أولى الموروث الفكري والحضاري العالمي أهمية استثنائية للأسرة كنواة أولية لكل المجتمعات، واهتم الإسلام بالأسرة كبنية أساسية لمجتمع تسوده الفضائل الإسلامية، وأعطى الزواج قدسية جعلت منه المؤسسة التي يرتكز عليها بناء الشخصية المسلمة، فالأسرة هي البناء الأولي الأول الذي تبنى منه المجتمعات، وهي أول المؤسسة يتعامل معها الأبناء من مؤسسات المجتمع، فتبني خلالها بيئته الثقافية الابتدائية التي يكتسب منها الابن لغته ومعارفه.
وهي بلا شك المؤثر الأول في تكوين الأبناء نفسيا وجسديا، واجتماعيا، وعن طريقها تصاغ المنظومة القِيَمِيَّة والعَقَدِيَّة في أذهانهم، كما أنها مسئولة عن حفظ النسل والتوارث، وتمثل الملجأ المجتمعي الأول والملاذ الإنساني للمرء في مراحله الأولى والمتوسطة، كما تمثل الأسرة للأبناء أول مراحل التكيف الاجتماعي، وفي الأسرة يكتسب الأبناء أولى خبراتهم في إثبات الذات والإقناع، وبناء المفردات الشخصية الأولى لهم.
وفى دراسة للباحث التربوى الدكتور خالد روشة بعنوان: (التربية الأسرية في الإسلام) -2009-، يرصد فيها أهم محاور التربية الأسرية مع تسليط الضوء على التربية الأسرية الإسلامية وأهم ما يحتاجه البناء الأسري للنجاح في عمليته التربوية وأهم الوسائل التي يستطيع بها التغلب على التحديات المعاصرة والمنتظرة.
الأسرة (التعريف، التكوين، دورة الحياة):
عَرَّفت الموسوعات العلمية الأسرة على أنها:
1- وحدة اجتماعية رئيسة تتألف من أشخاص يرتبطون بروابط الزواج، أو الدم، وعادة ما يمثلون بيتًا واحدًا.
2- جماعة من الناس توحدّهم صلات قربى قوية قائمة على روابط الدم أو الزواج وتجمعهم روابط العيش المشترك الذي تُراوح أنشطته بين اللهو وتمضية وقت الفراغ والعمل وتناول الغذاء والإقامة والتعاون والثقة والسكنى في دار واحدة. وقد انبثقت هذه الجماعة في ظروف الحياة الطبيعية والاجتماعية للإنسان، لتؤدي وظائف ضرورية لكل من الفرد والمجتمع، أقلها الإشباع العاطفي لأفرادها، وتوفير وضع ملائم للتعاون الاقتصادي والتواصل الجنسي والتناسل ورعاية الذرية والحفاظ على مظاهر الحضارة ونقلها من جيل إلى آخر.
ونستطيع أن نعرف الأسرة تعريفا إجرائيا من جانبنا في نقاط كما يلي:
1- الأسرة بناء اجتماعي مستقل ونظام رئيس يشكل أساس وجود المجتمع.
2- تبدأ الأسرة بزواج ذكر وأنثى، يسمى الذكر فيما بعد الإنجاب بالأب، والأنثى بالأم.
3- تتكون من مجموعة من الأفراد.
4- يربط بينهم رابط القرابة أو الدم.
5- يعيشون في مسكن واحد غالبا.
6- هي المؤسسة الأكثر تأثيرا والأكبر فاعلية في بناء الشخصية الإنسانية.
7- جوهر جماعة الأسرة هي علاقة الوالد والابن.
8- تقوم الأسرة بدور الرعاية والحماية للأبناء حتى يشتدوا ويرشدوا.
9- هذه العلاقة غير محددة زمنيا.
10- يتفاعل الأفراد داخل الأسرة كل مع الآخر في حدود أدوار: الزوج والزوجة، الأم والأب، الأخ والأخت، الجد والجدة.. ويشكلون ثقافة مشتركة.
التعريف الإسلامي للأسرة: هي الجماعة المعتبرة نواة للمجتمع والتي تنشأ برباط زوجي بين الرجل والمرأة عن طريق عقد يفيد حل المعاشرة بينهما ثم يتفرع عنهما الأولاد وتظل هذه الصلة وثيقة بأصول الزوجين وفروعهما ويحدد العقد بين الزوجين ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات.
والأسرة أول جماعة يشعر الأبناء بالانتماء إليها، ويكتسبون عضوية فيها، ويتعلمون من خلالها كيفية التعامل مع الآخرين، وكيف يسعون لإشباع حاجاتهم بصورة مقننة ولما كانت المرحلة الأولى من عمر الإنسان هي المرحلة الأهم من مراحل حياته، فقد اكتسبت الأسرة أهميتها لإحاطتها بكل جوانب التأثير في تلك المرحلة بصورة متكاملة، بل إن من العلماء من يرى أن أثر الأسرة يفوق أي أثر آخر لأي مؤسسة تربوية واجتماعية في المجتمع، إذ بصلاحها تصلح آثار العوامل والوسائط والمؤسسات التربوية الأخرى وبفشلها تفشل شتى الجهود اللاحقة!
ثانيًا، التكوين الأسري:
1- أساس التكوين:
أساس تكوين الأسرة هو العلاقة بين الذكر والأنثى والتي تشمل العلاقة الجسدية بينهما، وعلاقات التفاعل الحياتية الأخرى.
وفي حين تشترط الأديان السماوية جميعها- اليهودية والمسيحية والإسلام- أن تكون العلاقة الأولى بين الزوج والزوجة علاقة مشروعة بعقد يسمح به الدين ويشهد عليه المجتمع، فإن مجتمعات مختلفة– غربية وشرقية- منها ما يدين بالمسيحية أو اليهودية أو الوثنية، تسمح مجتمعاتها أن تبتدئ تلك العلاقة بشكل آثم دينيا، وتسمح أعرافها بجعل عقد الزواج متأخرا عن العلاقة الجسدية بين الزوج والزوجة.
والإسلام منع منعا باتا حدوث أية علاقة بين الزوجين قبل عقد الزواج المعتبر شرعا كما سبق وبينا، بل يشترط تقديم عقد الزواج على أية علاقة جنسية بين الزوجين.
2- العلاقات داخل الأسرة:
تنشأ الحياة الاجتماعية والخبرات التربوية عندما يتفاعل الأفراد فيما بينهم كل بدوره ويعتمد التوجيه التربوي داخل الأسرة على مدى قيام كل منهم بهذا الدور المنوط به والذي ينتظره الآخرون منه بحسب تصورهم عنه:
أ– العلاقات بين الزوج والزوجة:
يتمثل النموذج العلاقي في الأسرة بوجود محورين رئيسين فيها هما الزوج وزوجته، ويكون الأب هو رئيس الأسرة، ويصدر القرارات الخاصة بالمنزل ويعمل جاهدًا في توفير الحاجات الأساسية للحياة الأسرية.
وتقوم الزوجة بمشاركة الزوج حياته ومسكنه ومعيشته وتكون علاقتها معه علاقة التفاهم والتطاوع، ويشتمل عمل المرأة على تربية أطفالهم ورعايتهم.
ومع التطور الذي حدث في الحياة الاجتماعية، فقد اختلفت تلك الصورة في بعض البيوت وصار على بعض النساء أن تتحمل مسئولية الحاجات الأساسية للأسرة.
وفي المجتمعات الغربية بالخصوص تحملت المرأة مسئوليات متكاثرة في أسرتها كالعمل للتكسب والإنفاق على الأسرة بالمشاركة مع الزوج وتحمل مسئولية قرارات المنزل معه.
وتدل دراسات متكاثرة على سلبيات متعددة تشكو منها الزوجة الغربية نتيجة تلك المسئوليات التي تتحملها كعبء عليها لا تستطيع القيام به، وظهرت مطالبات كثيرة من زوجات غربيات بتقدير أكثر لذواتهن كنساء، وعدم تحميلهن أكثر مما يطقن.
ب– العلاقات بين الآباء والأبناء:
سبق أن ذكرنا أن جوهر جماعة الأسرة هي علاقة الآباء والأمهات بالأبناء، والتي قد تختلف وتتباين معالمها من ثقافة لأخرى. ونستطيع أن نقول إن الطبيعة البشرية تعتبر إنجاب الأولاد خطوة لا بد منها بعد الزواج، وأن من يمنعه الله الولد يظل يتمنى الإنجاب بالعموم، إلا أن النظرة للولد قد تختلف.
ففي حين يعلق الإنسان الغربي قراره بالإنجاب على جوانب اقتصادية ونفسية ومجتمعية وصحية، فالإنسان العربي ما زال محبًا للأولاد، فهو يفخر بهم، وخاصة إذا كانوا ذكورا. وإذا لم يرزق الشخص بولد ورزق ببنات فإنه يظل راغبًا في إنجاب الذكور لأنه يعتبر الذكر مصدر اعتزاز. وهذا غالبًا ما نجده ينطبق على مناطق كثيرة سواء كانت حضرية أو ريفية كما أنه يوجد تشابه بين الريف والحضر في الرغبة في كثرة الإنجاب وخاصة إنجاب الذكور، وفي حين يظل اعتماد الأبناء في الغرب على الآباء في الحماية والإنفاق إلى سن قريبة قد لا تتعدى 18 سنه– هي العمر المحدد لنهاية مرحلة الطفولة في قرارات الأمم المتحدة– فإن الأبناء يظل اعتمادهم على الآباء فيما يخص الحماية والدعم المعنوي والاقتصادي حتى سن متأخرة في البلاد العربية على وجه الخصوص والشرقية على وجه العموم حتى يستطيع الابن أن يتكسب ويستطيع الزواج وبناء أسرته الجديدة الخاصة به.
ج – العلاقات بين الأبناء وبعضهم:
أبناء الأسرة هم أفراد يعيشون في عالم الصغار ابتداء ويكبرون تدريجيا ويتلقون مجموعة مختلفة من الخبرات خلال معيشتهم المشتركة. وتتميز العلاقات بين الإخوة بالإشباع والشمول كما تتسم بالصراحة والوضوح ومما تجدر الإشارة إليه أن مكانة الأبناء تختلف حسب تسلسلهم داخل الأسرة عادة.
العلاقات الأسرية في منظور الإسلام:
نظر الإسلام إلى العلاقات في الأسرة نظرة إيجابية، وسعى المنظور الإسلامي دوما لحل الصراعات داخل الأسرة وتذويب الخلافات والعمل على إقامة وحدة مجتمعية مترابطة ومؤثرة.
فعلى مستوى العلاقة بين الزوج والزوجة فإن العلاقة بينهما هي علاقة وثيقة للغاية سماها القرآن الكريم ميثاقا غليظا فقال: {... وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: من الآية 21)، واعتبر القرآن الكريم أن المودة والرحمة هما أساسا البناء الأسري النفسي فقال الله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
كما اعتبر الإسلام العلاقة بين الآباء والأبناء هي علاقة عطاء متبادل، قائمة على البر والرحمة، فالوالدان يقومان بتربية الأبناء ورعايتهما رعاية كاملة منذ الصغر وحتى يكبروا ويشتدوا ويستطيعوا الكسب والحماية لأنفسهم، والأبناء يبرون آباءهم في حياتهم وفي كبرهم وحتى بعد موتهم برًّا بالغا تحيطه الرعاية والبذل والعطاء، وقد صور القرآن الكريم هذه العلاقة في أكثر من آية قرآنية تصويرا بديعا، قال سبحانه: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} (الإسراء). وعلى مستوى العلاقة بين الأبناء، فإن الإسلام أمر الوالدين بمراعاة العدل بينهم في التربية والعطاء حتى تذوب الخلافات والأحقاد بينهم وأمر بحسن علاقة الأخ بأخيه، كما أمره أن يربط بينهما رباط الإيمان مع رباط القربي والرحم.
أشكال الأسرة
أ– الأسرة النووية: وتتكون من الزوجين والأبناء، وتتميز بكونها مستقلة بنفسها من حيث السكن، والاستقلال الاقتصادي، وينتشر هذا النوع من الأسر في المدن والحضر.
ب- الأسرة الممتدة: هي أسرة تضم الأصول والفروع، وتتكون من الزوجين والأبناء ويزيد عدد أفرادها وإمكان انضمام أفراد قربى آخرين، فتنضم إليها زوجات الأبناء، وأبناء الأبناء، وتضم أيضًا الجدود، وتتميز بكونها تجمع كل أفرادها في مسكن واحد ويشتركون في الوظائف الأساسية للأسرة، كما أنها لا تعتبر الأفراد مستقلين من الناحية الاقتصادية بل تتداخل فيها المصادر والموارد وتقسم فيها مسئوليات الإنفاق.
ج- أضافت المراجع العلمية شكلا آخر من الأسر وهو: الأسرة البديلة، وتم تعريفها على اعتبارها أسرة لا ينتمي إليها الطفل بيولوجيًا، ولكنه يعيش في كنفها وربما يحمل اسمها فيكون مُتَبَنَّيًا، أو لا يحمل اسمها فيكون مكفولًا، وكذلك يمكن تسميتها كذلك بالأسرة الحاضنة فهي تقوم باحتضان الطفل المجهول والمحروم من الأبوين، بدلا من العيش داخل مؤسسة إيوائية من أجل تعويضه عن أسرته الطبيعية التي حرم منها، ليأخذ منها المبادئ والقيم، والمفاهيم الاجتماعية العامة، التي لا يمكن أن يحصل عليها في المؤسسة الإيوائية؛ وهذا النوع من الأسر يندر وجوده في المجتمعات الإسلامية حيث منع الإسلام التبني، ومنع دخول الأبناء المميزين الأجانب على النساء بغير حجاب، كما حرم دخول الأبناء البالغين على النساء الأجنبيات وحرم الخلوة بهن، ولكن الإسلام أمر برعاية الطفل الفقير واستحب رعاية الطفل اليتيم ويأمر بالإنفاق عليه ودعمه بكل الأوجه بشرط عدم اختلاطه بالمحارم ليحفظ المجتمع المسلم دوما في الأنساب والعلاقات.
التربية في ظل الأشكال المختلفة من الأسر
يؤثر شكل الأسرة على العملية التربوية الموجهة للأبناء، فالأسرة النووية يقتصر مصدر التوجيه فيها على الأبوين فقط، في حين تتعدد مصادر التوجيه في الأسرة الممتدة، كما يتوحد القرار ومصدره في الأسرة النووية في حين تتعدد القرارات ومصادرها في الأسرة الممتدة... وهكذا.
وبالتالي يتأثر الأبناء بما سبق سلبا وإيجابا، فتميل شخصية الأبناء في الأسرة النووية نحو المحافظة وتقليد دور الوالدين والتشبه بهما، بينما تتعدد مصادر التقليد والتشبه في الأسرة الممتدة لدى الأبناء، وقد منح العلماء والمفكرون الشكل الأسري الممتد الوصف الأكثر قدرة على بناء تربوي أكثر إيجابية حيث تتسع فرصة بناء الشخصية القوية الغير خاضعة والمتصفة بالحرية المقننة، وتنتقل صفات المجتمع وقيمه بصورة أكبر إلى شخصية الأبناء، وتتسع المرجعية النفسية والعلمية والقيمية لدى الأبناء في صورة الأسرة الممتدة حيث يوجد الأجداد الأكثر خبرة وتتعدد الشخصيات الموجهة والمربية والمعلمة.
إلا أننا ينبغي أن نوضح أن تطورات العصر الحديث تدفع دوما في طريق بناء أشكال الأسر النووية المقتصرة على الوالدين والأبناء وتدفع في سبيل الاستقلال المعيشي والاقتصادي، وهو ما ينتج عنه بعض السلبيات المؤثرة على شكل المجتمع مثال قطع العلاقات الرحمية والانطواء العائلي والسعي للمصلحة الشخصية من كل عائلة لأخرى وهكذا، حتى وصل الأمر في المدن العربية أن يلتقي أبناء العمومة ولا يعرف بعضهم بعضا!
ثالثًا، دورة حياة الأسرة
نقصد بدائرة حياة الأسرة وصفا لحياة الأسرة المفردة والمراحل التي تمر بها بدءا من الزواج حتى تفككها سواء بالطلاق أو الوفاة.
وتختلف دورة حياة الأسرة باختلاف طبيعة المجتمع الذي تتواجد فيه ومما لا شك فيه أن سيطرة الطابع الفردي على الواقع الاجتماعي المعاصر قد أحدث تحولا في دورة حياة الأسرة النووية (الشكل الأسري العصري المنتشر في المدن) فكل أسرة تمثل على حدة قصة حياة خاصة قد تنتهي مع حياتهما أو حياة أحدهما.
والأسرة كجماعة تربوية صغيرة لها تاريخ طبيعي يمكن معرفته واستشراف مستقبله ولها مراحل ترتبط بالتغير المستمر في حجمها ووظائفها وأدوار أعضائها والسن التي تبدأ عندها وعدد الأبناء وغيرها من الظواهر والعلاقات التي ترتبط بكل مرحلة من مراحل التغير التي تمر بها الأسرة بما تشتمل عليه من حاجات بيولوجية وشخصية وثقافية ومادية.
وإذا كانت مراحل دورة حياة الأسرة تدور حول الطفل الذي هو في مركزها فإن المرحلتين الأولي والأخيرة من دائرة حياة الأسرة تتركز حول الزوجين فقط.
ولأهمية البعد الزمني وتتابع الأدوار التربوية نفضل المتابعة التطورية في دراسة حياة الأسرة إذ تعد أفضل المداخل لدراسة التغيرات الزمنية والتفاعلية.
مرحلة الإعداد للزواج، وتشمل الاختيار والخطبة وعقد الزواج وتأثيث منزل الزوجية
فيمثل اختيار الزوجة عاملا أساسيا ومؤثرا على البناء الأسري التربوي اللاحق وينصح العلماء التربويون باختيار الزوجة الزكية المتعلمة لينة الطباع ولكن الإسلام ينصح بصفة الدينونة والتقوى والصلاح وحسن العلاقة بالله قبل غيره من الصفات إذ يرى الإسلام أن العلاقة بالله إذا صلحت عند المرأة صلح معها شأن الأسرة صلاحا كبيرا واستطاعت المرأة أن تربي جيلا خلوقا تقيا صالحا نقي النفس، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم ناصحًا الشباب المقدمين على الزواج: «...فاظفر بذات الدين»، وكأنه يعتبر المرأة ذات الدين ظفرا وكسبا نادرا لا بد أن يستمسك به المرء.
ويعتبر الاختيار الناجح خطوة للخطبة الناجحة التي فيها يتم طلب الزواج من ولي المرأة ويتم الاستعداد للزواج والاتفاق على شئونه.
وينصح الإسلام بعدم المبالغة في المهور ليتيسر على الشباب أمر الزواج ولكيلا تنتشر الفاحشة في المجتمع بل قد ثبت عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أنه قد زوج امرأة بأقل القليل من المهر، وزوج أخرى بسورتين من القرآن وقال لخاطب آخر: «التمس ولو خاتما من حديد».
وفي الوقت الذي تجد أن دورة حياة الأسرة في المجتمعات الغربية تبدأ بعقد الزواج الرسمي بعدما يقضي الرجل والمرأة فترة معرفة وصداقة وطيدة فإن الإسلام جعل فترة الخطبة فترة لا يحل فيها من المرأة شيء للرجل بعدما يحصل بينهما القبول، ولكن تعد تلك الفترة فترة إعداد كما سبق في المجتمعات الإسلامية.
ويلاحظ أن فترة المعرفة والصداقة في المجتمعات الغربية التي حرمها الإسلام قبل الزواج تتسبب في كثير من المثالب والمشكلات المجتمعية إذ يستغني الكثير منهم بتلك المعرفة عن الزواج وتنتشر الرذيلة في المجتمعات التي بلغت حدا أعلنت عنه مراكز دراسات فرنسية أن 40% من الأطفال المولودين في عام 2007 هم من الأطفال غير الشرعيين.
وينصح الإسلام بالاقتصاد والتقليل في تأسيس بيت الزوجية وعدم المبالغة في الأثاث وثمنه ما ييسر عملية الزواج على الشباب، وللأسف فإن المتابعات البحثية الدقيقة قد أثبتت أن التكاليف الزواج في الدول الإسلامية عموما والعربية خصوصا تفوق تكاليف الزواج في الدول الغربية برغم النصائح المتكررة من النبي صلى الله عليه وسلم مثال قوله: «إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها».
المرحلة الثانية، بدء الحياة الزوجية ولا يوجد أطفال
إن هذه المرحلة هي بداية الأسرة بالفعل وهي تشمل حياة الزوجين معًا وإيجاد البيئة المناسبة للحياة وتكيف كل منهما مع الآخر والمرور بتجارب جديدة ونشأة اتجاهات جديدة للشريكين بعضهما نحو بعض ونحو المجتمع وتعود كل من الرجل والمرأة على عادات تقوم بينهما.
وفي حين تكون هذه المرحلة مرحلة سلبية في المجتمعات الغربية وتحصل فيها كثير من حالات الانفصال نتيجة سوء التكيف بين الزوجين فإن هذه المرحلة تعد عند الزوجين المسلمين من أجمل مراحل الزواج وقد أوصى نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فيها أو في غيرها للرجل بالصبر على المرأة والنظر إلى محاسنها وغض الطرف عن صفاتها السيئة إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقًا رضي منها آخر»، فهو يوصي الزوج ألا يفارق زوجته بسبب صفة يكرهها وإنما يصبر وينظر لصفاتها التي يحبها.
وكذلك أوصى المرأة بطاعة زوجها بالصبر عليه وحفظه في مالها ونفسها إذ يصف النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الصالحة بقوله: «... إذا نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله». ويجب على الزوج في تلك المرحلة أن يضع بمشاركة زوجته وبالتفاهم معها المبادئ والقيم الأساسية التي سينبني عليها مستقبل أسرته ويرسم معها الشكل المثالي المأمول لأسرته في حاضرها ومستقبله، وكثير من المشكلات الزواجية إنما تنشأ بين الزوجين لتغافلهما عن هذه الخطوة في هذه المرحلة بالذات.
المرحلة الثالثة، الزوجان بطفل واحد أكثر دون سن الدراسة
هذه المرحلة تتحقق فيها الأسرة بالشكل المتكامل لها حيث يوجد الأبناء وهي تربط الشريكين بذلك الرباط الحيوي من أطفالهما الذين هم ثمرة الاتحاد الجنسي بينهما فتنشأ عنها عواطف جديدة يمكن أن تقوي العواطف الأولي كما يمكن أن تحل بدلا من العواطف الأولي فتجئ باهتمامات جديدة ومسئوليات جديدة. وفي هذه المرحلة تبدأ الزوجة بممارسة دور الأم ويبدأ الزوج بممارسة دور الأب ويجب في هذه المرحل عليهما أن يتفهما بجلاء الدور المطلوب منهما كل على حدة وهو في هذه المرحلة دور يغلب عليه العاطفة تجاه الأبناء والرحمة بهم والشفقة عليهم والصبر على تربيتهم وحاجاتهم.
وتبرز في المجتمعات الغربية شكاوى كثيرة من عدم استطاعة الزوجة القيام بدور الأم قياما مناسبا إذ تفشل الكثير منهن في تمثيل عاطفة الأمومة تجاه أبناءها فتحكي لنا المواقف المختلفة عن هروب الكثير من النساء وترك أبناءهن للزوج بعد فشلها بالقيام بدورها كأم.
وفي المجتمعات الإسلامية تمثل تلك المرحلة مرحلة خصبة للسعادة الأسرية على مستوى تبادل المشاعر مع الأبناء والشعور بالعطاء تجاههم ما يجعل كثيرًا من الأسر ينشغلون بالتخطيط بما يمكن أن يكون بعد نمو الأولاد ورشدهم.
وينصح المتخصصون في هذه المرحلة الآباء والأمهات بالدراسة التربوية المركزة والمتعمقة والتي تشمل معرفة طبيعة شخصية الأطفال وحاجاتهم ومتطلباتهم وكيفية توجيههم والاستفادة من التعامل معهم في تنمية ذكائهم وخبراتهم تدريجيا وحل مشكلاتهم التي تنشأ أثناء نموهم.
المرحلة الرابعة، الزوجان وجميع الأطفال في المدارس
في هذه المرحلة تبدأ اهتمامات الأسرة في التغير ويصبح تعليم الأبناء هو الشغل الشاغل للآباء كما يبدأ البيت في إلقاء جانب من المسئولية على المدرسة.
والحق أنه يجب أن يكون هناك تنسيق وتكامل بين دور الأسرة ودور المدرسة في بناء شخصية الأبناء كما يلزم أن يكون هناك تواصل بين القائمين بالعملية التعليمية والتربوية في المدرسة سواء المعلمين أو الأخصائيين الاجتماعيين وغيرهم. وهذا التواصل ينبغي أن يكون بينهم وبين الوالدين بشكل دوري متقارب ليطلع الوالدان على مراحل التطور الحاصلة في المدرسة ويطلع المربون على ما خفي عنهم فيما يحصل في البيت.
وفي حين يؤكد المجتمع الغربي المعاصر في هذه المرحلة تنشئة الطفل على الحرية والاستقلالية والتأثير ويؤكد على معاني العلم التطبيقي فإنا نلحظ في هذه المرحلة تأخرًا واضحًا في كثيرٍ من المجتمعات العربية سواء في القدرة الأسرية على بناء الشخصية المتميزة والمنتجة أو القدرة على إخراج نماذج قائمة بذاتها بصورة إيجابية.
والموروث الإسلامي يوجه في هذه المرحلة نحو عدة أمور هامة منها، التأكيد على التنشئة الإيمانية للأبناء، وربطهم بربهم سبحانه على معاني المراقبة لربهم سبحانه، والصدق الكامل، والإخلاص في العمل لله سبحانه، والوضوح والتلقائية والشفافية والنقاء القلبي للمرء تجاه الناس أجمعين، ومحبة الخير للغير، والمسارعة بالنفع لهم والسير في خدمتهم ومصلحتهم، والتأكيد على حسن اختيار الصحبة الصالحة النافعة، والقدرة على السيطرة على النفس أمام الشهوات.
كذلك ينبغي اهتمام الوالدين في هذه المرحلة بالتوازن بين الأمور التي قد تتعارض مفاهيمها أو يصعب فيما بعد التوفيق بينها، مثال التوازن بين طلب الوالدين الطاعة من الأبناء وتربيتهم على حرية القرار، والتوازن بين التشبه بالوالدين في أخلاقهم الحسنة من جهة واستقلالية الشخصية من جهة أخرى، والتوازن بين الحكمة في التفكير والسلوك وبين الحماس والحمية في المراحل العمرية المختلفة، وغيرها من الأمور.
المرحلة الخامسة، الزوجان والأبناء بعد مرحلة البلوغ وسن المراهقة
في هذه المرحلة تبدأ شخصيات الأبناء في الاستقلالية ومحاولة إثبات الذات وتتذبذب سلطة الآباء على الأبناء وتزداد تأثيرات العلاقات الثنائية بين الذكور والإناث وتبرز الصفات الشخصية التي تميز كل واحد من الأبناء عن الآخر وتبدي قدراته الخاصة على التفرد بصفة مؤثرة.
ويتمتع الذكور في هذه المرحلة بقدر كبير من الحرية بينما تكون مراقبة البنات ومتابعتهن هي الصفة الغالبة في المجتمعات العربية في هذه المرحلة.
المجتمعات الغربية تختلف اختلافا تاما في هذه المرحلة عن المجتمعات العربية خصوصا في مدى الحرية المعطاة للبنات في علاقتهن بالجنس الآخر ما ينتج عنه كثير من المشكلات الاجتماعية والأخلاقية وكثرة حالات الحمل غير الشرعي وكثرة حالات الانتحار؛ لأسباب ناتجة عن تلك الحرية الغير مقننة والإسلام قد قنن الحرية المعطاة للفتاة في تلك المرحلة؛ فمن جهة أكد على بناء شخصيتها القوية الزكية الفعالة المؤمنة، ومن جهة أخرى حماها من تعدي الآخرين عليها وأمرها بالعفة والوقار والحجاب ولم يمنع الإسلام الفتاة في تلك المرحلة أن تمارس حياتها ودورها الفعال في المجتمعات النسائية وبين الأقارب والمحارم والصديقات وفي المؤسسات المختلفة ممارسة مؤثرة وبناءة ما دامت تحرص على الخلق والسلوك المقنن. وبخصوص الذكور فإن المجتمعات الغربية تسمح للأبناء متى ما بلغوا الثمانية عشر عاما بالانفصال عن ذويهم والدخول في عيشة مستقلة بعيدة عنهم؛ وفي هذا آثار سلبية وأخرى إيجابية فإيجابيتها أن يتحمل الأبناء مسئوليتهم المستقلة ويبدؤون في بناء مستقبلهم المأمول والسعي إلى طموحهم المرجُوّ؛ وأما الآثار السلبية فهو ذاك التقطع الحاصل بين أوصال الأسرة الواحدة وفقدان الأسرة لتكاملها وجودها الأسري وتراجع دور الأسرة تراجعا كبيرا في المجتمعات الغربية ابتداء من هذه السن وكثرة انتشار العلاقات المشينة بين الجنسين، وظهور علاقات الشذوذ وانحراف مثير من الأبناء وفقدانهم الموجه والمعلم واكتفاء كثير منهم بالتعليم المتوسط وعدم رغبتهم في إكمال تعليمهم العالي وما بعده.
والإسلام يوجه في تلك المرحلة إلى مراقبة الأبناء مراقبة بعيدة ولكنها دقيقة ويشعرهم باستقلاليتهم الذاتية ويدفعهم نحو الإنتاج والإيجابية والاعتماد على النفس ومحاولة النفع لأمتهم ودينهم ومجتمعهم ويأمر بتقنين سلوكهم نحو الخلق الإسلامي الرفيع وتعليمهم العلوم الشرعية النافعة وتأديبهم بالأخلاق الإسلامية الخلوقة وتعليمهم وتدريبهم على السيطرة على شهواتهم وخصوصا شهواتهم الجنسية تجاه الجنس الآخر، وإشغالهم بالنافع المقيد وإبعادهم عن اللهو والعبث.
قد يبدو في هذه المرحلة ما يسمى بصراع الأجيال وهي ظاهرة تنتج من تأثير الوسائل الإعلامية الحديثة والتي كثيرا ما تكون مستوردة من الغرب، وتتفاعل تلك الوسائل مع شخصية المراهق الراغبة بطبيعتها في التميز والظهور فيبدأ الأبناء في التعبير عن عدم قناعتهم بفكر الآباء وعاداتهم وطموحاتهم وقيمهم ويحاولون التملص من العادات المجتمعية والأعراف الأسرية والأخلاق الدينية ما يحتاج معه المربون والآباء إلى اتخاذ كثير من التدابير التربوية لهذا الشأن.
المرحلة السادسة، الزوجان والأولاد في مرحلة الشباب والاستعداد للزواج
إذا كانت دورة حياة الأسرة في المجتمعات الغربية تنتهي في اللحظة التي يبلغ فيها الأبناء مبلغ الكبار ويغادرون بيت الأسرة ليستقلوا عن سلطة الوالدين فإننا نجد أن مسئولية الآباء تجاه أبنائهم تستمر في الأسر العربية حتى سن زواج الأبناء وتتعدى بالنسبة للإناث حتى بعد الزواج بل إن مسئولية الأجداد وارتباطهم بالأحفاد واضحة جدًا في غالب البلدان العربية.
ولا تمر كل الأسر بكل هذه المراحل لأن بعض الأسر قد تنتهي مسيرتها بسبب الموت أو الطلاق كما تختلف طول كل مرحلة مع تغير الظروف المجتمعية والشخصية لأفراد الأسرة.
.