خلال المفاهيم القرآنية والسنة النبوية وأحداث الواقع والتاريخ، وهو أيضًا ما جعل مفهوم الأخوة يحتل مساحة كبيرة في رسائل النور سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
الأخوة عند الغزالي
وقد اهتم الغزالي في معالجته لمفهوم الأخوة اهتماما عظيمًا بقيمتها الخلقية في الإسلام، فخصص لها في إحياة علوم الدين، كتاب (آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق) يتحدث فيه عن فضيلة الألفة والأخوة، ومعنى الأخوة في الله، من خلال الحب في الله والبغض في الله ومعنى المحبة في الله تعالى، والحب لله وفي الله، والبغض في الله، ومراتب الذين يبغضون في الله. والصفات المشروطة فيمن تختار صحبته، وحقوق الأخوة والصحبة، وحق الأخوة في المال، وحق الأخوة في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات، وحقوق الأخوة من جهة اللسان، والحق على اللسان بالنطق، والعفو من الزلات والهفوات، والدعاء للأخ في حياته وبعد مماته، والوفاء والإخلاص والتخفيف وترك التكلف والتكليف، وشروط الأخوة في الله، وآداب العشرة والمجالسة مع أصناف الخلق... الخ، وهو ما استغرق مساحة كبيرة أيضًا في الجزء الثاني من إحياء علوم الدين، نكتفي بالإشارة إليها لضيق المجال.
التعاون والعمل والسلام والرحمة والشفقة والعدل
وإذا كان النورسي قد توقف عند بعض القيم الخلقية وقفات مركزة تستقصي جوانبها الدقيقة من خلال مفاهيمها القرآنية، فإنه عالج قيمًا أخرى من خلال منظور شامل يربط بينهما برباط عضوى لا ينفصم، بل إنه يربطها أيضًا بقيم الإخلاص والأخوة والمحبة.. ولعل تناوله لقيم التعاون والعمل والسلام والرحمة والشفقة والعدل. على سبيل المثال، يؤكد هذا الربط، الذي يصب في بناء الفرد والمجتمع تحت ظلال الإسلام. إن حشد الكائنات وجمعها حول الإنسان ضمن حكمة إلهية مقدرة، وجعل كل منها يمد يد العون إليه لدفع حاجاته المتزايدة، نابع– كما يقول النورسي– من إحدى حالتين اثنتين: فإما أن كل نوع من أنواع الكائنات يعرف الإنسان ويعلم به فيطيعه ويسعى لخدمته، أي أن هذا الإنسان الغارق في عجز مطلق يملك قدرة سلطان مطلق! (وهذا بعيد كل البعد عن منطق العقل).
أو أن هذا التعاون والامداد إنما يتم بعلم محيط قادر مطلق محتجب وراء الكائنات.. أي أن أنواع الكائنات لا تعرف هذا الإنسان لتمد له يد العون، وإنما هي دلائل على من يعرف هذا الإنسان ويرحمه ويعلم بحاله.. وهو الخالق الرحيم.
قيمة التعاون هنا، قيمة إلهية، فقد سخرت الكائنات لتمد يد العون للإنسان رحمة به وشفقة عليه، وكان من المفترض أن تعم هذه القيمة النابعة من (بسم الله الرحمن الرحيم) بنى الإنسان، ولكنهم للأسف تناسوها، والتفتوا إلى أنفسهم وذواتهم، وكانت الأنانية هي البديل الذي أشعل الصراع بين الإنسان والإنسان وكانت الحروب والصراعات، وقبل ذلك جحود الخالق ونسيان فضله.. ولعل هذا هو ما جعل النورسي يشدد على انتقاده للأوربيين أو (أوروبا الثانية الفاسدة) التى تستند إلى أسس واهية نخرة، فتزعم أن كل كائن حي ملك لنفسه، ابتداء من أعظم ملك إلى أصغر سمك، كل يعمل لذاته فقط، ولأجل نفسه فحسب، ولا يسعى أحد إلا لذاته الخاصة، ولأجل هذا له حق الحياة، فغاية همه وهدف قصده هو ضمان بقائه واستمرار حياته. إن أوربا تحسب أن (قانون التعاون) الجاري بين المخلوقات امتثالًا لأمر الخالق الكريم، وتحسب السنة الآلهية وتلك التجليات الكريمة الرحيمة المنبعثة من ذلك التعاون العام- تحسب ذلك جدالًا وخصامًا وصراعَا، حتى حكمت أن الحياة جدال وصراع.
إن المخلوقات تقوم بخدمة غيرها، وتجد في ذلك لذة تفوق كل شيء؛ لأنها تمتثل لقانون التعاون الذي صنعته السنة الإلهية. إن اللذة كامنة في الوظيفة نفسها، والموجودات تقوم بأداء هذه الوظيفة التعاونية في غاية اللذة والمتعة ما دامت تكسب بها مرتبة نورانية سامية، إن الديك– مثلًا– يؤثر الدجاجات على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه لَهُنّ دون أن يأكل، ويشاهد أنه يقوم بهذه المهمة وهو في غاية الشوق وعز الافتخار وذروة اللذة.. فهناك إذًا لذة في تلك الخدمة أعظم من لذة الأكل نفسه. وكذا الحال مع الدجاجة– الراعية لأفراخها– فهي تؤثرهم على نفسها، إذ تدع نفسها جائعة في سبيل إشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الأفراخ، فتهاجم الكلب المغير عليها لأجل الحفاظ على الصغار.
إن موجودات الكون بأنواعها المختلفة تتعاون فيما بينها تعاونًا وثيقًا، ويسعى كل منها لتكملة الآخر، وهذا التعاون والتساند والتجاوب والتعانق يجعل الكون وحدةً واحدة تتعصى على الانقسام والانفكاك.
إن زمننا هو زمن الجماعة وليس زمن الفرد، ومواجهة المد الإلحادي والانقسامات والضعف، لا يتحقق إلا من خلال تأصيل قيم الأخوة والتعاون القائمة على الثوابت القرآنية.
إن النورسي ينظر إلى ما وراء القيم ليفسر أو يحاول تفسير الحكمة من وضعها أو فرضها، وليقنع بالعقل والمنطق أنها لصالح الإنسان بصفة عامة، والإنسان المخلص بصفة خاصة. إنه يرى أن هناك ثوابًا معجلًا لأعمال البر والحسنات، وعقًابا معجلًا لأعمال الفساد والسيئات. والإنسان المسلم يستشعر الثواب والعقاب. إن الحسنات تحمل في طياتها لذائذ وجدانية مما يذكر بنعم الآخرة، والسيئات تحمل في ثناياها عذابات معنوية تشعر بعذاب الآخرة الأليم.
ويطبق النورسي هذا المفهوم على قيمة السلام والعداء، فيرى أن إفشاء المحبة والسلام في صفوف المؤمنين، إنما هو حسنة كريمة للمؤمن، فله ضمن هذه الحسنة لذة معنوية وذوق وجداني وانشراح قلبي ما يذكر بثواب الآخرة المادي، ومن يتفقد قلبه يشعر بهذا الذوق.
وإن بث الخصومة والعداء بين المؤمنين إنما هو سيئة قبيحة. فهذه السيئة تنطوي على عذاب، وجداني، وأي عذاب، بحيث يأخذ بخناق القلب والروح معًا، فكل من يملك روحًا حساسة وهمة عالية يشعر بهذا العذاب. ويضرب النورسي مثلًا بنفسه، ويذكر أنه مر بأكثر من مائة تجربة على هذا لنوع من السيئات: «فكلما حملتُ عداءً على أخ مؤمن تجرعت عذاب تلك العداوة، حتى لم يبق لي ريب من أن هذا العذاب هو عقاب معجل لسيئتي التي ارتكبتها فأعاقب عليها وأعذب بها».
إن تحقيق قيمة السلام داخل النفس، ينسحب على المجتمع، مع الأفراد والطبقات، مما يعني إقامة بناء مجتمع قوي يخلو من شرور الفرقة والاختلاف، ويؤصل للأخوة والمحبة، وهو أيضًا ما يتمثل في قيم الرحمة والشفقة والاحترام والرأفة، فتوفير الجديرين بالاحترام والرأفة، وإبداء العطف والرحمة لمن يستحقه، عمل صالح وحسنة للمؤمنين، وفي هذه الحسنة تكمن لذة عظيمة ومتعة وجدانية إلى حد قد تسوق صاحبها إلى التضحية حتى بحياته. انظر إلى اللذة التى تكسبها الوالدات من بذل شفقتهن لأولادهن، حتى أنها تمضي في سبيل تلك الرأفة والشفقة إلى الجود بنفسها.
إن في الاحترام والرأفة، والشفقة والرحمة أجرة معجلة، يشعر بها وبلذاتها أولئك الذين يملكون أرواحًا عالية ونفوسًا أبية شهمة.
ويعالج النورسي بعض القيم الخلقية من زاوية ما تثيره من التباس لدى بعض الناس، ويكشف عن مفاهيمها الأصلية من منظور قرآني، تؤيده الأمثلة والأدلة التاريخية والواقعية. فهو مثلًا يعالج قيمة العمل ليؤكد على أن العمل الإيجابي البناء يأتى امتثالًا لأمر الله سبحانه دون ربطه بالنتائج، فالذين يعملون في طريق الحق ويجاهدون في سبيله، يجب ألا يفكروا فيما يخص شئون الله سبحانه وتدبيره، أو يبنوا أعمالهم عليه فيخطئون.
ورد في كتاب (أدب الدنيا والدين) أن إبليس– لعنة الله عليه– حين ظهر لعيسى ابن مريم- عليه السلام-، قال: ألست تقول: إنه لن يصيبك إلا ما كتبه الله عليك؟ قال: نعم. قال فارم نفسك من ذروة هذا الجبل؛ فإنه إن يقدر لك السلامة تسلم، فقال له: «يا ملعون! إن لله أن يختبر عبده، وليس للعبد أن يختبر ربه».
ومن أمثلة التاريخ يضرب النورسي مثالا آخر: «كان جلال الدين خوارزم شاه، هو أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة، كان يتقدم جيشه إلى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقربوه: سيظهرك الله على عدوك وتنتصر عليهم!، فأجابهم: «عليّ الجهاد في سبيل الله اتباعًا لأمره سبحانه، ولا حق لي فيما لم أكلف به من شئونه، فالنصر والهزيمة من تقديره سبحانه»، ولبلوغ هذا البطل العظيم إدراك هذا السر الدقيق في الاستسلام إلى أمر الله والانقياد له، كان النصر حليفه في أغلب الأحيان نصرًا خارقًا.
نعم إنه ينبغى ألا يفكر الإنسان بالنتائج التى يتولاها الله سبحانه.
إن العمل الإيجابي النباء– كما يراه النورسي– علاج للغرور والأنانية، لأنه عمل المرء بمقتضى محبته لمسلكه فحسب، من دون أن يرده إلى تفكيره، أو يتدخل في عمله عداء الآخرين أو التهوين من شأنهم، أي لا ينشغل بهم أصلًا.
المفاهيم القرآنية مؤصلة للقيم الخلقية
من المؤكد أن النورسي، من خلال النماذج القليلة التى سبقت، استطاع أن يؤصل للقيم الخلقية من خلال المفاهيم القرآنية، ويكشف بوعي وبساطة عن فلسفة هذه القيم وتأثيرها في حياة الفرد المسلم والمجتمع المسلم تأثيرًا عظيمًا، وخاصة زمن الهزائم، والاستباحة من قبل أشرار العالم.
وإذا كان النورسي قد كشف ضمنًا عن القيم السلبية المقابلة أو النقيض للقيم الخلقية الإسلامية، فإنه خصص العديد من المواضع في رسائل النور ليهاجم الأخلاق السيئة، ويندد بها، ويبرز أضرارها وشرورها بالنسبة للأفراد والمجتمعات.
يشير إلى أربعة أمراض شائعة تصيب الإنسان، ويوضح كيفية معالجتها أو الشفاء منها، وهي: اليأس والعُجب والغرور وسوء الظن، ويرى أن اليأس يعالج بالاستماع بقلب شهيد إلى قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذيِنَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذٌّنوبَ جَمِيعَا إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).
والعُجب يُشفى إذا تبرأ المرء من دعوى المالكية وتوهم مصدرية المحاسن، والاعتراف بالنقصان والقصور، فالملك لله وحده، وله الحمد ولا قوة إلا بالله.
والغرور ينشأ عن النظر إلى الأسلاف العظام من بعد، والحرمان من محاسن إرشاداتهم، وعلاجه بالنظر إليهم من قرب، فنراهم أعاظم كشفوا في أربعين يومًا ما لم تقتدر على كشفه إلا في أربعين سنة.
أما سوء الظن، فالجائع يتوهم أن الناس جياع. وإساءة الظن بسبب المرض والرياء بأولئك الأسلاف العظام، فقد رأيت أنك بغمض عينك جعلت النهار ليلًا على نفسك فقط.
وإذا كان النورسي يقدم لنا أربعة أمراض شائعة أو أربعة قيم سيئة، ويكشف عن علاجها في إيجاز، فإنه يتوقف في مواضع متعددة لتفصيل بعض هذه الأمراض أو القيم السيئة، وسوف نتناول بعضها على سبيل المثال:
لإن قيمة الاستغفار تنبع من القلب، الذي هو مستقر الإيمان والقيم الخلقية، لذا يكون ذكر الله النابع من القلب كفيلًا بإصلاح القلب، وعلاجًا للانحراف الخلقي. ويوضح النورسي ذلك بأن كل ما تكسبه أيدينا من إثم، وكل ما يلج إلى أذهاننا من شبهة يشق جروحًا غائرة في قلوبنا، ويفجر قروحًا دامية في أرواحنا.
ويضرب المثال بسيدنا أيوب عليه السلام الذي كانت جروحه المادية تهدد حياته بالخطر في الدنيا القصيرة الأجل. أما جروحنا المعنوية نحن، فهى تهدد حياتنا الأخروية المديدة بخطر أكبر. فنحن إذًا محتاجون أشد الحاجة إلى تلك المناجاة الأيوبية الكريمة بأضعاف أضعاف حاجته علية السلام إليها.
والمناجاة الأيوبية التى أشار إليها النورسي هي ما ورد في الآية الكريمة: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادّى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بهِ مَنْ ضُرَّ وّءَاَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابَدَينَ} (الأنبياء: 83 - 48).
ورد في الآية الكريمة: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادّى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذاَبٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَاردٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَّهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنًا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بهِ وَلاَ تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْم الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص:41- 43).
وهي مناجاة تحمل الاستغفار إلى جانب الذكر والاعتراف بالضعف ومس الشيطان، لذا كانت الاستجابة الآلهية مباشرة وسخية: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بهِ مَنْ ضُرَّ وّءَاَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ...) (الأنبياء:84).
ويشير النورسي إلى أن الإثم يتوغل في القلب ويمد جذوره في أعماقه، وما ينفك ينكت فيه نكًتا سوداء حتى يتمكن من إخراج نور الإيمان منه، فيبقى مظلمًا مقفرًا فيغلظ ويقسو.
نعم، إن في كل إثم وخطيئة طريقًا مؤديًا إلى الكفر، فإن لم يمح ذلك الإثم فورًا بالاستغفار يتحول إلى دودة معنوية، بل إلى حَيّة معنوية، تعض القلب وتؤذيه.
إن النورسي كان موفقًا تمامًا في ضرب المثل بسيدنا أيوب عليه السلام: حيث يقدم صورة محسوسة للابتلاء والصبر عليه ومواجهته بالدعاء والتضرع والإنابة إلى الله: فضلًا عن كون هذه الصورة مشهورة، ولها حضورها في الوجدان الشعبي الإسلامي بصور متعددة.
يقول النورسي: «إن من يرتكب إثًما يخجل منه، ومن يقترف كبيرة تفضي إلى عذاب جهنم– ولا يستغفر– تتولد لديه جرأة إنكار جهنم، ومن لا يقيم الفرائض ولا يؤدي وظيفة العبودية حق الأداء، تؤدي به إلى الضيق الشديد، والرغبة في الإنكار والعداء المعنوي تجاه الألوهية، ويستشهد بالآية الكريمة: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون} (المطففين:14).
ويخلص النورسي إلى أن التقوى والسنة النبوية والاستغفار هي الدواء الشافي من وسوسة الشيطان وجنوده، وسلاح المؤمن في مواجهة المعاصي: «فيا معشر أهل الإيمان! إن درعكم المنيع لصد أولئك الأعداء، هو التقوى المصنوعة في دوحة القرآن الكريم، وإن خنادقكم الحصينة هي سنة نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام. وأما سلاحكم فهو الاستعاذة والاستغفار والالتجاء إلى الحرز الإلهي».
إن النورسي يرى أن الاستغفار يقتضي الاعتراف بالذنب والتقصير، والاستعاذة من الشيطان، والاعتراف في كل الأحوال يفضي إلى العفو: «ومن اعتراف بتقصير نفسه يستغفر ربه ويستعذ به من الشيطان. وعندها ينجو من شروره.. وإنه لتقصير أكبر ألا يرى الإنسان تقصيره، وإنه لنقص أعظم كذلك ألا يعترف بنقصه، ومن يرى عيبه وتقصيره، فقد انتفى عنه العيب، حتى إذا ما اعترف يصبح مستحقًا للعفو».
إن النورسي حين يطرح القيم السلبية يكشف طبيعتها ونتائجها المدمرة بالنسبة للإنسان الفرد والمجتمع المسلم على حد سواء، ولكنه لا يكتفي بذلك، بل يقدم العلاج المفيد من خلال المفاهيم القرآنية، ولكل قيمة سلبية على حدة، ويخصص قيمة (الاستغفار) لتكون تطهيرًا للمسلم أولًا بأول، وتزكية لروحه، وتجديدًا لحياته كي تفارق الذنوب والخطايا، وتولد من جديد صافية نقية.
ختامًا
إن فلسفة الأخلاق الإسلامية من خلال رسائل النور تحض على كل ما هو إيجابي وفعال لإسعاد الفرد والجماعة، وهو ما بينه القرآن الكريم، ووضحته السنة النبوية المطهرة، وأيدته أحداث الواقع والتاريخ.. وأيضًا؛ فإنها ترفض ما هو سلبي وسيئ؛ لأنه يضعف الفرد، ويدمر الجماعة، لذا فإن أخلاق الإسلام تحرص على تطهير النفس الإسلامية أولًا بأول، وتزكيتها بالاستغفار والتوبة والندم حتى تستحق العفو والغفران، وتنعم في الدنيا والآخرة جميعًا.
.